عثمان الحكيمي

عثمان الحكيمي / لا ميديا -
في خضم المعارك الطاحنة التي لفّت مدينة الفاشر، لم تكن الأرض هي ساحة الصراع الوحيدة. بل تحوّل سماء المدينة إلى مسرح لحرب تقنية غيّرت المعادلات العسكرية، وأعلنت نهاية زمن التفوق الجوي التقليدي. لقد برزت الطائرات المُسيّرة "الدرونز" كمتغير استراتيجي حاسم في يد قوات الدعم السريع ومرتزقتها، ليس فقط كأداة انتحارية فتاكة، بل كعيون ثابتة ودقيقة ضمنت الرصد، والاستطلاع، وتوجيه النيران، محطمةً التحصينات وخطوط الإمداد بضربات جراحية لم تتمكن الدفاعات الصامدة من صدّها.
لكن القصة لا تقتصر على مجرد استخدام "الدرونز"، بل تتجاوز ذلك إلى قفزة نوعية مرعبة كشفت عنها تكتيكات المهاجمين: وهي استخدام تقنية التوجيه بالألياف البصرية هذا الأسلوب النادر الاستخدام على نطاق واسع مكّن المُسيّرات من التخفي التام، حيث أصبحت شبه منيعة ضد أنظمة الحرب الإلكترونية والرصد التقليدي، كونها لا تُصدر أي إشارات راديوية للكشف أو التشويش.
إن سقوط الفاشر، والأسلوب الذي انهار به دفاعها، لم يكن نتيجة لقوة برية خالصة، بل هو تجسيد لواقع عسكري جديد في القرن الأفريقي؛ واقع حيث تحدد فيه تقنيات "الشبح" القادمة من السماء، التي تجمع بين دقة الاستطلاع وفتك الانقضاض، وليس الطائرات المقاتلة الضخمة، مصير المدن والمعارك. فما هي الأبعاد الكاملة لهذه التقنية الفتاكة، وكيف استطاعت المُسيّرات الموجهة أن تكرس انهيار دفاعات المدينة وتُعلن عن مولد جيل جديد من الحروب غير المتكافئة في القرن الأفريقي؟

من التفوق إلى التكافؤ التكنولوجي
لزمن طويل، ظل سلاح الجو السوداني يمثل الرادع الأخير والعمود الفقري للقوات البرية، مُسجّلاً التفوق التقليدي للجيش في ميادين النزاع المفتوحة بدارفور. لكن معركة الفاشر لم تكن كغيرها؛ فقد شهدت تحييداً فعالاً ومباغتاً لهذه الميزة الحاسمة. عبر مسارات إمداد خارجية غامضة، دخلت منظومات المُسيّرات المتطورة (هجومية، انتحارية، واستطلاعية) إلى ترسانة قوات الدعم السريع، مُنشئةً فوق الفاشر غطاءً جوياً منخفض التكلفة وعالي الكفاءة. لم يكتفِ هذا الغطاء بالاستطلاع الدقيق ورصد أنفاس القوات المدافعة، بل امتد تأثيره الأشد فتكاً نحو قطع الشريان اللوجستي للجيش: استهداف منصات الإنزال الجوي.
لقد كان إسقاط أو استهداف طائرات الإمداد أثناء محاولتها اختراق الحصار بمثابة تجميد فوري لتدفق الحياة إلى القوات المحاصرة. ومع طول السواتر الترابية التي بلغت عشرات الكيلومترات حول المدينة، تحوّلت الفاشر بسرعة من جيب صامد إلى قلعة معزولة تواجه مصيرها ببطء محتوم، مُكرّسةً بذلك مرحلة التكافؤ التكنولوجي التي قلبت موازين القوى رأساً على عقب.

