استغلال عدن!
 

ابراهيم الحكيم

إبراهيم الحكيم / لا ميديا -
لا تدري كيف يُسمى احتلال أجنبي، غاصب للأرض، وسالب للسيادة، وناهب للثروة، "استعمارا"! لا تستقيم صفة التعمير والإعمار مع سلوك استسخار الاحتلال الأجنبي. لم تكن عدن "لندن الشرق الأوسط" كما يشاع، من رعايا الاحتلال الحاصلين على المخلقة (شهادات الميلاد البريطانية)! مثلما لم تصبح "دبي" كما أشاع الموالون للتحالف!
يقر بهذا حاكم التاج البريطاني في بومباي، السير روبرت جرانت، في رده الموثق على طلب قائد غزو عدن، الكابتن ستافورد هينز، اعتماد ميزانية لتحصين المدينة: "لم نأتِ للإعمار، بل لضمان ازدهار مصالح جلالة الملكة"، راسما بهذا سياسة الاحتلال البريطاني والاستغلال الانتهازي لجنوب اليمن طوال 129 عاما.
ظل الهدف من احتلال بريطانيا لعدن ثم جنوب اليمن، عسكرياً واقتصادياً في المقام الأول، وانعكس هذا على سياسة وأشغال سلطات الاحتلال، التي لم تشيد بناء إلا لخدمة مصالح التاج البريطاني وديمومة حامية الاحتلال والجاليات والوكالات الأجنبية، وعلى نحو جسد ما يصفه المؤرخون أبشع صور الاستغلال.
لم تكن عدن قبل الاحتلال البريطاني قرية ريفية أو مدينة هامشية بالمنطقة، بل كانت حاضرة اليمن وثغره المحصن وخزانة ملوكه ودوله عبر الزمن، بوصفها سوقاً تاريخية وميناء محورياً ظل معبراً رئيساً للملاحة بين ثلاث من أهم القارات، ما جعله محل أطماع قوى العالم عبر التاريخ، ولولا أنه كذلك ما كانت احتلته بريطانيا.
حسمت بريطانيا باحتلالها عدن بداية 1839م لصالحها الصراع الأوروبي على طرق الملاحة الدولية، بين مواطن الثروات الطبيعية بقارتي أفريقيا وآسيا، ومصانع قارة أوروبا. وباتخاذها عدن قاعدة عسكرية بحرية ثم جوية، وسعت رقعة الإمبراطورية وضاعفت مكاسبها التجارية والصناعية وهيمنتها السياسية والعسكرية.
احتلت بريطانيا من عدن جزيرة ميون بباب المندب، وتوسعت شرقا في الخليج العربي وجنوب قارة آسيا، وغرباً وشمالا في أفريقيا، لتسيطر على أهم المضايق البحرية في العالم، وتسهم بوارجها في حسم الحربين العالميتين لصالحها، وفي تثبيت ربيبتها "إسرائيل"، بتهجير اليمنيين والأفارقة اليهود عبر عدن بحراً وبراً إلى فلسطين.
فعليا، لم يبن الاحتلال البريطاني في عدن وجنوب اليمن شيئاً ليس لمصلحته هو وحاشيته وجنوده، ومدرا للأرباح. حتى أنه ألغى مشروع سكة حديد "أبين - لحج - عدن" لضعف إيراداته، وأعاد القطار إلى الهند!! وكل ما بناه على محدوديته انحصر في عدن وأحياء إقامة الحاكم البريطاني وحاشيته وضباط جيشه.
اقتصاديا، أضاف الاحتلال لميناء عدن خدمة تزويد السفن بالفحم ثم بالوقود عقب تشييد مصافي عدن عام 1954م إثر تأميم رئيس وزراء إيران، محمد مصدق، المصافي، ثم بإعلانه "منطقة حرة" غدا سوقاً للسلع البريطانية والأوروبية ومنطقة ترانزيت سياحية، تعود إيراداته للفنادق والبارات المحتكرة معظمها للبريطانيين والأوروبيين.
وبجانب استغلال الاحتلال موارد جنوب اليمن من الأسماك والقطن والبن والملح والجلود والزيوت والعسل والمعادن وحتى روث الطيور (السماد)؛ احتكر الوكالات والشركات التجارية مستثمرون بريطانيون وأوروبيون وهنود، مثلما قصرت الوظائف الرفيعة على البريطانيين والجاليات الأجنبية التي شجع استقدامها لمسخ هوية عدن وإذابة قوميتها.
