استراتيجيات التموضع والصراع .. من يقرأ خريطة البحر الأحمر أولا؟
- عثمان الحكيمي الأربعاء , 29 أكـتـوبـر , 2025 الساعة 11:09:48 PM
- 0 تعليقات

عثمان الحكيمي / لا ميديا -
تتجه بوصلة الصراع الإقليمي نحو مرحلة جديدة من إعادة التموضع العسكري والاستخباري، إذ لم يعد مضيق باب المندب مجرد ممر مائي استراتيجي، بل تحول إلى نقطة ارتكاز محورية تحدد مسارات القوة والنفوذ في المنطقة . إن التحركات الأخيرة، التي تتسم بالسرية والدقة المتناهية، تشير إلى أن القوى الكبرى والإقليمية لا تكتفي بردود الأفعال، بل تعمل على بناء استراتيجيات طويلة الأمد، تستبق بها أي تصعيد محتمل . هذا المشهد المعقد، الذي تتداخل فيه الأجنحة العسكرية الخفية مع التحشيد العسكري يعكس حالة من السيولة الجيوسياسية التي تضع المنطقة على حافة تحولات عميقة، تعيد رسم خرائط التحالفات والتهديدات.
إن فهم هذه الديناميكيات يتطلب إدراكا لعمق التنسيق بين القوى الفاعلة، والتحولات في أولويات واشنطن والتحالفات الإقليمية، في ظل تصاعد الضغوط الأمنية والتحضيرات العسكرية، وهو ما يفرض علينا ضرورة تفكيك شيفرات المشهد الراهن بعين المحلل الذي لا يكتفي بالظاهر ، بل يغوص في مكامن الخفاء .
. تحالفات تبنى ومدارج تشق... إعادة تموضع في جزر البحر الأحمر
كتبنا قبل أيام مقالاً بعنوان «ما السر الذي تخفيه الطلعات الأمريكية البريطانية المكثفة فوق خليج عدن والمياه اليمنية؟ أجنحة التجسس تحلق بصمت». وها نحن نعود اليوم لنؤكد من جديد في هذا المقال أن الأطراف جميعها تتحرك بخطوات محسوبة. فالأمريكيون والبريطانيون يكتفون نشاطاتهم و» الإسرائيليون» ينسقون ويراقبون وأجهزة الاستخبارات لدى العديد من القوى تطمح إلى إعادة رسم خرائط تمركزها في هذا الشريان المائي الذي لم يهدأ منذ عقود. هنا، نعم، لا شيء يبنى عبثاً ، ولا مدرج يُشق بلا هدف . الوجود العسكري في البحر الأحمر لم يعد يقتصر على السفن الظاهرة، بل امتد إلى ما وراء الرادارات. فخلال الأيام القليلة الماضية رصدت طائرة متخفية تماماً تنقل شحنة عسكرية بالغة الأهمية إلى جزيرة «زقر»، القريبة من مضيق باب المندب الاستراتيجي. هذه الخطوة، التي تتسم بالسرية القصوى، تتزامن مع تطوير لافت المدرج مطار «بني الحكم»، إذ كشفت الصور
الفضائية في أكتوبر عن ظهور طريق ترابي جديد وهياكل يرجح أنها تستخدم كممرات تمركز للطائرات أو كمخازن ومستودعات والمثير أن المشهد ذاته تكرر بالهيئة نفسها في مطار شبوة، في ما يبدو أنه تنفيذ لبرمجيات إنشائية متطابقة تؤكد تحوّل المنطقة إلى نقطة ارتكاز عسكرية متقدمة لما يسمى القوات المشتركة، ضمن سياق حشد عسكري أمريكي متصاعد .
إن هذا التموضع ربما هو تأسيس فعلي لقاعدة عمليات متقدمة قادرة على التحكم في حركة الملاحة الدولية . ومراقبة دقيقة لأي تحركات من قبل صنعاء، ويأتي ذلك بالتزامن مع التحليق الأمريكي المكثف قبالة سواحل البحر الأحمر وشمال غرب اليمن. وظهور طائرات استطلاع أغلقت أجهزة التتبع قرب المضيق، في ما يشي بوجود غرفة عمليات مشتركة تعمل على مدار الساعة لضبط إيقاع المنطقة وتأمين مصالح القوى العظمى في هذا الشريان الحيوي للتجارة العالمية.
- بؤرة الضغط
في عالم السياسة، لا يمر تركيزاستخباري في «الشرق الأوسط» مرورالكرام. فكل تحليق للطائرات. وكلرصد للرادارات وكل تحرك للقوات .