تكتيك "حرب الاستنزاف التكنولوجي".. استهداف شريان الحياة المدني
إن تأثير المُسيّرات لم يتوقف عند الحدود التكتيكية للمواجهة العسكرية المباشرة، بل كان عماد استراتيجية ضغط شاملة وهادئة، هدفها الأخير هو شلّ قدرة المدينة على التنفس وإجبارها على الاستسلام تحت وطأة العوز واليأس. لقد اعتمدت قوات الدعم السريع على تكتيك الضربات السريعة والمركزة، مستخدمة المُسيّرات الانتحارية التي تميزت بقدرة لا تخطئها العين على اختراق الأهداف الثابتة والمتحركة بدقة جراحية. هذه الضربات لم تستهدف الثكنات والمواقع العسكرية فحسب، بل اتجهت عمداً نحو البنية التحتية المدنية الحيوية.
من مراكز القيادة إلى مستودعات الوقود، مروراً بمحطات الكهرباء والمياه، وصولاً إلى مرافق الرعاية الصحية، كان الهدف استنزاف شريان الحياة. أدى استهداف هذه المرافق إلى تدهور كارثي ومُتعمّد في الأوضاع الإنسانية، وخلق بيئة من الخوف واليأس الجماعي سهّلت الانهيار الداخلي. بهذه الطريقة، تحوّلت المعركة من مواجهة كلاسيكية إلى حرب استنزاف تكنولوجي؛ حيث أصبحت حياة المدنيين وبنيتهم التحتية هي الهدف غير المُعلن لكسر إرادة الصمود. وهو ما يفتح الباب واسعاً أمام تساؤلات قانونية وأخلاقية عميقة حول انتهاك صارخ لمبدأي التمييز والتناسب المنصوص عليهما في القانون الدولي الإنساني.

أداة النفوذ الجديدة ومختبر حروب المستقبل
إن قصة المُسيّرات في الفاشر تتجاوز بكثير حدود كونها مجرد تفصيلة تكتيكية في صراع داخلي، لتكشف عن تورط جيوسياسي عميق حيث أصبحت هذه التقنية المتقدمة أداة النفوذ الرئيسية في القرن الأفريقي. تشير الدلائل بقوة إلى أن الدعم السريع لم يكتسب هذه القدرات المعقدة ذاتياً، بل تلقى إسناداً لوجستياً وتدريبياً مكثفاً، مع اتهامات مباشرة بضلوع دول إقليمية في ضخ هذه التكنولوجيا المخلّة بالتوازن. لم يقتصر أثر هذا الدعم الخارجي على منح طرف تفوقاً عسكرياً مؤقتاً؛ بل أطلق شرارة سباق تسلح تكنولوجي متسارع في منطقة القرن الإفريقي. وهنا يطرح السؤال: هل ستجد مجموعات أخرى نفسها مرغمة على اللحاق بالركب، بتطوير واستخدام هذه التكنولوجيا في المستقبل؟ لا شك أن المواجهات الحتمية المستقبلية ستركز على المُسيّر مما يعكس نقلة نوعية وجذرية في طبيعة الحروب الأفريقية. لم يعد النصر حكراً على حجم القوات البشرية أو ثقل العتاد التقليدي، بل أصبح مرهوناً بالقدرة على التكيف والابتكار التكنولوجي المستمر.

تداعيات السقوط والدرس التكنولوجي القاسي
لقد كان سقوط الفاشر، الذي تُوّج بالسيطرة على آخر معاقل الجيش الاستراتيجية في دارفور، بمثابة تأكيد عملي صارخ على أن الطائرة المُسيّرة قد تجاوزت دور السلاح التكميلي. هي اليوم العمود الفقري الذي أدار المعركة وحسم نتيجتها بشكل استراتيجي لصالح الطرف الذي أتقن توظيفها بذكاء.
إن الدرس القاسي المستفاد من الفاشر يتلخص في حقيقة مفادها أن التقنية الحديثة قادرة تماماً على إعادة تشكيل الخريطة الجغرافية والسياسية للدول، حتى في ظل صراعات تبدو تقليدية في مظهرها. والأخطر من ذلك، أنه في غياب إطار قانوني إقليمي ودولي صارم ينظم استخدام هذه التكنولوجيا الفتاكة، سيبقى خطر التصعيد التكنولوجي قائماً ومتزايداً. هذا التصعيد لا يهدد بمزيد من التدهور الإنساني فحسب، بل يزيد من تعقيد مسارات الحل السياسي ويدفعها بعيداً عن الطاولة. فالسودان، اليوم، يجد نفسه أمام واقع جديد لا رجعة فيه فرضته "حرب الدرونز".

أترك تعليقاً

التعليقات