تخطيط الفشل!
 

ابراهيم الحكيم

إبراهيم الحكيم / لا ميديا -
بين الخُطّة والحُطَّة بون شاسع يجسد بجلاء الفرق بين التخطيط والتخبيط، وما بينهما من خُطط وحُطط وتنطيط وتحطيط للمقدرات وتشفيط للموازنات وتلقيط للمساعدات والقروض وفوائدها المهلكات وشروطها المذلات مقابل تعويم المشكلات بحلول محدودة النطاقات، تعجز عن مواجهة تفاقم الاحتياجات، وتعدم المعالجات الكلية الاستراتيجية!
تلك خلاصة عامة لواقع الحال في بلاد لم تخل حكومة فيها طوال نصف قرن من وزارات تخطيط! ظلت محصلة “التخطيط” رغم تهويم الإنجازات، تقزيم المعالجات وتقليم الانفراجات وتقطيم الخَلاصات وتقتيم السنوات، وتحطيم التطلعات وتلغيم التجمعات بتنامي الاحتياجات، وسخط الخيبات ووقود الانتفاضات وحطب الصراعات وخسارة “المكتسبات”!
المشكلة بقيت في غاية هذا “التخطيط”. بدت أنها التقريع بالترقيع،ومعه التمطيط للمعاناة، بمخرجات “تخطيط” إسعافية مؤقتة لا تلبي الاحتياجات الآنية ولا تسعى أصلا لتلبية تناميها على المدى المنظور. هذا المدى لم يكن منظورا بالأساس وكذلك المدى الأبعد، المستقبل، لأن النظر لم يكن يتخطى حدود الأنف، وعلى قاعدة عمل “ما بدا بدينا عليه”!
والنتيجة تخطيط ارتجالي لا ينم عن أدنى معايير التخطيط. وسياسة عمل تنتظر ظهور المشكلة، تفاقم الحاجة، تعقد المعضلة، للتحرك، بدء الحديث عنها والسعي لحلول آنية مؤقتة، مجرد مسكنات، تستنزف في الوقت نفسه جهد ومال ووقت معالجات كبرى لخمسين أو مائة عام. نهج ترقيعي، تستعصي معه الخروق على مقدرة الرتق وقدرات الراتق!
اعتماد آلية “ما بدا بدينا عليه” في هذا القطاع أو ذاك، ارتبط بنهج طلب دعم ومساعدات إسعافية من الدول والمانحين وهيئات ومنظمات دولية مدنية، بجانب قروض صناديق تنمية خليجية وبالطبع قروض البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. أدوات الوصاية وفرض الهيمنة الخارجية وتعميم وفرض العولمة أو النظام العالمي أحادي القطب بقيادة أمريكا!
هذه المساعدات والمنح والقروض، ظلت مجالا للفساد المنظم المزدوج من جهة المانح والدائن ومن جهة الممنوح والمدين. تذهب نصف المبالغ نفقات دراسات وأجور خبراء دوليين وزيارات ولقاءات بل وورش عمل وندوات تفضي لتوصيات تؤكد المؤكد ولا تعالجه. والنصف الآخر يذهب ربعه أجور ونفقات لجان تنسيق محلية وفرق إشراف وتنفيذ للمشروع!
عند تنفيذ المشاريع تظهر ممارسات فساد أخرى في اختيار المكتب الهندسي الاستشاري والمكتب الهندسي التنفيذي والمقاولين المتقبلين للمشروع والمقاولين المنفذين من الباطن، ثم تجاوزات في المناقصات الشكلية وفي عقود المشروع وفي فوارق أسعار صرف المبلغ المعتمد بالعملة الأجنبية ثم فارق أسعار المواد المقرة في عطاءات المناقصات وعند توقيع العقود!
كذلك تظهر نفقات وضع حجر أساس ثم نفقات زيارات تفقدية ثم نفقات قص شريط ثم تدشين.. الخ ما ينتج عنه مشروع هزيل لا يتجاوز في حالات كثيرة مدرسة من ٤ فصول إلى 6 فصول -في أحسن الأحوال- مع ٣ حمامات ومرفق إدارة وبوفيه تغذية وساحة طابور تحية العلم ومن دون سور غالبا أو تعبيد طريق يسهل الوصول لموقع المدرسة!
والمحصلة، عوز مجتمعي للخدمات، وقصور في تلبية احتياجات السكان، عجز منشآت التعليم والصحة والكهرباء والمياه والصرف الصحي عن تغطية احتياجات أقل من نصف السكان بعموم الجمهورية. استمرار نصف اليمنيين أميين (أمية القراءة والكتابة) وفقراء معدمين، وعاطلين عن العمل، ونهبا لأوبئة وأمراض مقيمة رغم اندثارها عالميا منذ عقود!
هذا ما تكتشفه عند مطالعة كتب الإحصاء السنوي الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء. تصدم وأنت تطالع البيانات الحيوية للجمهورية، حتى ما قبل دخول البلاد في متاهة الصراع والحرب. أرقام حكومية، تظهر حقيقة الوضع، ولا تملك إلا أن تتحسر على غياب التخطيط الجاد والعملي والمجدي، بمنظار يتجاوز الحاضر إلى المستقبل، والإعداد له.

أترك تعليقاً

التعليقات