فرتكة الجنوب!
 

ابراهيم الحكيم

إبراهيم الحكيم / لا ميديا -
يرزح اليمن عموما لإيهان ممنهج وامتهان مبرمج، ليس منذ بدء الحرب الأخيرة المتواصلة للسنة الحادية عشرة وتداعياتها المتوالية، بل منذ قرون عِدة، تلت "تفرق أيادي سبأ"، وظلت تغذية تداعيات هذا التفرق مستمرة، من جانب منتهزي التداعي اليماني، وملء فراغه، في المنطقة، حتى اليوم.
يعتقد البعض أن التنافس المحموم والصراع المسموم في جنوب اليمن، وليد الحرب المتواصلة للسنة الحادية عشرة، أو حتى وليد حرب صيف العام 1994م المشؤومة، وما سبقهما من تدخلات خارجية إقليمية ودولية، وتبعهما من تدخلات ومآلات ضيم وغبن وإقصاء سياسي للتيار المهزوم.
الحقيقة، الصراع في جنوب اليمن، ليس وليد 11 سنة أو 31 عاما. هناك خلفيات أقدم لهذا التنافس والصراع، على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي، لا يسع المجال هنا لسرد كل جولاتها وخلفياتها بالتفصيل، إنما سنكتفي بالإشارة إلى أبرزها كعناوين أو دالات رئيسة.
شهد جنوب اليمن، تنافسا قديما جدا بين أربع أملوك أو ممالك يمنية قديمة: حضرموت، المهرة، قتبان، أوسان. ظل هذا التنافس يُحسم بدورات صراع، تُرجح الكفة فيها تحالفات محلية تبرمها إحدى هذه الممالك مع ممالك شمال اليمن القديم: سبأ، معين، وحمير وذي ريدان.
لاحقا، في العصر الإسلامي، وبخاصة عقب العهد النبوي، وتفاقم صراعات الخلافة؛ استمر هذا التنافس، بين ممالك اليمن القديم أو ما تبقى من زعاماتها (أذواء وأقيال). تجلى هذا في استغلال متنازعي "الخلافة" إرث التنافس والصراع اليمني، في اكتساب الحلفاء والمدد.
ظهرت في اليمن، لاحقا، دويلات مستقلة عدة، متجاورة ومتصارعة، ناهز عددها الثلاثين دولة، رفعت جميعها شعار التوحيد، للعقيدة والدولة، وظل جنوب اليمن ثغورا اقتصادية وعسكرية، ترجح كفة من امتد نفوذها إليها، لتغدو هي الدولة اليمنية الإسلامية الأقوى، حتى حين.
في العصر الحديث، ساعد صراع الأئمة في شمال اليمن مع الاحتلال العثماني، في تشكل كيانات قبلية، تقاسم زعماؤها الحكم بمناطقهم، حتى جاء الاحتلال البريطاني لعدن وجنوب اليمن، فاستغل الأمر، وعمد إلى تبادل الشرعية مع هذه الزعامات بمعاهدات صداقة ثم حماية.
اشتغل الاحتلال البريطاني على تفتيت جنوب اليمن إلى 33 كيانا، اصطنع لها "هويات" تمثلها رايات ونشيد علم، وطوابع بريد وعملات -أحيانا- وقوات محدودة العدد والتسليح، قبل أن يوحدها بالقوة في ما سماه "اتحاد الجنوب العربي" لمنع امتداد الثورة من شمال اليمن إلى الجنوب.
وبعدما استطاع النضال اليمني الموحد، ثقافيا وأدبيا ودينيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وعسكريا، انتزاع الاستقلال من الاحتلال البريطاني، دق الأخير مسمارا آخر في مفاصل اليمن، بتسليمه السلطة فصيلا ثوريا بعينه، أقصى ما سواه من فصائل، ليبعث دورات صراع جديدة.
مُني عهد الاستقلال، بدورات صراع عنيفة القتال، بين الأشقاء رفاق النضال، أذكتها رياح الأيديولوجيا الوافدة، فغدوا فرقاء بحكم الأعداء على مقصلة السلطة. تعاقبت المذابح لتشمل الرؤساء وعشائرهم بل وحتى مناطقهم ومحافظاتهم، لتتراكم الأحقاد والأدران، وتظل جمرا تحت الرماد.
في شمال اليمن، انتهت حرب الثمان سنوات (1962-1970م) باتفاق مصالحة بين الملك فيصل بن سعود والرئيس جمال عبدالناصر، قضى بإيقاف الأخير دعمه المالي والعسكري، وتشكيل سلطة مناصفة بين الملكيين والجمهوريين، تخضع لوصاية "اللجنة السعودية الخاصة باليمن".
ورث الاحتلالين البريطاني والتركي لليمن في النفوذ الخارجي، بجنوب اليمن ما عُرف حتى ما قبل 1990م "الاتحاد السوفيتي"، قائد المعسكر الشرقي (الاشتراكي)، وفي شمال اليمن، المراكز الإقليمية (السعودية والخليج) للمعسكر الغربي (الرأسمالي) بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
بعد توحيد النظامين السياسيين لجنوب اليمن وشماله وانصهارهما في الكيان السياسي الجديد لليمن الموحد (الجمهورية اليمنية) في 22 مايو 1990م، أفرز تباين النُظم السياسية وتبعا الاقتصادية، فجوة هائلة في الملكية وأدوات الإنتاج ومستوى المعيشة، بين سكان جنوب اليمن وشماله.
عقب الاجتياح العراقي للكويت وحرب الخليج الثانية 1991م وضمن تصدر أولويات الغرب تصفية المنظومة الاشتراكية في المنطقة وترسانتها؛ برز اليمن هدفا رئيسا لتحالفات إقليمية ودولية جديدة، رحلت المغتربين جماعيا، وسرعان ما أشعلت شرارة حرب صيف العام 1994م، المشؤومة.

