عثمان الحكيمي

عثمان الحكيمي / لا ميديا -
في خضم التوترات المتفاقمة بين إيران وخصومها الدوليين والإقليميين، جاء العدوان الصهيوني-الأمريكي على طهران كاشفاً عن تصدعات عميقة بين الخطاب الداعم نظرياً من حلفاء إيران، والواقع العملي الذي خذلها في لحظة مفصلية. لقد سلّط هذا العدوان الضوء على غياب الدعم الفعلي من الحليفين الاستراتيجيين: الصين وروسيا، اللذين، رغم ما تجمعهما مع طهران من اتفاقيات وتحالفات استراتيجية، فضّلا كبح مواقفهما والانصياع لمنطق المصلحة والحذر على حساب منطق التحالف الصلب.
احتدمت المواجهة في «الشرق الأوسط»، وإيران تتوسط المشهد كنقطة ارتكاز في صراع المحاور. ومع انطلاق العدوان «الإسرائيلي» الأخير، الذي امتد لاثني عشر يوماً، علت المخاوف من تفجّر حرب شاملة، وتوجّهت الأنظار نحو بكين وموسكو بحثاً عن موقف حازم يُوازي مستوى الشراكة المعلنة، إلا أن ما ظهر على السطح كان بروداً استراتيجياً وتردداً سياسياً، لا يرقى إلى موقف الحليف في زمن الشدة.
الحرب أزاحت الغطاء عن حقيقة مُرّة، مفادها أن الصين وروسيا تنظران إلى إيران من زاوية المصالح العابرة للمنطقة، لا من زاوية الالتزام بتحالف عضوي ومستدام، وشريك ينبغي دعمه حين يشتد الخطر. فكل خطوة من قبلهما كانت محسوبة بدقة، لا وفق مصلحة إيران، بل ضمن حسابات معقدة تمتد من أوكرانيا إلى بحر الصين الجنوبي، مروراً بسوق الطاقة العالمي.
في هذا المقال، نُمعن النظر في هذه اللحظة الحرجة التي تُركت فيها طهران وحدها في ساحة المواجهة، ونُحلل حدود الدعم الروسي والصيني، والمصالح العميقة التي كبحت موقف الحليفين، في عالم على حافة تحوّلات جيواستراتيجية قد تعيد رسم خرائط التحالف والنفوذ.

