عثمان الحكيمي

عثمان الحكيمي / لا ميديا -
في ديسمبر 2025، أضاءت صواريخ «هيمارس» الأمريكية سماء سوريا في ما سُمّي بـ»ضربة عين الصقر». السبب المعلن كان الرد على هجوم «داعش» قرب تدمر، لكن خلف هذا التبرير البسيط تختبئ أسئلة أكبر: هل كان مقتل جنديين أمريكيين مجرد الذريعة المنتظرة لفتح فصل جديد من لعبة النفوذ؟ واشنطن وصفت العملية بـ«الانتقام المحدود»، غير أن مشاركة الأردن وترحيب حكومة الجولاني يكشفان عن قصة مختلفة تمامًا. فجأة، الرجل الذي كان على قوائم الإرهاب صار شريكاً في «مكافحة الإرهاب»، بينما تُتهم تركيا بتسهيل نشاط التنظيم وتُترك خارج دائرة الحساب.
هذه الضربة لا تبدو كـ«حرب على الإرهاب» بقدر ما هي رسائل مشفرة في كل اتجاه: إلى الداخل الأمريكي لتسويق الحزم، إلى الحلفاء لتثبيت التبعية، وإلى الخصوم لتذكيرهم بأن واشنطن ما زالت اللاعب الأقوى. إنها ليست مجرد عملية عسكرية، بل فصل جديد من مسرحية «التهديد المُدار»، حيث يبقى «داعش» حيًّا كورقة ضغط، ويُترك السوريون لدفع فاتورة الدم والمستقبل.

استراتيجية واشنطن لإبقاء «داعش» ورقة رابحة
تُقدِّم عملية «عين الصقر» نموذجاً فجّاً لما يسميه المراقبون استراتيجية «التهديد المُدار»، فهي مسرحية هزلية جديدة من إنتاج ترامب حيث لا يبدو أن الهدف هو القضاء الكامل على تنظيم «داعش»، بل إبقاؤه ضمن حدود وظيفية تخدم المصالح الأمريكية. السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح: لماذا الآن؟ ولماذا جاء الرد فقط بعد سقوط جنود أمريكيين، رغم أن بنك الأهداف الأمريكي كان يمتلئ بإحداثيات مواقع التنظيم منذ سنوات؟ الإجابة تكمن في أن «داعش» لا يُضرب إلا عندما يتجاوز الخطوط الحمراء المرسومة له، بينما يُترك ليعيد تجميع صفوفه في الفراغات الأمنية الممتدة من البادية السورية إلى الحدود العراقية. هذا البقاء المدروس يمنح واشنطن ذريعة دائمة لتبرير وجودها العسكري، ليس فقط شرق الفرات، بل ولبناء قواعد في قلب دمشق بحجة مكافحة الإرهاب.
إنها عمليات انتقائية استعراضية تهدف إلى تثبيت قواعد لعبة جديدة: إظهار الحزم أمام الرأي العام الأمريكي دون التورط في حرب حقيقية، والاعتراف بحكومة الجولاني مع إبقائها تحت الضغط، والأهم، الحفاظ على جيب النفوذ الأمريكي شرق الفرات. فالضربات لم تكن للقضاء على التنظيم، بل لتأديبه وإعادته إلى حجمه الوظيفي، المصيبة أن الجمهور يُصفّق وهو يعرف أن البطل والشرير من إخراج المخرج نفسه.

الجولاني.. من «قائمة الإرهاب» إلى شريك الضرورة؟!
إن الترحيب الحار الذي أبدته حكومة الجولاني بالضربات الأمريكية يمثل تحولاً لافتاً يثير الشكوك أكثر مما يقدم إجابات. الجولاني، الذي كان بالأمس يرفع شعار «القاعدة» ويكفّر أمريكا، أصبح اليوم يوزّع الابتسامات ويطلب دعمها. الرجل الذي كان يصفها بالشيطان صار فجأة «شريك ضرورة». هل تغيّر فكره؟ لا، بل غيّر بدلته. إنه انتهازي يعرف أن واشنطن تبحث عن دمية جديدة، فمدّ يده ليكون «الحليف المراقَب». الغرب يعرف تاريخه جيدًا، لكنه يتظاهر بأنه اكتشف نسخة جديدة من الجولاني؛ نسخة «معتدلة» تصلح للعرض أمام الكاميرات، أصبح اليوم يدعو لدعم جهوده من قبل التحالف الدولي. فهل حدث تغيير حقيقي في الفكر، أم مجرد مناورة براغماتية من انتهازي يسعى لتأمين بقائه السياسي؟
يرى المحللون أن ما يجري هو محاولة أمريكية غير مباشرة لتلميع صورة الجولاني و»تنظيف» الطريق أمامه، حيث يُستخدم تعاونه مع القيادة المركزية الأمريكية (سنتكوم) كدليل على «تحوله» من إرهابي إلى حاكم مسؤول. هذه الرواية تتجاهل عن عمد تاريخه وارتباطه بالفكر الجهادي. الغرب، الذي يعرف حقيقة الجولاني، يبدو مستعداً لتقديمه كـ»شريك ضرورة» في مواجهة «داعش»، مما يكشف عن ازدواجية معايير صارخة. فهل تحارب واشنطن الإرهاب فعلاً، أم أنها تديره وتوظفه بما يخدم مصالحها؟ وهل الجولاني في نهاية المطاف سوى أداة جديدة في لعبة أكبر وأكثر تعقيداً تُدار على حساب دماء السوريين ومستقبل بلادهم؟

