عثمان الحكيمي

عثمان الحكيمي / لا ميديا -
منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لحظة انطلاق عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها فصائل المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حركة حماس، دخلت منطقة "الشرق الأوسط" طوراً استثنائياً من التحوّلات الاستراتيجية. فقد شكّلت تلك العملية نقلة نوعية في تاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني، بعد أن أحدثت اختراقاً عسكرياً غير مسبوق، وكشفت حجم التآكل في المنظومة الاستخباراتية والأمنية "الإسرائيلية"، بل وأربكت العمق الاستخباري والعسكري والسياسي للكيان. غير أن ردّ الكيان الصهيوني جاء عدوانياً بلا ضوابط، متجاوزاً القانون والحدود. فارتكب المجازر في غزة، وتجاوز كل الخطوط الحمراء في لبنان، واحتل مناطق في الأراضي السورية، وفي نهاية المطاف وسّع نطاق استهدافه ليطال العمق الإيراني.
ففي فجر يوم الجمعة، 13 حزيران/ يونيو 2025، أطلق الكيان الصهيوني عدوانه الأكثر جرأة وتصعيداً ضد إيران، عبر عملية عسكرية واسعة النطاق تحت اسم "الأسد الصاعد"، ما أثار صدمة عميقة في الأوساط الإقليمية والدولية، وفتح أبواباً خطيرة من التساؤلات حول مدى تأثير هذا العدوان وتداعياته الاستراتيجية التي وضعت العالم على أعتاب سيناريوهات مواجهة مستقبلية؛ إذ لم يكن بالإمكان التنبؤ بنتائجها. ورغم التوصّل إلى وقفٍ لإطلاق النار بين الكيان الصهيوني وإيران، فإن ملامح المرحلة القادمة لا تزال ضبابية، وجميع السيناريوهات تبقى مفتوحة على مصاريعها.

المواجهة العسكرية بين "إسرائيل" وإيران
جاء العدوان "الإسرائيلي" على إيران في سياق بالغ الحساسية، تزامناً مع مسار تفاوضي غير مباشر بين طهران وواشنطن، ما يعكس قراراً استراتيجياً مدروساً من قبل صانع القرار "الإسرائيلي"، لكسر قواعد الاشتباك التقليدية وفرض معادلات جديدة بالقوة.
ففي 13 حزيران/ يونيو 2025، شنّت قوات الاحتلال، بالتنسيق مع جهاز "الموساد"، عملية جوية مكثفة استهدفت بنى تحتية عسكرية ومنشآت نووية ومراكز قيادية وشخصيات عسكرية داخل العمق الإيراني، تحت ذريعة وقف ما وصفته "إسرائيل" بـ"التقدم النووي المتسارع". غير أن الرد الإيراني، المتمثل في إطلاق عملية "الوعد الصادق 3"، حمل دلالات استراتيجية بالغة العمق؛ إذ شكّل تحوّلاً نوعياً في نمط الردع الإقليمي. فطهران لم تكتفِ بامتصاص الضربة، بل بادرت بردٍّ موازٍ من حيث الكثافة والدقة، استهدفت فيه مراكز عسكرية واستخباراتية "إسرائيلية".
لقد كشفت هذه المواجهة الثنائية عن ندرة استثنائية في الحروب الحديثة، تقاطع المفاجأة في الهجوم والدفاع، بما يعكس ديناميكية أمنية جديدة في الإقليم، ويؤشر إلى تحوّلات جذرية في توازنات الردع الاستراتيجي.

من التنسيق إلى التنفيذ
منذ بداية العملية العسكرية للكيان الصهيوني ضد إيران، برزت تساؤلات جوهرية تتعلق بالدور الأمريكي في هذا التصعيد، سواء من حيث مستوى التنسيق المسبق بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، أو من حيث المساهمة الأمريكية المحتملة في الجوانب التقنية والاستخباراتية والعسكرية. وتشير الأدلة المتاحة، بما في ذلك تصريحات عدد من المسؤولين الأمريكيين، إلى أن الإدارة الأمريكية كانت على علم مسبق بالعملية، رغم نفيها الرسمي المشاركةَ المباشرة. وجميع التصريحات الأمريكية، في سياقها السياسي والأمني، لم تكن سوى مؤشّر إلى نوعٍ من التواطؤ الأمريكي لا يرقى إلى حدّ الاعتراف العلني؛ لكنه يحمل دلالات واضحة على وجود تنسيقٍ ضمني.
وفي تطور لافت، أعلن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في 22 حزيران/ يونيو، تنفيذ ضربات جوية أمريكية استهدفت 3 منشآت نووية إيرانية، وهي "فوردو" و"نطنز" و"أصفهان"، مستخدمةً قاذفات (B-2) الشبحية. وقد شكّل هذا الإعلان تحوّلاً استراتيجياً في طبيعة المواجهة، من دعم غير مباشر إلى انخراط مباشر في الأعمال العسكرية. وعليه، فإن المؤشرات السابقة تؤكد أن العدوان الصهيوني ما كان ليقع لولا وجود ضوء أخضر أمريكي، سواء بشكل صريح أو ضمني. ورداً على الضربة، أعلن الحرس الثوري الإيراني، فجر الأحد، إطلاق "طائرات مسيّرة انتحارية" على أهداف تابعة للكيان الصهيوني.
وفي هذا السياق، تشير التقارير والتصريحات الإيرانية إلى أن الضربات الأمريكية لم تكن مدمرة بالكامل للبرنامج النووي الإيراني، بل أدّت فقط إلى تأخير تطويره، ولم تُلحق أضراراً بالغة بالمكونات الأساسية. وهذا ما يُفسّر قدرة إيران على التكيّف والتقليل من تأثير الهجوم. وهنا يمكن القول إن الرد الإيراني كان متوقعاً، وقد تضمن تصريحات حازمة وتهديدات بردّ عسكري، مع تحذيرات باستهداف قواعد أمريكية في المنطقة؛ لكنه في الوقت نفسه لم يتطور إلى مواجهة عسكرية شاملة.
من الناحية الاستراتيجية، يبدو أن إيران اختارت رداً مدروساً؛ لكنه يحمل دلالات عميقة؛ إذ إن استهداف قاعدة "العديد" الأمريكية في قطر يُعدّ، من وجهة نظر العديد من المحللين، رداً مناسباً يهدف إلى الحفاظ على التوازن الإقليمي، وتجنّب الانزلاق إلى حربٍ مفتوحة.