يجب أن يقرأ بعين استراتيجية ، ضمنمحاولة إحكام الخناق على صنعاء الضغط الخارجي اليوم ليس عابرا بل يتكامل مع تحضير واضح لعملية برية محتملة، أو تحركات عسكرية دقيقة .
يقوم بها ما يسمى «القوات الشرعية»و المجلس الانتقالي الجنوبي» وبدعم استخباري متواصل من الولايات المتحدة وإسرائيل»، إلى جانب عدد من القوى الإقليمية التي تراهن على تحقيق التوازن الميداني قبل أي تصعيد محتمل .
في السياسة. كل التساؤلات واردة. وكل الفرضيات مطروحة لكن العبرة ليست في الطرح بحد ذاته، بل فيما يفهم ويستنتج من هذا الطرح المعنى الحقيقي للضغط الخارجي لا يكمن في ما يرى بالبيانات أو التصريحات. بل في توقيت الانتشار، وفي خريطة التحركات، وفي قراءة الإشارات الخفية التي تحدد مسار المرحلة القادمة. إن بؤرة الضغط على صنعاء اليوم هي أكثر من مجرد صراع على الأرض إنها قراءة دقيقة للقدرة على التحكم في الميدان . وامتلاك زمام المبادرة قبل أن تتحرك القوى الأخرى.
التداعيات المتشابكة..واشنطن تعيد تموضع حاملاتها
تأتي هذه التحولات في وقت يتصاعد فيه الحشد العسكري الأمريكي في المنطقة، ليليه تحريك حاملات الطائرات الأمريكية نحو مناطق بعيدة كجنوب شرق آسيا وفنزويلا، تنفيذا الأوامر وزارة الحرب، ما يعطي مؤشرات واضحة إلى تحولات في توزيع القوة الاستراتيجية وإعادة ترتيب الأولويات الأمريكية. في هذا السياق، يبرز الدور المحوري لـ«إسرائيل»، التي استلمت منظومات دفاعية وشحنات عسكرية هامة تحسباً لأي تهديد محتمل. لكن الحقيقة القاسية أن الكيان الصهيوني أصبح التهديد بحد ذاته ، متقمصا موقعا مركزيا في معادلة الردع بالبحر الأحمر .
وسط هذا المشهد الدولي والإقليمي المتشابك، يتضح أن المرحلة الراهنة تتطلب يقظة استراتيجية فائقة وفهماً عميقا لتشابك المصالح وتداخل الرؤى. فالتحركات العسكرية الأمريكية. والتسليح «الإسرائيلي»، وإعادة تموضع القوى على طول الشريان المائي، ليست مجرد إجراءات تكتيكية عابرة، بل هي جزء من لعبة نفوذ كبيرة. يكتب فيها كل تحليق طائرة، وكل حركة حاملة، وكل منظومة دفاعية، فصول الصراع القادم . ويحدد شكل السيطرة على البحر الأحمر وممراته الحيوية في المرحلة المقبلة. ختاما في ذروة هذا التشابك الإقليمي. يبقى البحر الأحمر مضرجا بالأسرار التي لا تبوح بها المدراج الصامتة ولا تفضى بها الأجنحة العسكرية. فهل ما جرى مؤخرا هو تدشين الفصل خفى من الصراع أم أن كل ما نشهده ليس سوى مقدمة ضبابية لتحولات أكبر لم تكشف أوراقها بعد ؟! ماذا لو أن التحشيد العسكري في الجزر والطرقات الترابية هو تمهيد لتحول غير متوقع؟ وأين سيقف ميزان القوى حين تتسارع مفاجات الميدان - بصمت لم تعهده المنطقة ؟!
هل ستبقى الغرف المعتمة تضخ المخاوف وتعيد ترتيب خرائط النفوذ دون أن تدرك الأطراف حجم التحولات للمنطقة أن القادمة؟ وهل يكتب تبقى أسيرة لعبة الرموز الغامضة . حيث تختلط إشارات الضغط بظلال المناورة، وترسم خطوط النار على تخوم المجهول ؟ أم نحن على موعد مع لحظة يتبدد فيها الغموض دفعة واحدة. فيكشف البحر عن وجه لم يره أحد من قبل ؟!
في هذا الأفق، تظل كل الإجابات غارقة بين التيارات البحرية وطبقات الخفاء . وتبقى بوصلة الصراع في البحر الأحمر تدور بلا هدى، كأنها ترفض أن تستقر في اتجاه معلوم، وتصر على أن تظل معلقة بين الوعود والرهانات والتساؤلات التي لا ينقصها إلا انفجار الحقيقة من أعماق المجهول.










المصدر عثمان الحكيمي
زيارة جميع مقالات: عثمان الحكيمي