استمرت تداعيات تحالفات حقبة القطب الواحد للعالم، وتعاقبت أحداث مزعزعة لوحدة اليمن ونازعة لاستقراره: هجمات "القاعدة"، احتلال أرخبيل حنيش (1995م)، اشتباكات الحدود مع السعودية (1997)، استهداف المدمرة كول (2001)، حروب صعدة (2004-2009م)، الحراك الجنوبي (2007م).
تواصلت تداعيات زعزعة وحدة اليمن واستقراره، وجاء الربيع العبري (2011م)، ليرفع شعار "إسقاط النظام"، ويعمم "الفوضى الخلاقة"، منتجا متواليات تفكيك علني للدولة اليمنية (ثورة المؤسسات)، ونحطلة (هيكلة) قوات الجيش والأمن، وصولا إلى إسقاط محافظات جنوب اليمن بيد تنظيم "القاعدة"!!
أمام الانهيار، جرى تسيير "مؤتمر الحوار" بزعم "التيسير"، لتنحرف أهدافه من جبر أضرار دورات الصراع في اليمن، وتعديل النظام السياسي (رئاسي/ حكومي) والانتخابي (دوائر/ قوائم)، إلى مناقشة اسم الدولة اليمنية وشكلها ولغتها ونظام حكمها، وإقرار تقسيم اليمن إلى "أقاليم اتحادية" ذات سيادة!
بدت الإدارة الإقليمية والإرادة الدولية، تلتقيان بهدف تقسيم دولة اليمن الموحد، المنهكة طوال 20 عاما باضطرابات اقتصادية وأمنية وعسكرية؛ وأصدر مجلس الأمن الدولي قرارا يدرج اليمن تحت الوصاية الدولية (الفصل السابع)، ويعتمد نيابة عن الشعب اليمني مخرجات "مؤتمر الحوار" و"أقلمة اليمن"!
لم يكن المشاركون في مؤتمر الحوار، والبالغ عددهم 565 عضوا وعضوة؛ منتخبين من الشعب، وتبعا فهم لا يمثلون الشعب اليمني، ولا صفة شرعية لهم تضفي إلزامية لنفاذ مخرجات حوارهم، بل كانوا مرشحين من القوى السياسية، في مكوناتهم الثمانية المعلنة.
وفي حين رفع "مؤتمر الحوار" شعار وهدف "المواطنة المتساوية"، فإن تكوينه ومخرجاته القائمة على المحاصصة نفسها لتكوينه وبالنسب نفسها، أصلت لتمييز جنسي (رجال ونساء)، وعمري (كهول وشباب)، وعنصري (مواطنين ومهمشين)، ومناطقي (شمال وجنوب)!!
إجمالا، لم تأت مخرجات الحوار، بجديد يذكر على صعيد تشخيص أسباب الصراعات السياسية والفساد المالي والإداري، واضمحلال المساواة في فرص التعليم والعمل والمشاركة السياسية، وانحسار سيادة النظام والقانون، وتبعا تدني العدالة، وغيرها من المشكلات الرئيسة.
على العكس من الأهداف المفترضة لمؤتمر الحوار، انصرف عن المشكلات الرئيسة القديمة المتجددة، في النظام السياسي والإداري والقضائي والأمني والعسكري للبلاد، وراح يناقش إلغاء الدولة وتأسيس دولة جديدة اتحادية من أقاليم ذات سيادة كما لو كان اليمن يضم شعوبا مختلفة!
بدا أن هذا الانحراف الكلي لمسار مؤتمر الحوار عن أهدافه الرئيسة، معد سلفا، وأن مخرجاته الجديدة والوحيدة المتعلقة بشكل الدولة ونظام الحكم، كان معدا سلفا، وأنه هو المقصود بحديث الرئيس المؤقت هادي، في كل خطاباته عن "يمن جديد"، مختلف كليا عن اليمن الراهن!
فعليا: لا يبتعد هذا التوجه عن مخطط إعادة صياغة المنطقة وما سمي في أول إعلان عنه على لسان وزيرة خارجية الولايات المتحدة، كونداليزا رايس "الشرق الأوسط الجديد"، شرطا لقيام "إسرائيل الكبرى" وفْق رؤية بيريز ونتنياهو وخريطة برنارد لويس لتقسيم دول المنطقة العربية كلها، المعلنة في العام 2010م.
استفزت "الوصاية" معارضة محلية، وأثارت "المخرجات" احتجاجات شعبية، قُوبلت بقمع أمني، أشعل اشتباكات، انتهت باتفاق "سلم وشراكة"، ثم استقال الرئيس "المؤقت" ورئيس الحكومة "الانتقالية"، وتشكل تحالف عسكري، أُعلن من واشنطن، بهدف "إنهاء الانقلاب وإعادة الشرعية وصون وحدة اليمن وسيادته".
جاء التحالف، السعودي -الإماراتي، ليشتغل على إرث الاحتلال البريطاني في جنوب اليمن. فأعمل قاعدة "فرق تسد"، وأنشأ كيانات سياسية وتشكيلات عسكرية محلية متمردة على ما يسميه "الشرعية"، بدءا من "المجلس الانتقالي الجنوبي"، مرورا بإنشاء "المجالس الوطنية" للمحافظات، وصولا إلى "الأحلاف القبلية".
استمر التحالف بقيادة السعودية والإمارات ودعم أمريكي بريطاني، في تفتيت الدولة اليمنية وتفكيك مؤسساتها، قصفا وتعطيلا وشلا لمواردها، وأسقط "هادي" وأبدله بـ"مجلس قيادة رئاسي" يضم قادة تشكيلاته العسكرية المحلية، مثلما أسقط الحكومة "الانتقالية" برئاسة "بحاح"، ثم "بن دغر"، و"معين"، و"بن مبارك"!
فعليا: رعى التحالف السعودي -الإماراتي، توسيع الانفلات الأمني ودائرة الفقر في اليمن، وأدار حرب العُملة واللقمة والخدمة والراتب، وتحويل اليمنيين من العمل وإنتاج الغِلال، إلى الاعتماد على سلاسل المساعدات الإغاثية، ضمن تهيئتهم للقبول بكل ما يفرضه "حلا للخلاص" رغم كونه يُعمد الانتكاس والرصاص!
السيناريو نفسه، مع فروق شكلية، ينفذ في كل من ليبيا والسودان وسوريا وغيرها من الدول العربية التي جرى تحديدها أهدافا رئيسة تالية لغزو واحتلال العراق، بوصفها كيانات كبيرة وذات عمق تاريخي وإرث حضاري وثقل سكاني، وجيوش كبيرة، قرر التحالف "الأنجلو-صهيوني"، تدميرها وتفتيتها، ويعمل على هذا منذ "الربيع العبري".
بعد هذا الاستعراض الموجز قدر الإمكان، لخلفيات وامتدادات التنافس والصراع في اليمن عموما، وفي جنوب اليمن خصوصا، يبقى بيان دوافع هذا التنافس الإقليمي والدولي في اليمن، منافذ توغل النفوذ السعودي -الإماراتي في جنوب اليمن، ومحركات هذا الصراع السعودي الإماراتي في جنوب اليمن وأهدافه.

