عثمان الحكيمي

عثمان الحكيـمي / لا ميديا -
تحت الأرض، في الممرات التي لا تضيئها إلا المصابيح المائلة إلى الاصفرار، تُصان "الوصفات" القديمة كوثائق مقدّسة؛ فـ"الوصفات" لا تُتلف ولا تُمحى، بل تُحفظ في الظل، بانتظار اللحظة المناسبة لإعادة تدويرها، فتُزرع في جغرافيا جديدة كلما حان وقت ترويض منطقة ما. التاريخ شاهدٌ صامت، والماضي ليس ببعيد؛ ففي التسعينيات، طُبخت "وصفة البلقان" على نار هادئة، حيث تم في البوسنة وكوسوفو تفكيك الفصائل المسلحة وتحويل بنادق المقاتلين إلى خردة، مقابل سلامٍ هشٍّ باردٍ كالموت، تديره قوات أجنبية وحاكم دولي. اليوم، يُنفض الغبار عن تلك الوصفة ذاتها، وتُقدَّم الآن على مذابح غزة، ليس كحلٍّ، بل كاستنساخ. إنه "المخطط الأولي" نفسه يُعاد تدويره؛ المعادلة الأبدية ذاتها التي تُهمس في أذن الضحية المنهكة: "اتركوا لنا حريتكم وسلاحكم، وسنترك لكم أنفاسكم".
احفظوا هذه المصطلحات جيداً: "نزع السلاح"، "قوات دولية"، "إدارة مدنية مؤقتة"، "منطقة عازلة". لقد سئمتم سماعها اليوم في سياق غزة؛ لكنكم ستسمعونها غداً في أماكن أخرى لم تتخيلوها. المستقبل ليس غامضاً، بل هو واضح بشكل مؤلم؛ فالنموذج الذي يُطبق في غزة اليوم سيكتسح المنطقة، ولن يترك خلفه إلا شعوباً منهكة، شاكرةً لمن سمح لها بالعيش، وناسيةً أنها كانت يوماً تملك حق المقاومة.

المنقذ والجلاد
كل نبضٍ فينا يصرخ رافضاً استمرار هذه المذبحة ولو لرمشة عين، ولا أحد يتمنى جرحاً إضافياً في جسد غزة الذي لم يعد فيه متسعٌ لجرحٍ جديد. لكن مهلاً؛ أليس غريباً هذا الصمت الذي خيّم كالموت على عواصم عربية وإسلامية طيلة عامين من القتل، بينما كان الكيان الصهيوني يرتكب جريمته برعاية حليفه الأمريكي؟! صمتٌ مطبقٌ لم يقطعه اليوم سوى ضجيج التصفيق والهرولة لمباركة "خطة المنقذ ترامب".
فجأةً، استيقظ ضمير العالم العربي والإسلامي! وهرولت الأنظمة، التي عجزت عن إدخال رغيف خبز، لتبارك "سلاماً" يُطبخ على رائحة أشلاء الشهداء! فبعد أن تحولت غزة إلى مقبرة كبرى، وابتلعت الأرض أجساد شهدائها الطاهرة، يأتون اليوم ليصفقوا للحل الذي قدمه الراعي نفسه الذي كان يبارك القتل، بل وهدد بفتح أبواب الجحيم إن لم تُقبل "مبادرته".
إن من يقرأ التاريخ يدرك أن الزمن لا يدور في حلقة مفرغة؛ لكن الحمقى لا يفهمون أن الخطط الأكثر شراً تعود دائماً بوجهٍ مختلف، كالأشباح التي لا تجد طريقها إلى الراحة. ومن سخرية القدر، فإن مهندس هذه الخطة، دونالد ترامب، عاد كسيارة إطفاء تصل بعد أن التهم الحريق كل شيء، ليلتقط الصور بجانب الرماد. وخلفه يقف نتنياهو مبتسماً للكاميرا وهو يبارك الخطة، بينما يعرف في سرّه أن نجاحها هو نهاية "لعبة الدم" التي يتغذى عليها في غزة، لكنه يدرك أيضاً أنها ستحقق له استراتيجياً ما عجزت عنه حروبه: "شرق أوسط جديد"، بلا مقاومة.

