عاصمة الدم
 

ابراهيم الحكيم

إبراهيم الحكيم / لا ميديا -

يمكن لمأرب أن تعصم دم اليمنيين كافة وترفد معركة استعادة دولتهم وسيادتها وإفشال المخطط المرسوم لليمن والمراد إنفاذه بهذه الحرب العدوانية، فقط إن هي عادت كما كانت يمانية الهوية والانتماء والولاء، ولكل اليمنيين: سلطة وثروة، وقبل هذا وذاك سيادة.
مؤسف ما يجري في محافظة مأرب من نزيف مستمر لدماء اليمنيين برعاية قوات عسكرية أجنبية تُخضع مأرب لهيمنة دولية ووصاية خارجية تسعى لتنفيذ أجندة أطماع أمريكية وصهيونية في اليمن، لم تعد خافية وباتت اليوم جلية، حد سلب مأرب يمنيتها الحقة ومكانتها التاريخية.
عُرفت مأرب في غابر التاريخ وقبل آلاف السنين، عاصمة مركزية للدولة اليمنية، يوم كانت تتوسط جغرافيا اليمن الكبير الممتدة سيادته إلى الركن اليماني لكعبة بيت الله الحرام في مكة، والممتد نفوذه وهيمنته السياسية والتجارية إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط شمال شبه الجزيرة العربية.
فعليا، لم تكن محورية موقع مأرب في الدولة اليمنية القديمة، نابعة من ثرواتها أو مركزها التجاري قدر ما كانت بنظرنا نابعة من توسطها الجغرافي لحدود الدولة اليمنية السبئية الموحدة لليمن، ولخطوط التجارة البرية بين العالم، وجنتيها الزراعيتين وسدها الأعظم في اليمن (العرم) والأقدم في تاريخ البشرية على العكس تماما، كان مصدر الثروة الرئيس للدولة اليمنية القديمة وعصب اقتصادها المزدهر، من خارج مأرب، متمثلا بالدرجة الأولى في البخور والطيوب والمر بجانب الذهب، أنفس سلع العالم القديم القادمة من جنوب ووسط اليمن، والموازية بنفاستها وأهميتها للبشرية في عالم اليوم لسلعة النفط ومشتقاته.
لكن مأرب -مع ذلك- ظلت كرسي مُلك الدولة اليمنية السبئية: الحاكم السياسي (المكرب) والديني (الكاهن)، ومجلس الثمانية (الملأ) لزعماء قبائل اليمن الرئيسة وأملاكها الثمانية الكبرى، ومجلس الثمانين (البرلمان) للأقيال الممثلين لهذه القبائل والأملاك بواقع 10 أقيال لكل منها.
لم يحدث عبر التاريخ –في ما نعلم- أن كانت مأرب كما هي اليوم، عاصمة لجزء من اليمن أو قبيلة من شعبه أو فصيلا من قواه. ولم يحدث أيضا أن كانت عاصمة حكم بحماية قوات أجنبية أو وصاية أي من قوى العالم القديم، بل استعصت بيمنيتها على الحملة العسكرية الرومانية.
حتى بعد تضعضع الدولة السبئية وانهيار اقتصادها الذي جعل من اليمن مركزا للتجارة العالمية في العالم القديم، جراء انحسار أهمية البخور لشعوب العالم إثر ظهور دين الله الإسلام ورسالاته السماوية (اليهودية والمسيحية والمحمدية)؛ بقيت مأرب عاصمة يمنية إنما ذات طابع ديني قومي.
قاد انحسار اقتصاد البخور المرتبط بالميثولوجيا (معتقدات الدين) وانهيار سد العرم بمأرب وتصحر جنتيه، تبابعة سبأ (الحميريين) إلى نقل مركز الدولة اليمنية الموحدة (سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابهم طوداً -الحجاز- وتهامة) إلى المرتفعات الجبلية وعاصمتها «ظفار يريم» في إب وقصرها «ريدان».
بقيت مأرب عاصمة ثالثة «دينية» وقصرها «سلحين» بعد صنعاء وقصرها «غمدان»، كما هي حال باقي أملاك مخاليف اليمن الثمانية ونفوذ أذوائها وقصورهم في إطار الدولة اليمنية المركزية التي ظلت -في الغالب- موحدة رغم ما شهدته من حقب انقسامات وصراعات وقيام ممالك سرعان ما تلتحم مجددا بحروب وتحالفات.
في العصر الحديث، استمرت محافظة مأرب محورية في النظام الإداري للدول اليمنية المتعاقبة، وبقيت لواء فمحافظة رغم محدودية سكانها وقبل حتى ظهور نفطها وغازها منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وعانت من حرمان خدمي وتهميش سياسي، لكن هذا لا يبرر فصمها عن يمنها وسلخها من يمنيتها.
جرى هذا - مع الأسف - كأحد أهداف هذه الحرب العدوانية المستمرة على اليمن لتقسيم كيانه وتمزيق نسيج شعبه وتبديد مقدرات دولته وسلب سيادته وإرادته ونهب ثرواته، فحرمت مأرب اليمنيين الوقود والغاز والكهرباء والرواتب وغدت قاعدة لقوات أجنبية ومعقلا لفصيل سياسي بعينه تحت الوصاية الخارجية.
لكن هذه الحرب العدوانية، برهنت بمآلاتها أن حال اليمن لم يستقم ولن يستقيم روحا وجسدا وقوة وبأسا ومجدا، بفصل أطرافه وتقطيع أوردته وبتر شرايينه وتمزيق نسيجه المجتمعي، وأن فخ «الأقاليم الاتحادية» بصيغتها المطروحة تفخيخ لليمن بعوامل الضعف والوهن والتبعية، وليست خلاصا.
ولما كانت مأرب محورية في هذا الفخ، فكل ما سلف، يقود إلى أن مأرب ومثلما كانت عاصمة لدماء اليمنيين وعاصمة سياسية لدولتهم الموحدة حقبا طويلة، لأنها ظلت يمانية هوية وانتماء وولاء، ولكل اليمنيين: سلطة وثروة، وقبل هذا وذاك سيادة؛ فإن تاريخ الكيان وجغرافيا المكان ودم وهوية الإنسان، تقضي أن تظل كذلك أبد الدهر.

أترك تعليقاً

التعليقات