عثمان الحكيمي

عثمان الحكيمي / لا ميديا -
في عالم اليوم، حيث أصبحت البيئة الأمنية مترابطة ولم يعد الصراع محدوداً بمكان، يُظهر تتبُّع المؤشرات أن الكيان الصهيوني يوسّع دائرة نفوذه عبر مسارات غير مباشرة تتجاوز حدود «الشرق الأوسط». وفي هذا السياق، تحمل تحركاته الأخيرة في القارة الأفريقية دلالات عميقة؛ فهذه القارة تمثل امتداداً استراتيجياً له، يستخدمها كمنصة متعددة الأبعاد: استخباراتية، اقتصادية، دبلوماسية، عسكرية...
ورغم أن التواجد الصهيوني في أفريقيا ليس جديداً، إلا أننا سنسلط الضوء اليوم على التحركات التي تهدف بشكل خاص إلى الضغط على جبهات المقاومة في «الشرق الأوسط». فليس بالضرورة أن يكون كل تحرك صهيوني في أفريقيا يستهدف القارة نفسها، فالتغلغل الصهيوني فيها كبير بالفعل. ولهذا، يمكن القول إن التحركات الأخيرة تأتي في إطار عقيدة أمنية تسعى لفتح جبهة جديدة تُستخدم كأداة ضغط مضاعفة على «الشرق الأوسط»، الذي يمثل محور التحدي الأبرز لها. إنها خطة لتطويق «مصادر التهديد» وإعادة ضبط قواعد الاشتباك الإقليمي.

كيف تصنع «إسرائيل» واحة نفوذها لتطويق «الشرق الأوسط»؟
على رقعة الشطرنج الأفريقية، تُحرّك «تل أبيب» قطعها ببراعةٍ صامتة. أنظارها لا تتجه إلى كنوز القارة، بل تُصوَّب نحو تلك الجبهات التي لا تزال تقاومها في قلب «الشرق الأوسط». فأفريقيا ليست الغاية، بل هي مسرحٌ خلفيٌ يُكتب فيه فصلٌ جديد من فصول الصراع الخفي. وبخيوطٍ من الدبلوماسية الناعمة، ودهاليز الاستخبارات العميقة، والصفقات الأمنية المُحكمة، ينسج الكيان الصهيوني عباءة نفوذه، ويبدو أنه يهدف إلى إطباق الخناق على أي متنفسٍ للقوى المعادية له.
فزيارات رئيسه الأخيرة إلى زامبيا والكونغو، ورفرفة علم سفارته التي أُعيد فتحها في لوساكا، هي أكثر من مجرد دبلوماسية؛ إنها خناجر تُصوَّب نحو خاصرة تلك الجيوب المقاوِمة. كل تحالفٍ جديد يُعقد في أفريقيا هو حلقةٌ تضيق على «الشرق الأوسط»، بينما يظل العالم منشغلاً بنيران واجهته المشتعلة. فهل من يقرأ تحركات الكيان اللقيط؟!

خطوط الملاحة ومحاولة تطويق دول المحور
أفريقيا في عين الكيان الصهيوني ليست مجرد قارة بعيدة، بل خاصرة جغرافية تطل على البحر الأحمر والمحيط الهندي، وتفتح أبوابها نحو قلب «الشرق الأوسط». أي وجود معادٍ في تلك القارة يُقرأ كتهديد مباشر لخطوط الملاحة، التي تُعد شريان التجارة الصهيونية. ومن هنا، جاءت تحركاته الأخيرة لتعزيز وجوده في أوغندا والكونغو وزامبيا، كخطوة استباقية لتأمين هذه الممرات المائية الحيوية.
إن الهدف الأعمق من هذا التمدد لا يقتصر على أفريقيا وحدها، بل يتجاوزها ليصب في «الشرق الأوسط»، حيث يسعى الكيان إلى إنشاء حزام أمني غير معلن يمتد عبر شرق ووسط أفريقيا، ليكون منصة مراقبة وتحكم، تراقب أي تحركات وتجمع المعلومات الاستخباراتية، ثم تُعيد توجيهها نحو المنطقة العربية والإسلامية. ويكشف ظهور الأسلحة «الإسرائيلية» المتطورة بحوزة قوات الدعم السريع في السودان، الوجه الخفي لهذه الاستراتيجية: إضعاف الخصوم المحتملين في أفريقيا، للضغط على «الشرق الأوسط» نفسه، وكأن القارة السمراء قد تحولت إلى ساحة خلفية تُدار منها معركة ما يسمى بـ»الأمن القومي الصهيوني».

منصة استخباراتية وضغط بعيد المدى
في سباقٍ محموم على خرائط النفوذ، تمدّ الصهيونية أذرعها في القارة السمراء كمن يفتش عن خاصرةٍ رخوة يطوِّق بها جبهات المقاومة من غزة إلى صنعاء. فعندما تتحرك «إسرائيل» في أفريقيا، فهي لا تفعل ذلك بصخب، بل بخطوات محسوبة تشبه انتقال الظل فوق جدار قديم. كل قاعدة، كل بعثة تدريب، كل اتفاق صامت، يبدو كقطعة في لوحة تُرسم بعيداً عن الأعين؛ لكنها موجّهة نحو قلب البحر الأحمر وما خلفه.
في إريتريا، تمتد أنظمة مراقبة تتبع حركة السفن وتلتقط الإشارات البعيدة. هناك، تقول التقارير، «تل أبيب» تبني إحدى أهم نقاطها الاستخباراتية، تراقب منها ما تسميه «خطوط إيران»، وتتابع نبض باب المندب كما لو كان ورقة داخل ملف حساس. وإلى الشمال الشرقي، في إثيوبيا، تظهر طبقة أخرى من النفوذ؛ تفاهمات أمنية عميقة تمنح «إسرائيل» نافذة قريبة من المضيق الذي يحدد مصير التجارة والحرب معاً.
ومع ذلك، لا يمكن قراءة هذا المشهد بمعزل عن الاستعدادات الأوسع: طائرات شحن عسكرية في صربيا، قذائف تُنقل بهدوء، وصفقات سلاح تمر عبر أذربيجان كخط إمداد يلامس حدود إيران. كل هذه الخيوط تلتقي في نقطة واحدة: «تل أبيب» تعيد هندسة فضاء نفوذها قبل أي مواجهة محتملة، سواء في غزة أو لبنان أو اليمن. أفريقيا، في هذا السياق، ليست مجرد قارة بعيدة، بل مساحة خلفية تُدار فيها معركة غير معلنة. هناك تجمع «إسرائيل» المعلومات، وترتب أوراق الضغط، وتخلق عمقاً يمكن أن يُستدعى عند أول شرارة. واليمن، رغم أنه جزء من المعادلة، ليس سوى أحد مداخل هذا الصراع الواسع الذي يجمع البحر والبر، والقرن الأفريقي والجبهات العربية، في مشهد واحد لا يُرى إلا من فوق خرائط الاستخبارات.

أترك تعليقاً

التعليقات