تنافس محموم
تتابعت منذ أسابيع، في جنوب اليمن، فصول المسرحية نفسها بمشاهد مكررة، لكنها ليست الأخيرة. السعودية ترفض سيطرة قوات موالية للإمارات على محافظتي حضرموت والمهرة. وتطالبها بمغادرة المحافظتين وإحلال قوات تابعة لها محله. مشهد مكرر!
عمليا، هذا السيناريو نفسه يتكرر منذ بداية العدوان على اليمن. محافظات حضرموت والمهرة وسقطرى، ظلت بمنأى عن مواجهات الحرب، بعيدة عمَّا يسمى "الانقلاب"، وتبعا لا مبرر لانتشار قوات التحالف فيها لانعدام ذريعة "إنهاء الانقلاب وإعادة الشرعية".
مع ذلك، دفعت السعودية بقوات إماراتية إلى كل من المهرة ثم سقطرى ثم حضرموت. كان الأمر بمثابة الطُعم وتكرر استخدامه. قوات إماراتية تصل فتشتبك مع القبائل، فتأتي السعودية بصفة مطفئ الحرائق وتنشر قواتها بزعم "إحلال الاستقرار".
بدت الإمارات ومشاركتها في تحالف العدوان على اليمن، أشبه بقفازات ارتدتها السعودية، فقط لإبعاد شبهات الغزو وأطماع احتلال اليمن من دولة محاذية له ومهيمنة عليه لعقود، باستدعاء دول لا تجمعها حدود مع اليمن، وفي المقدمة الإمارات.
لكن الأمر، لم يكن على هذا النحو فقط، ولم يبق كذلك. فعليا، تمدد نفوذ الإمارات في اليمن عموما، وجنوبه خصوصا، اقترن بقيام "الإمارات" مطلع عقد السبعينيات من القرن الماضي. أخذ أولا، طابع فتح الباب لهجرات كثيفة من جنوب اليمن.
بالتوازي مع تمدد النفوذ السعودي في اليمن كاملا حد الوصاية منذ رعايتها "المصالحة" بين الملكيين والجمهوريين في اليمن، وتشكيل "اللجنة السعودية الخاصة باليمن"؛ سعت الإمارات إلى إيجاد نفوذ موازٍ لها في اليمن، لكنه تركز أكثر في جنوبه.
انتهجت أبوظبي نهج السعودية في مد نفوذها بعموم اليمن وحضرموت خصوصا: نشر فكرها الديني بحضرموت، منح امتيازات الاغتراب والإقامة للحضارم، بما فيها منحهم الجنسية و"التابعية"، وحقوق العمل والتملك والتجارة وتشييد الشركات،.. إلخ.
خصت الإمارات، وهي ربيبة بريطانيا وسلطات احتلالها المنطقة؛ اليمنيين في جنوب اليمن من يافع بأولوية خاصة. فتحت لهم المجال للاغتراب في الإمارات والعمل والتعيين في مناصب كبيرة بمختلف مؤسسات الدولة، بما فيها العسكرية والأمنية.
لاحقا، برز موقف الإمارات من حرب صيف العام 1994م المشؤومة، المؤيد لانفصال الجنوب، واستقبالها معظم القيادات السياسية والأمنية والعسكرية وغيرهم من المحافظات الجنوبية، المؤيدين لإعلان البِيض "فك الارتباط" أو انفصال جنوب اليمن.
هذا الموقف الإماراتي لم ينته بوضع الحرب أوزارها سريعا خلال أقل من ثلاثة أشهر. ظلت أبوظبي تتبنى انفصال جنوب اليمن، إنما ليس علنا، بل عبر جهاز مخابراتها، وتمويل تنظيمات ومنظمات انفصالية مثل "تاج"، ثم "الحراك الجنوبي"، وغيرهما.
بالتزامن جاءت اتفاقية تأجير ميناء عدن لشركة موانئ دبي العالمية (2008)، رغم "تعارض المصالح" الجلي! لم يكن هذا سوى أحد مظاهر توغل النفوذ الإماراتي في اليمن، المترافق مع توغل مبكر في سقطرى أخذ طابع النشاط الإنساني والدعم التنموي.
من ذلك، إعادة بناء مستشفى حديبو في سقطرى باسم "الشيخ خليفة" عام 2010م، وتمويل مراكز دينية بجنوب اليمن لنشر تيار السلفية "الجامية" الذي يجيز التحالف مع اليهود والنصارى ويؤيد التطبيع مع الكيان الصهيوني، بل ويدين فصائل مقاومته!
في هذا، عاينت شخصيا، في 2007م التمدد السلفي في عدن، وهالني نهاية 2013م طغيان الطابع السلفي على المدينة، ومساجدها، بل وحتى مطاعمها وحدائقها ومنتجعاتها السياحية في الساحل الذهبي (جولد مور) وساحل أبين، وقبل هذا مدارسها!
لهذا لم يكن غريبا، التقارب العلني بين الإمارات وتنظيم "القاعدة"، وتكرر وساطة أبوظبي لتحرير أسرى لديه، بينهم نائب القنصل السعودي في عدن! ولا ظهور قادة بالتنظيم وعناصره لاحقا في "اللجان الشعبية"، ثم "المقاومة الجنوبية"، ثم "العمالقة الجنوبية"!
استغلت الإمارات، التحول السياسي في السعودية، وتخلي النظام السعودي علنا عن رديفه التاريخي، الفكر الوهابي، واتخاذه موقفا عدائيا متشددا من تنظيم "القاعدة" وفروعه، واستطاعت أبوظبي التوغل في محافظات أبين ولحج وحضرموت عبر عناصر التنظيم.
عقب السيطرة على عدن (مايو 2015م)، أضفت الإمارات على تشكيلاتها المحلية، صبغات تتناسب مع موجة "تحرير الجنوب" وانفصاله: العمالقة الجنوبية، الحزام الأمني، النُخب الشبوانية، والحضرمية، والسقطرية، قبل أن تتبنى تمويل إنشاء "المجلس الانتقالي الجنوبي" منتصف 2017م.
مولت الإمارات، علنا، إنشاء وتجنيد وتسليح عشرات الألوية التابعة لـ"المجلس الانتقالي الجنوبي" لتؤلف "القوات المسلحة الجنوبية"! كان هذا يتم بعلم السعودية، ومبررا لتمويل السعودية إنشاء وتجنيد وتسليح ألوية موازية باسم "العاصفة" و"الحزم"، و"درع الوطن"، وغيرها!
لكن السؤال الأهم: ما أهداف السعودية والإمارات في جنوب اليمن؟ ماذا يريدان؟ أما الجواب: تبرز لكل من الرياض وأبوظبي أهداف آنية، وأخرى مرحلية، تسعى لتحقيق مصالح سياسية، واقتصادية، وأمنية، وأطماع كبيرة، تفسر الصراع وسنحاول بإيجاز، استكشاف أبرزها.

جاذبية جيوسياسية
يحظى اليمن بموقع جغرافي مهم جدا، استراتيجي للملاحة الدولية بشقيها التجاري والعسكري، فهو يهيمن على أحد أهم المضائق البحرية (باب المندب) الرابط بين الشرق والغرب، وأهم الممرات البحرية (البحر الأحمر) بين أهم قارات العالم: آسيا، وأفريقيا، وأوروبا.
برزت أهمية موقع اليمن إبان سيطرته على طرق التجارة البرية بين الشرق والغرب، وتصديره السلع المقدسة في العالم القديم (البخور واللبان)، وازدادت أهمية الموقع بعد اكتشاف الملاحة البحرية والرياح الشمالية والجنوبية وابتكار الشراع، ثم إنشاء قناة السويس.
يمتلك اليمن شريطا ساحليا طويلا يتجاوز 2500 كيلومتر يمتد غربا على البحر الأحمر وجنوبا على خليج عدن وبحر العرب ونحو 200 جزيرة أبرزها: كمران، وميون، وزقر، وأرخبيل حنيش، في البحر الأحمر، وعبدالكوري وسمحة وسقطرى في المحيط الهندي، ما يجعله مهيمنا ملاحيا.
لهذا، يُبرز موقع اليمن منحة إلهية ومحنة أيضا، فهو نعمة كبيرة حال كان اليمن قويا باتحاد قواه وشعبه واستقلال إرادته وقراره، وسيادة دولته وكفاءة إدارته، يمنح اليمن قوة ونفوذا جيوسياسيا وفرصا عدة للازدهار على مختلف الصُعد، كما كان في أوج حضارته.
استمرت منحة موقع اليمن، نعمة كبيرة، انعكست في قوة دولته وازدهارها حضاريا وثقافيا، سياسيا واقتصاديا (تجاريا وزراعيا وصناعيا) وعسكريا، إبان دوله "سبأ وحِمْير"، و"سبأ وحِمْير وذي ريدان وحضرموت ويمنات وطودا تهامة وأعرابهم"، و"حِمْير وذي ريدان".
لكن موقع اليمن الاستراتيجي، كان أيضا محنة لليمن، ونقمة عليه وشعبه، حال تفرق أيدي قواه، وتفكك دولته، فشهد على مر التاريخ حقب ضعف، جعلته فريسة لنفوذ قوى العالم المتنافسة بمضمار الهيمنة على مواطن الثروات وأسواق الاستهلاك والممرات الدولية.
ظل احتلال اليمن بقوات مباشرة أو بسلطات موالية، عاملا مؤثرا في تصفيات صعود وهبوط القوى الإمبريالية في صراع النفوذ والهيمنة على العالم، كما هو الحال مع إمبراطوريات فارس، وروما، وأكسوم، والبرتغال، وبريطانيا، والاتحاد السوفيتي، وأمريكا وأدواتها الإقليمية.