• الصين بين مصالح الطاقة واستراتيجيات الردع.. تحالف هش في قلب الأزمة
منذ توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين إيران والصين عام 2022، بدا أن بكين تمهّد الطريق لتحالف يتجاوز الأزمات الظرفية مع طهران. غير أن أحداث العدوان الصهيوني الأخير على إيران عرّت الواقع من الزخارف الدبلوماسية. فهل كانت الصين مستعدة حقاً للدفاع عن شريكتها الجديدة في وجه العاصفة؟ أم أن منطق المصلحة البراغماتية ظلّ البوصلة الوحيدة في حسابات بكين؟
في كل خطوة اتخذتها الصين، كان واضحاً أن استقرار «الشرق الأوسط» لم يعد مجرد شعار، بل ضرورة وجودية لدولة تستورد أكثر من نصف احتياجاتها النفطية من ضفّتي الخليج (إيران والسعودية). فهل كانت بكين تخشى اندلاع حرب شاملة تهدد أمن الطاقة العالمي؟ أم أن هناك أسباباً أعمق تدفعها إلى الحياد الحذر؟
المفارقة أن العلاقة بين الصين وإيران، رغم التقدم الاقتصادي والتعاون المتزايد بينهما، لم ترتقِ بعد إلى مستوى الثقة الاستراتيجية كالتي تجمع بكين بباكستان. فالعلاقة الصينية - الباكستانية مبنية على تاريخ طويل من التعاون العسكري، وعداء مشترك للهند، خاصة على الحدود في جبال الهملايا وهضبة التبت، حيث جعلت الصين تحالفها مع باكستان وسيلتها للضغط على الهند. كما أن جزءاً من إقليم كشمير، المقسّم بين الهند وباكستان، يخضع للسيطرة الصينية، ما يعمق هذا التحالف الإقليمي.
في المقابل، هل تجرؤ الصين على المخاطرة بمصالحها الكبرى من أجل إيران؟ أم أن شراكتها مع طهران ستظل رهينة لحسابات باردة؟
يرى العديد من المحللين أن أي ضربة عسكرية أمريكية شاملة ضد إيران قد تتحول إلى مستنقع جديد للولايات المتحدة في «الشرق الأوسط»، ما يصب مباشرة في مصلحة الصين؛ إذ إن استنزاف واشنطن في صراعات طويلة يمنح بكين فرصة ثمينة لتعزيز وجودها في بحر الصين الجنوبي وقضية تايوان، بعيداً عن الضغوط الأمريكية المستمرة. لكن يبقى السؤال: هل ستكتفي الصين بهذا الدور التقليدي القائم على انتظار أخطاء واشنطن فقط؟ أم أن تعاظم مصالحها الاستراتيجية في المنطقة قد يفرض عليها تبني نهج أكثر فاعلية وتحركاً في «الشرق الأوسط»؟
في الواقع، تتجاذب صُنّاع القرار في بكين رؤيتان متعارضتان: الأولى تُركّز على الاستفادة من كل أزمة أمريكية في «الشرق الأوسط» لإشغال واشنطن وإضعافها، كما حدث بعد هجمات 11 سبتمبر، حيث رأى بعض قادة الحزب الشيوعي الصيني أن أسامة بن لادن قدّم أعظم خدمة للصين حين شغل أمريكا عن آسيا لعقدين كاملين؛ أما الرؤية الثانية فترى أن الظروف قد تغيرت، فالصين اليوم تعتمد على الخليج -وخاصة إيران والسعودية- لتأمين ما يقارب نصف احتياجاتها من النفط، وقد أجرت في السابق مناورات بحرية في خليج عُمان، ما يؤكد أن مصالحها في المنطقة باتت أكثر تعقيداً وتشابكاً من أي وقت مضى.
لذلك، لم يعد من المجدي أن تكتفي بكين بمراقبة تحركات واشنطن وأخطائها، بل بات من الضروري أن تتخذ خطوات عملية لحماية مصالحها وشركائها. وربما تكون الطريقة الأمثل لذلك هي عبر تسريب أنظمة صاروخية متطورة إلى إيران، ودعم طهران بصواريخ متطورة قادرة على ردع الهجمات الأمريكية و»الإسرائيلية»، مثل الصواريخ التي يمكنها إغراق حاملات الطائرات أو ضرب أهداف استراتيجية في «إسرائيل». هذا النوع من الدعم لا يعني بالضرورة دخولاً مباشراً في الحرب؛ ولكنه سيشكّل عامل ردع في وجه الأمريكيين و«الإسرائيليين».

عقلية القياصرة وحدود الوفاء
من قلب الجغرافيا السياسية الروسية، تبرز نظرية «النواة والغلاف» كأحد أعظم ابتكارات الفكر الاستراتيجي الروسي؛ إذ تقوم الاستراتيجية الروسية على مفهوم تعتبر فيه موسكو نفسها نواة صلبة يجب أن يحيط بها غلاف متين أمام الضغوط الغربية، خصوصاً مع استمرار توسع الناتو نحو حدودها، سواء من أوروبا الشرقية أو من الجنوب في آسيا الوسطى.
في هذا السياق، تبرز إيران كعنصر محوري ضمن الغلاف الجنوبي للأمن الروسي؛ إذ ترى موسكو أن استباحة إيران من قبل الولايات المتحدة يمثل تهديداً لتوازنها الإقليمي وخطاً أحمر لا يمكن تجاوزه بسهولة. هذه العقيدة ليست مجرد نظرية جامدة، بل منظومة ديناميكية تتحرك فيها موسكو بحذر وذكاء، تقيس كل خطوة بميزان الذهب، وتدرك أن أمنها يبدأ من أبعد نقطة في الغلاف قبل أن يصل إلى عتبات الكرملين.
احتدمت المواجهة في «الشرق الأوسط»، وإيران تتوسط المشهد كنقطة ارتكاز في صراع المحاور. 
ومع انطلاق العدوان «الإسرائيلي» على إيران، الذي امتد لاثني عشر يوماً، علت المخاوف من تفجّر حرب شاملة، وتوجّهت الأنظار نحو بكين وموسكو بحثاً عن موقف حازم يُوازي مستوى الشراكة المعلنة، إلا أن ما ظهر على السطح كان بروداً استراتيجياً وتردداً سياسياً، لا يرقى إلى موقف الحليف في زمن الشدة.