فرضت مصالح بريطانيا إعادة تخطيط مدينة عدن، وفق معايير عسكرية وأمنية واقتصادية، وتشييد مستشفى عسكري، ومحطة تحلية مياه وشبكة مجارٍ، ومحطة كهرباء، وشبكة اتصالات (تليغراف وبريد)، ومدارس محدودة، وتعبيد (سفلتة) شوارع، وتشييد مبانٍ سكنية، ظلت استثمارات لخدمة ورفاه البريطانيين والجاليات الأجنبية.
صحيح أن عدن اتسعت خارج المدينة القديمة (صيرة) التي سماها الاحتلال كريتر (فوهة بركان)، وأنشأ أحياء "التواهي" مقرا للحاكم البريطاني وقيادة حاميته، و"المعلا" مقرا للجاليات والوكالات الأجنبية بعد توسيعه مُعلا صناعة وصيانة القوارب والسفن إلى ميناء، و"خور مكسر" بعد تشييد قاعدة جوية، و"البريقة" بعد إنشاء مصافي عدن؛ لكن جُل هذه المشاريع ظلت إما بنظام القرض المسترد بفائدة من رسوم خدماتها وإما استثمارا تجاريا لتجار أجانب، ولم تجعل من عدن بحداثة لندن أو حتى نهضة مثيلاتها في الاحتلال: هونج كونج مثلا، التي لم تكن تذكر قبل الاحتلال وصارت بعده تملك بنية تحتية صناعية ساهمت بجعلها من اقتصاديات العالم.
حتى إنشاء دور سينما وإذاعة ثم تلفزيون عدن، جاء متأخرا بعقود عن لندن، وكرست مضامينها لدعاية بريطانيا العظمى وتسويق سلعها. ظلت عروض السينما والإذاعة بشمال اليمن مصدر تندرهم: "أحمد يا جناه"! وإذاعة عدن أنشأها الاحتلال عام 1954 بعد إذاعة صنعاء (1947)، لصد المد الثوري التحرري لإذاعة "صوت العرب" بمصر.
وليس صحيحا أن عدن كانت في عهد الاحتلال البريطاني الأولى على مستوى المنطقة في الحداثة ونشأة الصحافة والطيران المدني، فشمال اليمن عرف أول صحيفة: "صنعاء" (عام 1878)، و"الإيمان" (1926)، وأول مجلة: "الحكمة" (1934)، بينما كانت أول صحيفة في عدن "جريدة عدن" عام 1900، و"فتاة الجزيرة" عام 1940.
كذلك ما يتعلق بالطيران المدني، أنشأت حكومة "المملكة المتوكلية اليمنية" أول مطار مدني ثم عسكري في شمال اليمن بصنعاء عام 1927، وتأسست رسميا شركة طيران اليمن مطلع العام 1949، وفي عدن أنشأ الاحتلال البريطاني قاعدة جوية عام 1917، ثم أنشأت الخطوط الجوية البريطانية (BOAC) "طيران عدن" مطلع 1950.
يكفي لبيان انتهازية الاحتلال البريطاني أن أول مدرسة أنشأها في عدن (البادري) كانت بعد 15 عاما على الاحتلال، ولغاية تعليم الإنجليزية لأبناء السلاطين والمشيخات، وأغلقها بعد عامين ولمدة 20 عاما، قبل أن يبدأ لاحقا تشييد مدارس بعدد الأصابع، تخضع للمنهج الهندي البريطاني، ومحصورة على مواليد عدن "البريطانية".
ظلت الخدمات الطبية في عدن محدودة بعيادات كنائس الجاليات الأوروبية، وبقيت الأمراض تنهش وتحصد سكان عدن حسب تقارير "وزارة المستعمرات البريطانية"، وشيدت أول عيادة للأمومة والطفولة من ريع احتفالات "مئوية احتلال عدن"، ثم أول مستشفى عام باسم "الملكة اليزابيث" بالتزامن مع تدشينها مصافي عدن عام 1954!
الخلاصة: لم يكن الاحتلال البريطاني لعدن وجنوب اليمن "استعماراً" حتى في ظاهره التجميلي، قدر ما كان استسخاراً، عنوانه استغلال امتيازات الموقع الاستراتيجي، واهتبال ثروات الأرض، وإعلال قدرات الشعب تجهيلا وتمزيقا وإهداراً، من دون ثمن أو فضل يستدعي أي مَنٍّ، قبل أن يتحد اليمنيون بثورة 14 أكتوبر ويدحرونه بالقوة.

أترك تعليقاً

التعليقات