أطماع جيوسياسية
بات مضيق باب المندب والبحر الأحمر أحد أهم الممرات البحرية العالمية، وتذكر بيانات الملاحة الدولية أن "21 ألف سفينة سنويا تمثل 15% من التجارة الدولية، و30% من حركة حاويات الشحن البحرية، و3.3 ملايين برميل نفط يوميا، تمر عبر البحر الأحمر".
لهذا يكتسب البحر الأحمر أهمية استراتيجية بالغة للأمن القومي لكل من السعودية والإمارات، ليس فقط لأن نفطهما يعبر من خلاله إلى أوروبا، بل أيضا لاستثماراتها الاقتصادية المتنامية في البحر الأحمر، الساعية إلى تحويل البحر الأحمر إلى محور اقتصادي عالمي.
يبرز هذا سعوديا من خلال تشييد مشروع "نيوم" العملاق على ساحلها الغربي، والسعي إلى تأسيس منظمة لأمن وتنمية البحر الأحمر بالتعاون مع مصر واليمن والسودان. إضافة إلى أطماع السعودية في عزل الساحل الغربي لليمن وجعله منطقة معزولة خاضعة لقوات دولية.
كذلك، الساحل اليمني الجنوبي، تطمع السعودية في منفذ إلى البحر العربي عبر الأراضي اليمنية لتصدير النفط. هذا ليس سرا فهو هدف استراتيجي للسعودية والإمارات ودول الخليج مجتمعة، لكونه يوفر خط تصدير للنفط والغاز بديلا عن مضيق هرمز الذي تهيمن عليه إيران.
في هذا السياق، سبق أن طلبت السعودية رسميا من اليمن في مطلع تسعينيات القرن الماضي منحها خطا بريا لأنبوب يمر على الأراضي اليمنية إلى البحر العربي، ولم يلب الطلب للخلاف على العائد والحماية والسيادة، وملكية النفط المراد تصديره من منطقة حدودية مشتركة.
وأمام تعذر مد السعودية أنبوب النفط، طُرح بمجلس التعاون الخليجي، مشروع إنشاء قناة بحرية من الخليج العربي إلى البحر العربي، وكان مخططا أن تنطلق من قطر، ثم الإمارات، إلى عُمان، لكن انعدام الثقة البينية، عَدَّل المخطط لتبدأ القناة من البحرين إلى المهرة أو المكلا.
عقب تشكل تحالف العدوان على اليمن بقيادة السعودية والإمارات، أُعيد إحياء المشروع، وأُطلق عليه اسم "قناة سلمان"، مع دعاية تزعم "بناء مدن سكنية وسياحية وتوفير ملايين فرص العمل على طول القناة"، لكن المشروع جرى تأجيله حتى انتهاء الحرب و"إعادة الشرعية إلى صنعاء".
مع ذلك، حاولت السعودية مد أنبوب تصدير النفط من بحيرة النفط الحدودية المشتركة بالربع الخالي إلى البحر العربي عبر أراضي محافظة المهرة، بعدما نشرت قواتها في 2018م بالمحافظة البعيدة عمَّا يسمى "الانقلاب". لكن قبائل المهرة منعوا مد الأنبوب وسقط منهم قتلى وجرحى.

أطماع الإمارات
في المقابل، تتبنى الإمارات، طموحات إمبريالية، تتجاوز دولتها الصغيرة مساحة وسكانا، لتغدو قوة عابرة للحدود ولاعبا رئيسا في السياسة الدولية. عبر استخدامها ثلاثية النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري، في المنطقة العربية من بوابة الهيمنة على خطوط الملاحة الدولية والموانئ.
أظهرت الإمارات مساعي حثيثة لفرض هيمنتها على الملاحة الدولية في المنطقة وخارجها، عبر نشاطها المحموم والعلني للسيطرة على الموانئ من خلال عقود إيجار لصالح شركة موانئ دبي العالمية، أو من خلال إنشاء ونشر مليشيات مسلحة محلية تؤمن الهيمنة الإماراتية المباشرة.
تكرر هذا السلوك الإماراتي على مدى العشرين عاما الماضية، باستئجارها ميناء عدن (2008-2012)، وميناء عصب، وموانئ جيبوتي، والصومال، ثم عبر تمويل مليشيات مسلحة في جنوب وغرب اليمن، منذ 2015، ثم بدعم انقلاب مليشيا "الدعم السريع" في السودان منذ 2023.
تحذو الإمارات في هذا النهج حذو الاحتلال البريطاني للهند عبر ما عُرف بـ"شركة الهند الشرقية البريطانية"، وتمارس نشاطا مماثلا في اليمن والسودان وإريتريا وجيبوتي والصومال، يؤمن نقاط إسناد لوجستي واستخباراتي، وامتداد نفوذ جيو-استراتيجي من الخليج إلى القرن الإفريقي، وحتى ليبيا.
الآن، تسيطر الإمارات باتفاقيات "إدارة وتشغيل" واتفاقيات "تأجير" على موانئ بوصاصو وبربرة وعصب، وبمليشيات تابعة لها على ميناء المخا في الساحل الغربي لليمن على البحر الأحمر، وتسعى إلى السيطرة على موانئ السودان عبر دعمها مليشيات "الدعم السريع".
كما باتت الإمارات عبر قواتها ومليشياتها المحلية، تفرض تحكمها الكامل بجميع الموانئ والمطارات اليمنية في الساحل الجنوبي لليمن المطل على خليج عدن وبحر العرب (عدن، وأبين، وشبوة، وحضرموت، والمهرة)، وميناء ومطار سقطرى، في المحيط الهندي.
يُضاف إلى هذا، مواصلة الإمارات مقاولة تشييد مطارات وقواعد عسكرية وإستخباراتية في أبرز الجزر اليمنية: زقر، وحنيش، وميون، في البحر الأحمر، وجزر خليج عدن وبئر علي في البحر العربي، وجزر عبدالكوري وسمحة ودرسة وسقطرى في المحيط الهندي.
تسهم هذه السيطرة الإماراتية على الموانئ والمطارات والجزر اليمنية الاستراتيجية، في إكساب الإمارات نفوذا كبيرا وهيمنة على خطوط وحركة الملاحة البحرية بشقيها التجارية والعسكرية، بين الخليج العربي والمحيط الهندي وبحر العرب وخليج عدن والبحر الأحمر.
ويحقق هذا النفوذ والهيمنة للإمارات مكاسب تتجاوز الداخل اليمني إلى امتلاك أبوظبي إمكانيات فرض مصالح اقتصادية وسياسية وأمنية وعسكرية مع المحيط الإقليمي والدولي، ومساحة للتأثير والتحكم بصناعة القرار وإرادة المجتمع الدولي، لصالح طموحات الإمارات.
كما تعمل شبكة نفوذ وهيمنة الإمارات على موانئ وجزر اليمن، ضمن منظومة استخباراتية مشتركة مع الكيان الصهيوني، اسمها "Crystal Ball" لتبادل المعلومات الاستخباراتية وتحليل الصور الجوية والإشارات الإلكترونية، ومراقبة حركة الملاحة، التجارية والعسكرية.
بدوره لا يخفي الكيان الصهيوني حاجته إلى "نقاط تموين وتبديل طواقم ومراقبة على امتداد البحر الأحمر"، ويسعى إلى التقارب مع السودان وإثيوبيا وجيبوتي، لأهداف عدة، أبرزها: "الضغط على مصر بملف مياه النيل، وتطويق الأمن العربي من الجنوب، والهيمنة على باب المندب".