في الحقيقة، لم تكن إيران بعيدة عن هذا الإرث الاستراتيجي الروسي؛ فقد أدركت باكراً قواعد الاشتباك الكبرى، واستلهمت هذه المدرسة، فبنت حول الكيان الصهيوني طوقاً نارياً خلال العقود الماضية، ودعمت حلفاءها في لبنان وسورية والعراق واليمن وفلسطين، لتخلق شبكة مقاومة متشابكة تجعل أي تهديد مباشر لطهران مغامرة محفوفة بالنيران من كل اتجاه.
هكذا، وخلال السنوات الأخيرة، تحولت إيران إلى قلب مشتعل يحيط به هلال من اللهب، لا يتيح للكيان الصهيوني وداعميه أن يضربوا دون أن يكتووا بالنار. والأهم من ذلك أن إيران خاضت مؤخراً حرباً مباشرة مع «إسرائيل»، ما يؤكد جدية تهديدها وقدرتها على المواجهة. وهنا تتلاقى عبقرية «النواة والغلاف» الروسية مع براعة «الهلال الناري» الإيراني لتشكلا شبكة معقدة من الردع والتوازن تفرض على الخصوم إعادة حساباتهم مرات ومرات قبل التفكير في إشعال فتيل المواجهة. وهنا يمكن القول بأن العقليتين الروسية والإيرانية برعتا في ترسيخ مفهوم مفاده أن القوة وحدها هي التي تحدد قواعد اللعبة ومستقبل المنطقة بأسرها.
وبالعودة إلى الموقف الروسي تجاه العدوان على إيران، يتضح أن هذا الموقف لم يكن ضمن الحد المطلوب، بل كان أكثر تعقيداً وتقييداً، تحكمه اعتبارات استراتيجية أوسع من الملف الإيراني وحده. فروسيا لم تزود إيران بمنظومات «إس- 400» الصاروخية الدفاعية. وبصراحة يمكن القول هنا بأن المعادلة الروسية تخضع لحسابات دقيقة، أبرزها الموازنة بين دعم إيران كحليف إقليمي، وبين تجنب أي رد فعل أمريكي قد يزيد تعقيد الجبهة الأوكرانية التي تعد أولوية استراتيجية أولى للكرملين في هذه المرحلة.
ويبدو واضحاً أن أهمية إيران في الحسابات الروسية لا ترقى إلى مستوى أهمية أوكرانيا أو دول الجوار المباشر؛ فإيران ليست دولة حدودية مع روسيا، ويفصل بينهما عدد من الدول، ما يجعلها جزءاً من الغلاف الاستراتيجي الواسع، وليس من الدائرة الحيوية الأولى. لهذا السبب، ورغم الدعم السياسي والتحذيرات الروسية الصريحة لواشنطن من مغبة التصعيد ضد طهران، كان من الواضح أن موسكو لن تخاطر بمواجهة عسكرية مباشرة مع الولايات المتحدة دفاعاً عن إيران، خاصة في ظل انشغالها العميق بالحرب في أوكرانيا. ومن يراقب بعمق مسار الأحداث في «الشرق الأوسط»، يدرك جيداً أن سقوط سورية يمثل تجسيداً صارخاً لتراجع النفوذ الروسي في المنطقة. فهل يدرك حلفاء موسكو حقاً طبيعة عقلية القياصرة وحدود الوفاء التي تحكم تحركاتها؟
مما لا شك فيه أن موسكو تدرك أن أي تدخل مباشر لصالح إيران قد يدفع واشنطن إلى تصعيد الضغوط في الملف الأوكراني، سواء عبر تسليح كييف أو تشديد العقوبات، وهو ما يشكل ورقة ضغط قوية على الكرملين. لذلك، توازن روسيا بين حماية مصالحها في «الشرق الأوسط» والحفاظ على أولوياتها الاستراتيجية في أوكرانيا، ولا تتردد في التضحية بجزء من نفوذها في «الشرق الأوسط» إذا كان ذلك سيحمي مصالحها الحيوية في أوروبا الشرقية.
في النهاية، تظل العلاقة بين موسكو وطهران محكومة بحسابات دقيقة، حيث تقدم روسيا الدعم السياسي، لكنها تتجنب الانخراط في مواجهة عسكرية قد تكلفها الكثير على جبهات أكثر أهمية لمصالحها القومية. الموقف الروسي تجاه العدوان على إيران اتسم بقدر كبير من البرود والبراغماتية المفرطة، حتى بدا أقرب إلى الحسابات الباردة منه إلى مواقف الحلفاء الحقيقيين. ورغم كل الخطابات الرنانة حول الشراكة الاستراتيجية وأهمية إيران في منظومة الغلاف الروسي، فإن موسكو اكتفت بالدعم السياسي والإعلامي.
هذا الموقف، وإن كان مبرراً من منظور المصالح القومية الروسية وأولوياتها في أوكرانيا وأوروبا الشرقية، إلا أنه كشف حدود التحالف الروسي، حيث فضّلت الانكفاء إلى حساباتها الضيقة، بدلاً من ترجمة أقوالها إلى أفعال، وهو ما قد يدفع حلفاءها في المنطقة إلى إعادة النظر في مدى الاعتماد على الدعم الروسي في مواجهة التهديدات الوجودية؛ إذ إن هذا البرود الروسي يبعث برسالة واضحة: في عالم التحالفات المتغيرة، لا مكان للثقة المطلقة أو الرهان على الدعم غير المشروط، فالقوة وحدها هي التي تصنع الاحترام وتفرض المعادلات، أما التحالفات القائمة على المصالح المؤقتة فسرعان ما تتبدد عند أول اختبار حقيقي.

