مجســـات!
 

ابراهيم الحكيم

إبراهيم الحكيم / لا ميديا -

تعلمنا الأحداث ومجرياتها، في زمن ثورة وسائل الإعلام ووسائط التواصل، أن نتوخى حيال ما تطالعنا به الأيام من أحداث وما تنقله لنا هذه الوسائل والوسائط، بجانب تحري أصالة المصدر وصدق المحتوي وصحة الصور والفيديو؛ أمرين اثنين: الأول مجس الاختبار، والثاني صرف الاهتمام والأنظار. فهما أداتان رئيسيتان في إدارة شؤون عالم اليوم والتحكم بمسارات أحداثه ومجرياتها.
من ذلك مثلا - لا حصرا - إذكاء رسوم الكاريكاتير المسيئة للإسلام والرسول الخاتم الأكرم، في فرنسا هذه المرة. أرى أن مثل هذا الحدث بجانب خلفياته وقتل المدرس الفرنسي، جاء بمثابة مجس اختبار لتفاعلية الشعوب الإسلامية والعربية من ناحية، وصرف أنظارها عن التطبيع مع الكيان الصهيوني من ناحية ثانية، بجانب كونه توجها أفصح عنه «البابا» وبه نصح.
مع الأسف، كانت نتيجة مجس الاختبار لأمة المليار ونصف المليار مسلم، وقيل ملياري مسلم، سلبية للغاية وعلى نحو عكس حالة تيه وهوان وضعف وذل، نمتها الأداة الثانية (صرف الاهتمام والأنظار) إلى ما دون أسباب الخلاص، والإدراك والنهضة والقوة والعزة، أكان ببذر الشقاق ونشر النفاق، أو بملهاة الانشغال بلهاث تأمين القوت والصحة، والتعايش مع الأغلال.
باستثناء مواقف باهتة، مباشرة كانت أو مراوغة، عبرت عنها بيانات بعض الحكومات والهيئات العربية؛ انحصرت المواقف الشعبية ذات الطابع الجماهيري، في إيصال الرسالة، رغم أن الأخيرة غدت منذ 2011 وسيلة التعبير الأولى في المنطقة وأداة التغيير والتدمير أيضاً، والنفخ في سعير حرائق المنطقة المستمر اشتعال نيرانها بمراوح ورياح ثبت أنها خارجية، غالبا.
يكاد يكون اليمن منفردا وربما الأبرز عربيا وإسلاميا، في جانب الفعاليات الشعبية والجماهيرية المتصدرة للاحتفاء بالرسول الأكرم وتأكيد الاعتزاز به والرفض لمحاولات الإساءة لمقامه والانتقاص من رفعته والطعن في سمو رسالته وحقيقة كونها دين الله وشريعته ورحمة وهداية من لدنه جل جلاله، للعالمين، وما التطرف والإرهاب إلا من دسائس أعداء الله ودينه الحق.
عدا ذلك، برزت حملة تدعو لمقاطعة المنتجات الفرنسية، وجدت تفاعلا، يظل محدودا، من شركات ومراكز تسوق ومتاجر في عدد محدود من الدول العربية، بينما جرى حظر الدعوة للحملة في غالبية الدول، رغم أن الدول العربية والإسلامية في هذا السياق، تستطيع حرمان فرنسا 100 مليار دولار هي حجم التبادل التجاري معها سنويا، وفق تقرير اقتصادي لوكالة «الأناضول» التركية.
قطعا، ليست دواعي حماية حرية الرأي والتعبير وحق الاختلاف، هي دوافع إعادة نشر الرسوم المسيئة وموقف النظام الفرنسي الداعم والمشجع لها، فحرية الرأي والتعبير وحق الاختلاف، شعار براق ومخادع، لا تلتزم به الدول الكبرى حين يكون ضد أطماعها وتوجهاتها المحورية لتوسيع النفوذ والهيمنة على مقدرات وأسواق شعوب العالم الثالث، ولا حين يمس الأمر الصهيونية.
لا أدل هنا، من أن النظام الفرنسي أمر إحدى المنظمات الفرنسية بالاستغناء عن خدمات فنان تشكيلي ورسام كاريكاتير موريتاني، اسمه خالد ولد مولاي إدريس، وإنهاء عقد عمله، بدعوى أنه «بات طرفا» في قضية الإساءات الفرنسية للإسلام والرسول، عبر رسوماته الكاريكاتورية الناقدة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والساخرة من تصريحاته ومواقفه المتطرفة والعنصرية.
يبرز هنا، سياق توقيت إعادة الصحافة الفرنسية نشر الرسوم المسيئة للرسول الأكرم وإطلاق التصريحات المعادية للإسلام والمسلمين ووصمة التطرف والإرهاب، التزامن مع تساقط أقنعة حكام دول المنطقة وانكشاف العمالة المباشرة للحلف «الأنجلو صهيوني» بأركانه الثلاثة أمريكا وبريطانيا و»إسرائيل»، عبر اتفاقات الخيانة للحقوق الفلسطينية المغتصبة من الكيان الصهيوني.
التزامن ليس مصادفة، قدر ما هو مزامنة متعمدة، لصرف الاهتمام والأنظار عن هذه الخيانات، وتصريف شحنات الغضب الشعبي نحو مصارف أخرى، مازالت - رغم كل شيء ونجاحات الانحراف بالدين وعنه - تمثل قاسما مشتركا بين غالبية شعوب المنطقة والعالم الإسلامي، على مذاهبها وطوائفها وفرقها وجماعاتها، ممثلا في الرسول محمد عليه الصلاة والسلام.
كذلك لم تكن مصادفة المواقف الباهتة والمتخاذلة، من أنظمة الدول الأكثر رعاية وتصديرا للتطرف الديني والتعصب المذهبي والفكر الإرهابي، فهي تلتقي مع مصدر الإساءة للإسلام والرسول الخاتم، في الوسيلة والغاية، وكانت هي من أنتج ذرائع الاستهداف والإساءة، عبر عقود من التحوير والتزوير للرسالة المحمدية ودين الإسلام، وتقديم وتعميم نموذج مسخ بالغ التشويه.
علما أن المتتبع للأحداث، سيلحظ استخدام مجسات وأدوات عدة، قبل الرسوم المسيئة للرسول والإسلام، وليس أبرزها ادعاء رئيس حكومة الكيان الصهيوني نتنياهو بوجود معمل لإنتاج الصواريخ في لبنان واستعراض خرائط موقعه في كلمته بالجمعية العمومية للأمم المتحدة، بالتزامن مع تصريح في السياق نفسه للرئيس الفرنسي ماكرون، لولا أنه تم إثبات زيفهما بالبرهان في حينه.

أترك تعليقاً

التعليقات