أطماع سياسية
لطالما خدم توغل النفوذ السعودي والإماراتي الشامل مختلف مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية والمجتمعية والثقافية، وعلى مختلف المستويات الحكومية والمدنية والقبلية، تعزيز الهيمنة السعودية والإماراتية على القرار اليمني، وشل عوامل قوة اليمن.
استطاعت الهيمنة السعودية والإماراتية، تفخيخ اليمن بمراكز نفوذ وقوى محلية، تلتقي في الولاء للرياض وأبوظبي وشبكة مصالح غير قانونية تعمم الفساد، وساهمت في إبقاء اليمن دولة فاشلة وهشة ومفككة، وتبعا فقيرة وتابعة، ما سلب اليمن أمنه واستقراره وسيادته.
أنتجت هيمنة النفوذ السعودي والإماراتي في اليمن، واقعا مختلا، يغيب معه استقلال القرار اليمني، حد التدخل في تشكيلات الحكومات، وتسليح الجيش، وكبح عجلة التنمية الزراعية والصناعية، واستكشاف واستثمار الثروات الطبيعية، وتعطيل سيادة القانون والدولة.
امتدت تداعيات توغل نفوذ الرياض وأبوظبي في اليمن، إلى عجز الدولة اليمنية عن حماية أراضيها وحدودها، حتى بعد فرض اتفاقيات ترسيم حدود تثبت ابتلاع السعودية أراضي يمنية شاسعة (نجران وعسير وجيزان)، ومؤخرا منطقة "الخراخير" النفطية بحضرموت.
وقد أظهرت قوائم رواتب "اللجنة الخاصة باليمن" في مجلس الوزراء السعودي، ومثلها قوائم رواتب الإمارات، اشتمالها معظم قيادات الدولة والأحزاب والنقابات والمشايخ، وغيرهم ممن أظهرت الأحداث وتجاوزات التحالف، استمرار ولائهم وطاعتهم للسعودية والإمارات.

أطماع عسكرية
استمر واقع اليمن على هذا النحو منذ ما قبل اندلاع الحرب الأخيرة المستمرة بعقود، وازدادت حِدّة الهيمنة السعودية والإماراتية إلى الوصاية العلنية بعد اندلاع الحرب وتدخل الرياض وأبوظبي عسكريا في اليمن، وإنشائهما كيانات ومليشيات محلية، موالية لكليهما ومنفذة لأطماعهما.
نجحت السعودية والإمارات، في تأجيج الاضطراب في اليمن، وإعدام فرص استباب الأمن والاستقرار، وتوسيع دائرة الفقر، وبجانب استغلال الثقل السكاني لليمن كمورد للعمالة الرخيصة؛ أضافتا بعد اندلاع الحرب استغلال العامل السكاني في تجنيد المقاتلين المأجورين.
استطاع التحالف بقيادة السعودية والإمارات، منذ ما قبل الحرب، تبديد فرص وجود جيش يمني ولاؤه لليمن وسيادته وحماية أراضيه، وتفكيك أي قوات يمنية تظهر فيها العقيدة العسكرية الوطنية، وتدمير معسكراتها وبناها ومقدراتها بالقصف الجوي، واعتقال واغتيال قياداتها.
بالمقابل، عَمَد قطبا التحالف، إلى إنشاء عشرات الألوية من المقاتلين اليمنيين، ونشرها في مناطق نفوذ كل منهما، وتكريسها طوال سنوات الحرب لحسم صراع النفوذ بينهما في اليمن، بجانب نشر عشرات الألوية من المجندين اليمنيين لحماية الحدود السعودية مع اليمن.
حرصت السعودية والإمارات، عند تنفيذهما عمليات تجنيد المقاتلين اليمنيين المأجورين لكليهما، على اعتماد معايير مذهبية تعزز الولاء للرياض وأبوظبي، ومعايير مناطقية تعدم فرص اتحادهم ضد أي منهما، وتضمن توافر الحافزية والجاهزية الدائمة للقتال فيما بينها.
كما شيد التحالف بقيادة السعودية والإمارات، خلال الحرب، قواعد ومطارات عسكرية في أكثر من محافظة يمنية خاضعة لسيطرة قواته ومليشياته المحلية، وكرسها لتعزيز سيطرته واستمرار تفكك اليمن، وكذا لتقديم خدمات لوجستية واستخباراتية لأمريكا والكيان الصهيوني.

أطماع اقتصادية
برزت بين أهداف النفوذ والهيمنة السعودية الإماراتية على اليمن، أطماع اقتصادية، أخذت قبل الحرب واجهة "الاستثمار"، ومنحت أدواتهما الحاكمة في اليمن، لكل منهما امتيازات تمثلت في منحها الأراضي ومواقع المواد الخام كالاسمنت والرخام والحجارة ومعادن أخرى.
لكن مجمل "الاستثمارات" السعودية والإماراتية خلال الخمسين عاما الماضية، لم توفر ولو الآلاف من فرص العمل، أو عائدات جمركية وضريبية تذكر لليمن. على العكس تسببت المنتجات السعودية والإماراتية في ضرب الصناعات اليمنية وإضافة مئات الآلاف للبطالة.
وبجانب منح السعودية والإمارات، إعفاءات جمركية وضريبية طويلة الأمد، وفتح الأسواق اليمنية للمنتجات السعودية والإماراتية، من دون أي شرط أو قيد أو حتى فحص مواصفات ومقاييس جودة، في مقابل التشدد مع المنتجات اليمنية المصدرة لكليهما، جمركيا وفحصا، ظلت أجود الفواكه والخضروات والأسماك والمواشي، وأصناف البن والعسل والمكسرات، اليمنية؛ وما تزال تخصص للتصدير إلى السعودية والإمارات بأبخس الأثمان، بما في ذلك الخيول والصقور اليمنية الأصيلة والجِمال والحيوانات البرية، وكل ما هو نفيس وأصيل وقيّم في اليمن.
لم تكتف السعودية والإمارات، بثرواتهما الطائلة، وعملتا خلال سنوات الحرب، على استباحة الثروة السمكية في اليمن، عبر شركاتهما، واتباع نظام الصيد بالتفجير والجرف، وإعادة تصديرها على أنها منتجات سعودية وإماراتية، وبيعها دوليا بأسعار باهظة لجودتها العالية.
كذلك النفط اليمني الذي استمر تصديره من حضرموت وشبوة، من دون مناقصات أو إجراءات قانونية ودورة مستندية رسمية، ظلت عائداته تورد إلى البنك الأهلي السعودي وليس البنك المركزي اليمني في عدن، منذ بدء الحرب وحتى إيقاف صنعاء تصديره في 2023م.
يُضاف إلى هذا، تمكن السعودية والإمارات، بتعمدهما تدمير البنية التحتية لقطاع الخدمات والطاقة والصحة وتعطيل مؤسساتها في اليمن؛ من توطين شركات سعودية وإماراتية تجارية لتوفير مدخلات الخدمات (الوقود) وتقديمها بأسعار باهظة، تمتص دماء اليمنيين.
بالمقابل، ظلت إيرادات النفط اليمني وتبرعات مؤتمرات المانحين لليمن، تسهم في تمويل كثير مما يقدمه ما يسمى "البرنامج السعودي لإعمار وتنمية اليمن" و"مركز الملك سلمان للإغاثة"، وما تقدمه ما تسمى "مؤسسة خليفة للأعمال الإنسانية" و"الهلال الأحمر الإماراتي"!