الأردن وتركيا.. أدوار متناقضة في لعبة التوازنات
تكشف عملية «عين الصقر» عن الأدوار المتناقضة التي يلعبها الفاعلون الإقليميون في المشهد السوري. فمن جهة، تأتي المشاركة الأردنية لتؤكد دور المملكة كـ»تابع» مخلص للسياسات الأمريكية، حيث تقدم غطاءً عربياً لعملية أمريكية بحتة دون أن تضيف وزناً عسكرياً حقيقياً. هذه المشاركة، التي تأتي في وقت يعاني فيه الأردن من أزمات اقتصادية خانقة، تبدو كمحاولة لإرضاء واشنطن أكثر من كونها قراراً استراتيجياً مستقلاً، خاصة أنها قد تجلب تهديدات إضافية للأمن الأردني، فالأردن.. غطاء عربي بلا وزن. أما على الضفة الأخرى، فيبرز الدور التركي «الخبيث» والمعقد. فبينما تعلن أنقرة رسمياً محاربتها للإرهاب، تتهمها تقارير عديدة بتوظيف جماعات متطرفة، بما فيها «داعش»، لتحقيق نفوذ سياسي ومواجهة خصومها الأكراد. هذه الازدواجية تجعل الموقف التركي محل تساؤل دائم. فهل تهدف واشنطن عبر تقاربها التكتيكي مع الجولاني إلى توجيه رسالة لأنقرة بأن قواعد اللعبة قد تغيرت، وأن حليف الأمس لتركيا قد يكون الأقرب لأمريكا في لعبة الغد والتوازنات السورية المعقدة؟

إعادة تدوير التاريخ في نسخة رديئة
إذا كان هناك شيء يثير السخرية حقًا في عملية «عين الصقر»، فهو أنها ليست ابتكارًا جديدًا، بل نسخة رديئة من سيناريو قديم. فمنذ أفغانستان في الثمانينيات، مرورًا بالعراق بعد 2003، وصولًا إلى سوريا اليوم، تتكرر القصة نفسها: صناعة عدو، ثم ضربه بشكل انتقائي، ثم إبقاؤه حيًّا ليُستخدم كذريعة دائمة. إنها إعادة تدوير للتاريخ، لكن بميزانية أكبر وإخراج أكثر بريقًا. واشنطن لا تحارب الإرهاب لتُنهيه، بل لتضمن أن يبقى حاضرًا في المشهد، مثل مسلسل طويل لا تنتهي مواسمه.
الساخر أن الجمهور يعرف القصة مسبقًا، لكنه يواصل التصفيق. كل ضربة جديدة تُسوَّق كفصل حاسم، بينما هي في الحقيقة إعادة إنتاج لمشهد قديم: «داعش» اليوم هو نسخة من القاعدة بالأمس، والجولاني هو نسخة من أمراء الحرب الذين جرى تلميعهم سابقًا، والأردن وتركيا مجرد ممثلين ثانويين في مسرحية لا تتغير حبكتها.
في النهاية، «عين الصقر» ليست سوى إعادة تدوير للتاريخ في نسخة رديئة، حيث تتكرر الأخطاء نفسها، وتُعرض المسرحية نفسها، ويُترك السوريون دائمًا في موقع الضحية. إنها ليست حربًا على الإرهاب، بل إعادة إنتاج لسيناريو قديم، يُعرض هذه المرة على خشبة مسرح اسمها سوريا.

أترك تعليقاً

التعليقات