قيامة الكرامة
قبل تشريح الخطر القادم، هناك حقيقةٌ واحدة يجب أن تُقال أولاً؛ حقيقةٌ كُتبت بالدم والنار. فلننحنِ، ليس احتراماً، بل خشوعاً، أمام ما جرى. هنا، على هذه الرقعة من الجحيم، لم يقاتل رجالٌ جيشاً، بل قاتلت ثُلّة من الأبطال أعتى شياطين الأرض مجتمعة. بأسلحة بدائية وعزيمة من فولاذ، وقفوا في وجه آلة حربٍ تغذّيها مصانع الغرب، وتحميها مظلة الشيطان الأمريكي، وتتفرج عليها عيون الموتى من أمة المليار. لقد قاتلوا قتال المستحيل، وأثبتوا أن إرادة الإنسان يمكن أن تهزم الجبروت. خرجوا من رحم الأرض كغضبٍ إلهي، لا ليدافعوا، بل ليُعلّموا العالم كيف تكون الرجال. حوّلوا كل شبرٍ من أرضهم إلى جحيمٍ تحت أقدام الغزاة، وصنعوا من أنفاقهم أساطير سترويها الجدات لألف عام. لقد قاتلوا وصمدوا حتى استغاث الصبر من صبرهم. لم تكن حرباً، بل كانت قيامةً مصغّرة، بركاناً من الكرامة انفجر في وجه عالمٍ منافق، ليثبت أن ثُلّةً من الرجال المؤمنين بقضيتهم، أقوى من كل جيوش الأرض مجتمعة.

مندوب المبيعات.. والزبون القادم
وهنا، من قلب هذه الملحمة، يولد الخطر الأكبر؛ الخطر الذي لا يراه إلا من يقرأ المستقبل في رماد الحاضر. فبينما كان رجال غزة يقدمون موفقاً أسطورياً "الموت واقفاً"، كانت أنظمة أخرى تحجز مقاعد في الصف الأول، ليس لمشاهدة البطولة الفلسطينية، بل لانتظار "صفقة ما بعد الكارثة". فالخزي لأنظمةٍ لم تتعلم من تضحية الأحرار شيئاً، سوى كيفية التصفيق للجلاد.
فلتكن المنطقة -إذن- على أهبة الاستعداد لاستقبال "مندوب المبيعات" الدولي. سيصل قريباً، حاملاً حقيبتين: في اليمنى رغيف خبز، وفي اليسرى "نموذج غزة". وستكون الصفقة بسيطة: "هل تريدون أن تأكلوا؟! وقّعوا هنا ليصبح سلاحكم مجرد ذكرى في متحف الحرب". فإذا نجح "بروتوكول غزة" هذا، فلن يبقى مجرد خطة، بل سيصبح "النموذج" المعتمد الذي ينتظر دوره ليُفرض على الآخرين في المنطقة. فلا يظنّنَّ أحدٌ أن "مبادرة ترامب" وصفة ستُدفن في رمال غزة، بل هي "الفيروس الأولي" الذي يُجرّب اليوم في مختبر الدم الفلسطيني، ليُطلق غداً في أجسادٍ أخرى، فهل تدرك أنها القرابين القادمة؟! إن نجاحه يعني أن العدوى ستنتشر حتماً، وسنرى المسرحية نفسها تُعرض على خشبات أخرى بوجوهٍ مختلفة. في الأرض التي تُطلّ على المتوسط من الشرق، حيث تُطبخ بالفعل "حدائق اقتصادية موعودة" ستُموّل بمالٍ خليجي، مقابل أن يُلقي من حمل السلاح سلاحه ويتحول إلى بستانيٍ في أرضه. وحيث يلتقي دجلة والفرات، همست العواصم الكبرى: "إما أن تُحلّوا ما لديكم، وإما أن نحلّها نحن بالنار"، وعند الممر المائي الذي يربط البحار، يُحاصر أبناؤه بالنار من السماء لإجبارهم على التخلي عن ذلك الممر الذي أصبح عقدةً في حلق الإمبراطوريات. أما أرض الياسمين فقد ذهبت؛ فمناطق عازلة هنا، وصاية دولية هناك، وتقسيمٌ يُطبخ على نار هادئة. وكل هذا تبقى منطقة المعابر والجسور تراقب ما يُحاك لها بعد إعادة العقوبات. حتى آخر ما تبقى من فلسطين، يقف في الطابور، ينتظر أن يُنادى اسمه. إنها ليست مجرد خطة لغزة، بل هي "البروفة الكبرى" لإعادة رسم خريطة المنطقة بأكملها، قطعةً قطعة، حتى لا يبقى فيها أي جيبٍ للمقاومة، أي نبضٍ للكرامة، أي ذاكرةٍ للشرف.
هذا هو النصر النهائي الذي يحلم به مهندسو هذا "السلام" الشيطاني: ليس مجرد "شرق أوسط" بلا مقاومة، بل "شرق أوسط" بلا رجال، وبلا شرف، وبلا ذاكرة... "شرق أوسط" ميت، يصلح فقط لأن يكون حديقة خلفية تدين بالولاء لمن سمح لها بالبقاء، لا لمن ضحى من أجلها.

أترك تعليقاً

التعليقات