أطماع ثقافية
شملت تداعيات النفوذ السعودي والإماراتي في اليمن، أطماعا ثقافية، تمثلت في سلب اليمن مركزه الحضاري والثقافي (التراثي)، تحويرا وسطوا للفلكلور اليمني الشفاهي والمادي، وغمرا ونهبا وتزويرا للتراث الثقافي اليمني، وتدميرا وتهريبا للآثار والمخطوطات.
تعرض الإرث الثقافي اليمني الحضاري الغني والمتنوع، لأبشع عمليات السطو الممنهج، من السعودية والإمارات والكيان الصهيوني، وصار الأطراف الثلاثة يسمون ما سطوا عليه وشيدوا له المتاحف من الإرث اليمني: "تراث سعودي"، و"تراث إماراتي" و"فلكلور يهودي"!!
وظهر لافتا، خلال سنوات الحرب، استهداف الطيران (السعودي -الإماراتي) مواقع ومدنا تاريخية ومعالم أثرية في مأرب والجوف وصعدة والمحويت وعمران وصنعاء وزبيد، وجميع أنحاء اليمن بلا استثناء، بجانب قصف المتاحف اليمنية في عدن وإب وتعز وغيرها، وتفجير المقابر والأضرحة.
كما ازدهرت أعمال النبش في المواقع الأثرية، وتهريب الآثار اليمنية المادية والمخطوطة، بكميات هائلة قدرتها ندوة دولية بنحو مليون قطعة ومخطوطة، قالت إنها خرجت من اليمن عبر شبكة محلية مرتبطة بمافيا دولية، تمر عبر دبي إلى الكيان الصهيوني، ومنه إلى المزادات الدولية!!
صار اليمن في العشرين عاما الأخيرة، مع تعاظم التبعية السياسية والاقتصادية للسعودية والإمارات، مستلبا ثقافيا، لدرجة تهافت شعرائه وأدبائه ومثقفيه على المشاركة في مسابقات سعودية وإماراتية أدبية وشعرية، وتنظيم مسابقات يمنية شعرية وأدبية باللهجة النبطية والخليجية!!

أطماع توسعية
نصل إلى أطماع، قد تبدو لكثيرين مستحيلة، لكنها في واقع اليوم، تظل واردة بعد نجاح السعودية والإمارات في إيصال اليمن إلى ما آل إليه سياسيا واقتصاديا وأمنيا وعسكريا ومجتمعيا، وتأثير الهزات العنيفة والصدمات المتوالية في جعل اليمنيين جاهزين لتقبل المستحيل باسم الخلاص.
لا تخفي السعودية، منذ السنوات الأولى لتأسس دولتها الثالثة، أطماعها في ضم المحافظات اليمنية الشرقية (شبوة، وحضرموت، والمهرة). سعى إلى ذلك عبدالعزيز بن سعود، بإرسال قواته لغزو حضرموت، ووصلت طلائع منها ودمرت عددا من أضرحة علماء بوصفها "مآثر شركية".
لاحقا، وعقب اندلاع ثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963م ضد الاحتلال البريطاني لعدن وجنوب اليمن، حرر الملك فيصل بن عبدالعزيز بن سعود رسالة منشورة إلى بريطانيا والأمم المتحدة، طالب فيها بفصل مفاوضات استقلال حضرموت عن مفاوضات استقلال عدن.
بدا أن فيصل الذي استقبل معظم حكام 33 سلطنة وإمارة ومشيخة ظلت تفرخها سلطات الاحتلال البريطاني في جنوب اليمن بمعاهدات صداقة ثم حماية واستشارة، لتبادل الاعتراف بالشرعية وتثبيت احتلالها عدن؛ كان يسعى إلى أن يقرن استقلال حضرموت بالانضمام إلى السعودية.
يعزز استمرار هذا الهدف/ المطمع للسعودية، دعمها أثناء رعايتها وتمويلها "مؤتمر الحوار الوطني" في العاصمة صنعاء وحرف مساره نحو تقسيم اليمن إلى أقاليم اتحادية، جعل حضرموت إقليما مستقلا يضم محافظات المهرة وسقطرى وشبوة، اللاتي احتجت قبائلها على الضم والإلحاق، لأسباب تاريخية.
يُضاف إلى هذا، تضمين مسودة "دستور اليمن الجديد"، مواد لا سابق لها في دساتير دول العالم، منها أن "الشعب يحتفظ بحقه في تغيير نظامه السياسي بالطريقة التي يراها"، ما يفتح المجال لسكان كل إقليم لإعلان الاستقلال عن "اليمن الاتحادي" بدولة أو الاتحاد كونفدراليا أو فيدراليا أو اندماجيا مع أي دولة!
هذه المادة ضمن مواد "مسودة الدستور" المناهز عددها الخمسمائة! ومواد أخرى، تعد من أبرز ألغام عدة جرى إعدادها بعناية في مسودة الدستور، ليؤدي انفجارها الحتمي إلى التشظي المنشود لليمن، من رعاة "الربيع العبري" ثم "الفوضى الخلاقة" ثم "مؤتمر الحوار"، ثم "الحرب الأهلية" في اليمن.
ولا ينبغي هنا، إغفال تأكيد السعودية، على لسان قائد قواتها في تحالف الحرب على اليمن، ولسان رئيس "اللجنة الخاصة باليمن" في مجلس الوزراء السعودي، الزائر لحضرموت، مؤخراً، أن "علاقة السعودية بحضرموت تاريخية وراسخة" في إشارة إلى النفوذ السعودي الطويل في حضرموت.
بالمقابل، تظهر أطماع توسعية مماثلة للإمارات في اليمن. عبّر عنها سياسيون بارزون في الإمارات، عند حديثهم عن أن "سقطرى إماراتية" وأن "سكانها يريدون الانضمام للإمارات" وسيتم "منح سكانها الجنسية الإماراتية"! لم يعد مثل هذا الطرح ضربا من الخيال، فقد تم التأسيس له ديموغرافيا.
عَمَدت الإمارات، وما تزال، لإحداث تغيير ديموغرافي في محافظة سقطرى اليمنية، عبر زواج إماراتيين من نساء المحافظة، ومنح الجنسية لأعداد كبيرة من سكان المحافظة، وشراء إماراتيين أراض شاسعة في المحافظة بدعوى الاستثمار، وبتسهيل من السلطات المحلية الموالية للإمارات.
الحال نفسها، مع باقي محافظات جنوب اليمن، وسبق لسياسيين بارزين في الإمارات الحديث عن "اتحاد الإمارات مع الجنوب العربي"، وبالمثل قيادات بارزة في الذراع السياسية والعسكرية للإمارات في جنوب اليمن (المجلس الانتقالي الجنوبي)، أن عبروا عن "حلم اتحاد الجنوب العربي مع دولة الإمارات".
لا يتطلب مثل هذا الضم (الاتحاد) حدودا مشتركة بين جنوب اليمن ودولة الإمارات. إذ يمكن أن يقوم اتحاد كونفدرالي أو فيدرالي أو حتى اتحاد اندماجي عابر للحدود، كما هو الحال مع بريطانيا وفرنسا اللتين مازالتا تحتفظان بجزر وأراضٍ حول العالم، تابعة لسيادتهما الكاملة.
تظل كل السيناريوهات، واردة، في ظل حال الدولة اليمنية المنهارة ومؤسساتها المفككة، وقواها المتناحرة، وجماهير شعبها المضللة والمغرر بها، والساخطة على الحياة الضنكى التي تعيشها معظمها جراء تردي الأوضاع العامة وتدهور الخدمات وانهيار قيمة العملة وانقطاع الرواتب، وشظف العيش.
لكن الأمل يبقى معلقا على الوعي الشعبي، لقطاع واسع من اليمنيين، بحقيقة المؤامرة على اليمن والمنطقة، وأن الإعداد لها سابق للعام 2011م، بما لا يقل عن عشرين عاما على الأقل، قبل إعادة توحيد شطري اليمن سياسيا، فالإعداد لما يسمى "الشرق الأوسط الجديد" سبق بسنوات أول إعلان عنه في العام 2007م.