لو كان الهجوم شاملاً لتغير كل شيء
اتخذ التدخل الأمريكي الأخير في إيران طابعاً دقيقاً، مقتصراً على استهداف المنشآت النووية فقط، ما حال دون دفع طهران لتوسيع دائرة الرد والانفجار الإقليمي. مع ذلك، لو استهدفت المنشآت الحكومية، والبنى التحتية النفطية، ومفاصل الدولة الحيوية، بضربات واسعة النطاق، لكان من المؤكد أن إيران ستردّ بقوة لا تُضاهى، وتدفع بكل أوراقها نحو «حرب بلا سقف». وفي هذه الحالة، لم تكن القواعد الأمريكية في الخليج لتسلم من الاستهداف، ولن تكون المصالح الأمريكية و»الإسرائيلية» في مأمن من الضربات الإيرانية، بل كانت ستشملها النيران في كل الاتجاهات، وكان واجب الحلفاء الحقيقيين لطهران في العراق واليمن ولبنان سيحتم عليهم التحرك الفوري لضرب النفوذ الأمريكي و»الإسرائيلي»، ما يوسع دائرة المواجهة ويشعل جبهات متعددة في آن واحد.
حينها، كان بإمكان الصين وروسيا أن تجدا نفسيهما أمام اختبار وجودي حقيقي، ولحظة حاسمة تفرض عليهما اتخاذ قرار مصيري؛ إما دعم إيران ومواجهة الولايات المتحدة، وإما البقاء في خانة التردد، مع ترك المنطقة تحترق وحدها تحت وطأة النيران والدمار.
لكن مع تعقيدات الحسابات الاستراتيجية، والانشغال العميق لكل من موسكو وبكين بحروبهما ومصالحهما العالمية، كان الخيار الأرجح هو التردد والحياد البارد، متجنبين المواجهة المباشرة، تاركين إيران وحلفاءها يواجهون العاصفة بمفردهم. هذا التصعيد كان سيغير قواعد اللعبة ويعيد رسم خرائط النفوذ والتحالفات، كاشفاً هشاشة موازين القوى، وواضعاً المنطقة على شفير حرب شاملة لا يمكن التنبؤ بنتائجها.

يبقى السؤال الأكبر: هل يمكن للقوى الكبرى أن تتجاوز مصالحها الضيقة وتتحمل مسؤولياتها تجاه منطقة تغلي بالصراعات، أم ستظل المنطقة مسرحاً لحسابات باردة تجرها نحو هاوية لا قرار لها؟

أترك تعليقاً

التعليقات