موقف باهت في زمن المواجهة.. أين موسكو وبكين من دعم طهران؟
يُعد موقف روسيا والصين في دعم إيران خلال المواجهة مع "إسرائيل" موقفاً ضعيفاً وغير فعال، ويثير الكثير من التساؤلات حول مدى التزامهما الحقيقي بحلفائهما. فبينما تحظى "إسرائيل" بدعم أمريكي وغربي قوي ومباشر، يكتفي الحليفان التقليديان لإيران (روسيا والصين) باتباع سياسة عدم التصعيد، متجنبين تقديم دعم ملموس لإيران في مواجهة تهديدات وجودية. هذا الموقف يعكس تناقضاً واضحاً في استراتيجياتهما الإقليمية، حيث يفضلان حماية مصالحهما الاقتصادية والسياسية على حساب دعم حليف مهم في المنطقة.

محطة مؤقتة في صراع طويل الأمد
رغم إعلان وقف إطلاق النار بين إيران والكيان الصهيوني؛ إلا أن غياب إطار واضح وآلية تنفيذية يجعل من هذه الهدنة محطة مؤقتة في صراع قابل للاشتعال في أي لحظة. فالمسببات الجوهرية للتصعيد لا تزال قائمة، وعلى رأسها شعور طهران بتهديد وجودي يدفعها إلى تعزيز قدراتها الاستراتيجية، في مقابل موقف "إسرائيلي" متوجس يسعى إلى تقويض خصمه الإقليمي.
كما أن تعليق التعاون الإيراني مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية يعكس انسداد المسارات الدبلوماسية واستمرار الضغط الخارجي. وفي هذا السياق، لا تبدو خيارات طهران مفتوحة، بل يُفرض عليها البقاء في حالة تأهب مستمرة. أما الهدنة، فرغم أهميتها الآنية، تبقى هشة في ظل التصريحات والتهديدات "الإسرائيلية" والأمريكية المتكررة.

احتمالات الانفجار القادمبين طهران و"تل أبيب"
إذا ما اندلعت مواجهة جديدة بين إيران والكيان الصهيوني، فمن المرجح أن تكون أكثر عنفاً واتساعاً من سابقتها. فطهران، التي امتصّت عنصر المفاجأة في العدوان الأخير، باتت اليوم أكثر يقظة واستعداداً، ويُتوقع أن تُوجّه ضربات موجعة ومباشرة للعمق "الإسرائيلي". وفي المقابل، تدرك "إسرائيل" أن تكرار المواجهة يتطلب تكتيكاً مختلفاً، وقد تسعى هذه المرة لاستهداف مراكز القيادة السياسية ومحاولة زعزعة الداخل الإيراني.
إيران، خلال السنوات الماضية، رسخت عقيدة "الدفاع المتقدم"، وأقامت استراتيجيتها على إدراك الفجوة التكنولوجية بينها وبين خصمها، فتبنّت مقاربة واقعية تقوم على الدقة وتحديد الأهداف وإحكام طوق النار. وإذا ما وجدت نفسها في المستقبل أمام حرب لا يمكن تجنّبها، وبلغت مرحلة "لا شيء لتخسره"، فقد تتحوّل إلى نمط هجومي مفتوح يُعرف بـ"نشر الحريق"، ما يعني أن الصراع سيتجاوز حدود الضبط السياسي والعسكري.
الرسالة الإيرانية في الجولة السابقة كانت واضحة: فقدان الطوق الناري حول "إسرائيل" لا يعني عدم القدرة على خوض مواجهة مباشرة. وإذا فُرضت المعركة، فلن تكون منخفضة التكلفة، لا لطهران ولا لـ"تل أبيب"؛ ولكن الخسائر "الإسرائيلية" ستكون بالتأكيد باهظة.

أترك تعليقاً

التعليقات