المشهد الجنوبي
أنتجت دورات الصراع السياسي في جنوب اليمن وبين جنوب اليمن وشماله، ما بات يُعرف سياسيا "القضية الجنوبية"، والتي يؤرخ لها دعاة انفصال جنوب اليمن بحرب صيف العام 1994م، رغم أن خلفياتها وتداعياتها ترجع إلى ما بعد انتزاع الاستقلال من الاحتلال البريطاني لعدن وجنوب اليمن.
بدأ حراك "القضية الجنوبية" حقوقيا، يطالب بمعالجة آثار الحرب على صعيد الإقصاء السياسي والإداري والعسكري، للتيار الجنوبي المنهزم في "حرب 94"، وسقوط محاولته إعادة انشطار اليمن سياسيا إلى دولتين (نظامي الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية).
لكن هذا الحراك سرعان ما تبنى إعلان نائب رئيس اليمن الموحد (الجمهورية اليمنية) علي سالم البيض "فك الارتباط" في مايو 1994م، بعد خلافات بين حزبي الائتلاف الحاكم (المؤتمر الشعبي والاشتراكي اليمني)، إثر أول انتخابات نيابية، فاقمتها اغتيالات وتدخلات خارجية وأدت لانفجار الحرب.
تفرعت عن الحراك الجنوبي، مكونات سياسية تتبنى "فك الارتباط"، مع اختلاف في الرؤية، قبل أن يستحوذ على المشهد "المجلس الانتقالي الجنوبي" المُعلن تأسيسه في مايو 2017م بقيادة الضابط السابق في وزارة الداخلية قبل 1994م، عيدروس قاسم الزُبيدي ودعم وتمويل علني من دولة الإمارات.
طغت على تأسيس "الانتقالي الجنوبي" خارطة مناطقية لقياداته السياسية (الضالع -يافع) وتشكيلاته العسكرية التي موّلت إنشاءها الإمارات لتغدو ما تسمى "القوات المسلحة الجنوبية"، وتبدأ منذ نهاية العام 2018م عمليات بسط سيطرتها ونفوذها على جنوب اليمن بدعم الطيران الحربي الإماراتي.
انتهج "الانتقالي الجنوبي" نهج التنظيم الشمولي، وأقصى المكونات السياسية الجنوبية وأنشأ نسخا موالية له ودعواته الانفصالية، من التنظيمات الجماهيرية والنقابات المهنية والمنظمات المدنية، وتصدر قائمة الأطراف الأكثر انتهاكا لحقوق الإنسان والمواطنة والحريات، حسب تقارير منظمات حقوقية.
استطاع تنظيم "الانتقالي" بقوة السلاح، فرض نفسه المكون الجنوبي الأقوى في الساحة، مُقدما نفسه "ممثلا للجنوب"، وأنه "مفوض من الشعب الجنوبي" استنادا إلى تظاهرة لأتباع قياداته، أقيمت في ساحة العروض بمدينة عدن، بالتزامن مع إعلان تأسيسه، وسط رفض مكونات الجنوب هيمنته ووصايته.
يتبنى هذا التيار الانفصالي شعار "استعادة دولة الجنوب العربي"، الكيان الاتحادي الذي فرضته سلطات الاحتلال البريطاني نهاية 1962م، في حين يرفع راية علم ما عُرف عقب إجلاء الاحتلال البريطاني في 30 نوفمبر 1967م "جمهورية اليمن الشعبية" ثم "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية".

صراعات نفوذ
يجاهر قيادات "الانتقالي الجنوبي" بالولاء المطلق لدولة الإمارات، حد تعليق علمها وصور حكامها على صدورهم كما في ميادين وشوارع المدن الخاضعة لسيطرة تشكيلاته العسكرية، ويظهر "الانتقالي الجنوبي" ذراعا سياسية وعسكرية لدولة الإمارات في جنوب اليمن، يتبنى مواقفها وخدمة مصالحها.
تسبب النهج الشمولي لهذا الكيان، الذي يجسد شعار "لا صوت يعلو على صوت الحزب" لسلفه في حكم جنوب اليمن (الحزب الاشتراكي اليمني)، في التصادم مع قبائل محافظات الجنوب، وتشكل مكونات (مجالس وطنية وأحلاف قبلية) مناهضة لهيمنته ووصايته على الجنوب وادعائه "تمثيله وشعبه".
لكن "الانتقالي الجنوبي" استطاع مؤخرا، نشر تشكيلاته العسكرية وبسط سيطرتها على كامل المحافظات الجنوبية، ضمن عملية سماها "المستقبل الواعد لتحرير الجنوب"، بما فيها المحافظات الشرقية لليمن (شبوة، وحضرموت، والمهرة) الحدودية مع السعودية، ما اعتبرته الأخيرة "مساسا بأمنها القومي".

سيناريوهات الفرتكة
فرض رعاة "المبادرة الخليجية"؛ رعاة تحالف الحرب لاحقا، وثيقة مخرجات لمؤتمر الحوار (2013-2014م) ومسودة دستور، لا يتضمنان أي جديد نوعي على صعيد إنهاء أسباب رئيسة للصراعات السياسية أو جبر أضرارها، عدا إنهاء دولة اليمن الموحد (الجمهورية اليمنية) واستبدالها بـ"اليمن الاتحادي".
جرى خلال 12 يوما، بدأت بإصدار الرئيس المؤقت "التوافقي" عبد ربه منصور هادي قرارا يخرق "شرعية التوافق" بتشكيل ما سمي "لجنة الأقاليم الاتحادية" وعقد اجتماع معها، ثم اجتماع ثان للجنة، وانتهت باجتماع ثالث أعقبه قرار ثان بتقسيم اليمن إلى ستة أقاليم ذات دساتير وسيادة تخول كل إقليم تقرير مصيره السياسي!
لم يراع قرار تحديد الأقاليم الستة، أي معايير تاريخية أو جغرافية أو سكانية أو اقتصادية أو تنموية، وظهر أبرز معايير التقسيم خارطة التوزيع الإثني (المذهبي) لليمن المُعدة من وكالة المخابرات الأمريكية، أضف إلى تأصيل حدود الاحتلالين التركي البريطاني لليمن، وتشطيره إلى يمن شمالي ويمن جنوبي!
أسقط قرار التقسيم مبدأ مخرجات الحوار وداعي التقسيم "المساواة في المواطنة والشراكة في السلطة والثروة"، بتجاهله في تحديد الأقاليم الستة، التباين الكبير في المساحة وتعداد السكان وتبعا الصوت والتمثيل الانتخابي، والتفاوت الخطير في الموارد الاقتصادية وتبعا التنمية وحقوق المواطنة ومستوى المعيشة... إلخ.
يُضاف إلى أبرز المآخذ على قرار الأقاليم الاتحادية، إغفاله الأعباء الإدارية والمالية لشكل الدولة (مجالس شيوخ ونواب ومجالس محلية وحكومات لكل ولاية في كل إقليم وعلى مستوى كل إقليم ومثلها مجالس مركزية)، في وقت يبرز الحكم المحلي واسع أو كامل الصلاحيات، حلا أيسر وأوفر لمشكلات المركزية.
وقد قوبل قرار تقسيم اليمن إلى "ستة أقاليم اتحادية" باحتجاجات شعبية وقبلية واسعة، كان أبرزها اعتراض المواطنين في محافظة المهرة على ضم محافظتهم (وريثة مملكة الشحر المهرة) ضمن إقليم حضرموت، وبالمثل المواطنون في شبوة (وريثة مملكة قتبان وحاضنة سلطنات ومشيخات قبل 1967م).
مع ذلك، وفي حال استطاعت السعودية إنهاء النفوذ الإماراتي في جنوب اليمن، وضغطت باتجاه تنفيذ "مخرجات مؤتمر الحوار"، فإن المعطيات تشير إلى أن أي استفتاء شعبي سيرفض الأقاليم الستة كما أعلنت، وترجح إجراء 3 سيناريوهات للتعديلات جنوبا، أبرزها تحويل إقليمي جنوب اليمن (حضرموت وعدن)، إلى إقليم واحد.
كما ترجح معطيات الواقع وخارطة القوى المحلية، سيناريو توسيع عدد الأقاليم في جنوب اليمن إلى ثلاثة (المهرة وسقطرى، حضرموت وشبوة، عدن أبين لحج والضالع)، أو -وهو الأرجح- إلى أربعة أقاليم (المهرة وسقطرى، حضرموت، شبوة والبيضاء، عدن أبين لحج والضالع).
ويظل المتوقع، إعادة النظر في جغرافية إقليم "آزال" بفصل صعدة والجوف عنه وضم حجة إليه مع تسميته باسمه التاريخي "معين"، وتغيير اسم إقليم "الجند" باسمه التاريخي "حِمير" أو "ريدان" مع ضم الضالع إليه، وأن تُضاف إلى إقليم "تهامة" مديريات (المخا وذوباب وموزع والوازعية) ومديريتي رأس العارة والمضاربة.
سيناريوهات الانفصال
لا يظهر امتلاك "الانتقالي الجنوبي" رؤية واضحة لما يسميه "دولة الجنوب"، وظل ينادي بـ"استعادة دولة الجنوب العربي"، الاتحاد الذي فرضته سلطات الاحتلال البريطاني بالقوة نهاية 1962م وسارعت لاستصدار اعتراف أممي به، في مسعى لمنع امتداد الثورة من شمال اليمن إلى جنوبه، ضد نفوذها.
لم تستطع سلطات الاحتلال ضم جميع الكيانات التي ظلت تدعم إنشاءها وصنع هويات خاصة لكل منها في جنوب اليمن (علم ونشيد، طوابع بريد، وعملات)، ليتجاوز عددها 33 كيانا (سلطنة وإمارة ومشيخة)، مقابل تبادل الاعتراف بالشرعية والخضوع لبريطانيا بمعاهدات حماية واستشارة (وصاية).
مع ذلك سرعان ما اندلعت في 14 أكتوبر/ تشرين الأول 1963م الثورة المسلحة في جنوب اليمن ضد الاحتلال البريطاني، بإسناد وإمداد عسكري من الجمهورية الوليدة في شمال اليمن بدعم من مصر، واستطاعت الثورة وأد المشروع البريطاني (اتحاد الجنوب العربي) وإلغاء اتفاقية الحماية والوصاية البريطانية معه.
لكن بريطانيا سلمت الحكم عقب انتزاع الاستقلال إلى "الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن"، التي غدت لاحقا "الحزب الاشتراكي اليمني"، ودخل جنوب اليمن في دورات صراع دامية، جراء إنهاء سلطنات وإمارات ومشيخات جنوب اليمن بالقوة، ورياح الأيديولوجيا الاشتراكية وتياراتها، ورسوخ النفوذ القبلي.
انضم النظام السياسي في جنوب اليمن للمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي، وغدا أحد مراكزه السياسية والعسكرية في المنطقة، وتبنى "تصدير الثورة" ضد "النُظم الإقطاعية والرجعية"، ما تسبب في الاشتباك مع سلطنة عُمان والسعودية واستعداء دول المنطقة للنظام السياسي الاشتراكي في جنوب اليمن.
مع ذلك، يرفع "الانتقالي الجنوبي" راية "جمهورية اليمن الديمقراطية" بنجمتها الحمراء، رغم ما اقترن بها من دورات صراع دامية وما راكمته من خصومات وأدران مناطقية وقبلية، تبعا لمناطق وقبائل أربعة رؤساء تعاقبوا حكم جنوب اليمن وأطيح بهم تباعا بانقلابات دامية خلال 20 عاما.
ومؤخرا فقط بالتزامن مع ذكرى تأسيسه، تبنى "المجلس الانتقالي الجنوبي" في مايو الفائت (2025م) في خطابه ما سماها "الدولة الفيدرالية الجنوبية"، في مسعى لاحتواء المحافظات الجنوبية الرافضة هيمنته ووصايته، لممارساته الشمولية، وخصومات قديمة مع مناطق قيادات "المجلس الانتقالي" (الضالع -يافع).
ترافق هذا التحول في خطاب "الانتقالي الجنوبي" نحو ما سماها "الدولة الفيدرالية الجنوبية"، خلاف وانعدام التوافق على اسم هذه الدولة، حتى بعد حصر رئيسه خياراته في ثلاثة: "الجنوب العربي"، "اليمن الجنوبي"، و"حضرموت الفيدرالية"، حسبما أعلن عيدروس الزُبيدي مؤخرا، ضمن مساعي استمالة حضرموت.
يظل واردا في حال لم تستطع السعودية إنهاء النفوذ الإماراتي في جنوب اليمن وإخراج قوات "الانتقالي"، فرض سيناريو دولة جنوب اليمن على حدود التشطير (التركية -البريطانية) لليمن 1911م، والعودة إلى ما قبل 1990م ودولة "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" التي يرفع "الانتقالي الجنوبي" راية علمها.
لكن السيناريو المرجح بتوافق (سعودي -إماراتي) هو السير بجنوب اليمن نحو "دولة جنوبية فيدرالية اتحادية" تعيد إحياء 33 سلطنة وإمارة ومشيخة أنشأتها بريطانيا في جنوب اليمن، ويقيم أحفاد حكامها ما بين السعودية والإمارات، وأصدر "الانتقالي الجنوبي" مؤخرا قرارا بتشكيل مجلس لهم سماه "مجلس الشيوخ".
يكتسب هذا السيناريو، أهمية وتفضيلا لدى "الانتقالي الجنوبي"، لكونه قد يضمن احتواء جميع محافظات جنوب اليمن، إضافة إلى إحياء اسم "الجنوب العربي"، وتبعا معاهدة الحماية والوصاية التي أبرمتها بريطانيا مع قادته، وتحيل بنوده جنوب اليمن إلى مقاطعة تابعة لبريطانيا ومجلس العموم البريطاني.
مع ذلك يظل واردا في حال فشل السعودية في حسم صراع النفوذ مع الإمارات بجنوب اليمن، فرض سيناريو فرتكة جنوب اليمن إلى أربع دويلات على الأقل، هي "المهرة" وتضم سقطرى، و"حضرموت"، و"شبوة"، و"عدن" وتضم بجانب عدن، محافظات أبين ولحج والضالع، ما يسمى محليا بـ"المثلث" إشارة لمناطق قادة "الانتقالي".
في حال حدث هذا، لا يتوقع أن ينعم جنوب اليمن بالاستقرار أو الازدهار، ويرجح أن تتجدد الصراعات في التاريخين القديم والمعاصر. لأسباب ترجع إلى عجز كل دويلة عن تغطية نفقات إدارة شؤونها وتنميتها، لشح الموارد المتاحة الآن لكل دويلة، باستثناء حضرموت وشبوة، اللتين تملكان موارد نفطية مكتشفة.
هذا يعني دخول جنوب اليمن في وضع أسوأ مما كان عليه قبل 1990م، ومما هو عليه الآن. وبالمثل شمال اليمن، الذي لن يكون بمنأى عن هذا الوضع وتداعياته، وسيتضرر منه بكل تأكيد، إن ليس اقتصاديا، فستكون الأضرار أمنية ومجتمعية، جراء موجات نزوح كثيفة من الجنوب إلى الشمال.
ولأن اليمنيين في حال مضوا بهذا الاتجاه التشطيري، سيكونون قد كرروا أخطاء الماضي من دون اتعاظ بدروس الماضي القريبة البعيدة نفسها؛ فإن الأرجح أن تدفعهم المعاناة الجماعية، إلى إعادة التصحيحات الموضوعية نفسها، بإعادة توحيد اليمن مجددا، على قاعدة السيادة والعدالة.

أترك تعليقاً

التعليقات