انتقام مؤجل
 

ابراهيم الحكيم

إبراهيم الحكيم / لا ميديا -

أوقدت شعلة ثورة «26 سبتمبر» في جميع محافظات البلاد تقريبا، عدا محافظة عدن. ولا غرابة، فالأخيرة كانت محركا رئيسا للثورة ودعمها المصري، ومحركا أساسا لاستنفار بريطانيا وحلفائها ضدها، كي لا تمتد نيرانها إلى عدن وجنوب اليمن. ورغم كل ما فعلته، سرعان ما التظت بنيرانها، وصولا لإجلاء قواتها مدحورة، دون أن تنحسر نوايا بريطانيا في الانتقام والعودة، الجاري ترتيبها.
يتكشف يوما تلو آخر، الدور البريطاني في الحرب على اليمن، وأن لندن هي الداعم لما يسمى «المجلس الانتقالي الجنوبي»، وما تبعيته للإمارات ثم للسعودية مؤخرا، إلا غطاء غدا شفافا وكاشفا لحقيقة الأب الروحي لهذا المجلس ودعواته الانفصالية، التي سبق لوزير الخارجية البريطاني أن أكد «تفهم بريطانيا لها ومطالبها».
ليست بريطانيا وحدها التي كشفت غطاء تبنيها ودعمها «الانتقالي الجنوبي»، رئيس الأخير هو أيضاً، سبق له أن كشف الغطاء، عند زيارته بريطانيا مطلع العام الجاري، واطلاقه تصريحا مصورا من عاصمتها، يفخر بما سماه «العلاقات التاريخية مع بريطانيا لما يزيد عن 128 عاما»، ووصفها بأنها «علاقات شراكة» لا احتلال!.
معلوم أن احتلال بريطانيا لعدن ومينائها عسكريا في 19 يناير سنة 1839، حسم سباقا طويلا وصراعا محموما بين إمبراطوريات أوروبا على طرق الملاحة البحرية بين قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا، وتحديدا بين شركات الهند الإسبانية والهولندية والبلجيكية والفرنسية وغيرها، لصالح شركة الهند البريطانية الشرقية، العسكرية ذات الطابع التجاري.
أذن احتلال بريطانيا عدن وميناءها، فعليا، لإشراق شمس امبراطورية بريطانيا العظمى الثانية، التي سرعان ما غدت «لا تغيب عنها»، في إشارة إلى اتساع الأراضي التي تحتلها أو ما يسمى «مستعمراتها» حول العالم، فقد أمنت قاعدتاها البحرية والجوية في عدن، توسيع نطاق الإمبراطورية وتلقيبها بـ»مالكة البحار والمحيطات».
مكنت القاعدتان العسكريتان البريطانيتان في عدن، «إمبراطورية فيكتوريا» من التوسع في القرن الأفريقي وصولا إلى مصر والسودان، وفي شرق آسيا، وأغلقت البحر الأحمر وبحر العرب أمام سفن الامبراطورية العثمانية، وقطعت إمداداتها لحليفتها ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وبالمثل في الحرب العالمية الثانية، كان دور القاعدتين.
لهذا كان طبيعيا أن تستنفر «26 سبتمبر» في شمال اليمن، بريطانيا عسكريا وسياسيا، وأن تدفعها لتشكيل تحالف دولي أمريكي - فرنسي - «إسرائيلي»، لقمعها ومنع امتدادها إلى جنوب اليمن، عبر حرب الثماني سنوات التي تصدرت واجهة دعمها بالمال والسلاح، السعودية وإمارات ومشيخات الخليج ومملكتا العراق والأردن، الخاضعة لبريطانيا.
بذلت بريطانيا كل ما تستطيع، وأنشأت وكالة استخبارات خاصة، لإدارة عمليات وأد «26 سبتمبر» في شمال اليمن، ومنع امتدادها إلى جنوبه، وسارعت لدمج 23 سلطنة وإمارة ومشيخة صورية، استحدثتها في جنوب اليمن طوال 128 عاما بمعاهدات حماية واستشارة (وصاية) لضمان الاعتراف المتبادل بالشرعية، وتأمين دوام احتلالها عدن.
فرضت لندن دمج كياناتها في ما سمته دولة «الجنوب العربي»، وسارعت لاعتمادها في الأمم المتحدة، وإخضاعها لمعاهدة حماية واستشارة (وصاية) تضمن من ناحية استقلالا شكليا امام دعوات إنهاء الاستعمار واستقلال الشعوب، ومن ناحية ثانية هي الأهم، دوام نفوذ بريطانيا المطلق ومصالحها العسكرية والاقتصادية كاملة في جنوب اليمن. 
هذه المعاهدة المنشورة بنودها المهينة والمذلة، هي نفسها الموقعة من الكيان السعودية وكيانات دول الخليج، وهي نفسها التي تضمن عودة نفوذ بريطانيا في عدن وجنوب اليمن، في حال عاد كيان «الجنوب العربي» الذي وأدته ثورة 14 أكتوبر 1963، ودفنه الكفاح اليمني المسلح بانتزاعه قسرا الاستقلال الوطني الكامل في 30 نوفمبر 1967م.
لا أجد تفسيرا آخر عدا هذا لإعلان سفير وزير «خارجية بريطانيا وشؤون البحار والمحيطات» مايكل آرون، في لقاء مع صحيفة «الشرق الأوسط» السعودية، «تفهم بريطانيا لمطالب شعب الجنوب بالاستقلال»، وأنه «نصح رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي بأن قرار الانفصال من جانب واحد غير عملي الآن، والأجدى الانخراط في حكومة مشتركة مع هادي».
وهذه الحكومة الجاري تشكيلها بموجب «آلية تسريع تنفيذ اتفاق الرياض» التي أصدرتها السعودية عشية عيد الأضحى، سمتها الرياض حرفيا «حكومة مناصفة بين الشمال والجنوب»، قبل أن ترفع رسميا على أراضيها العلم الشطري لما كان يسمى «اليمن الجنوبي» في فعالية رتبتها قبل أسابيع، باسم «لقاء رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي مع الجاليات الجنوبية»!

أترك تعليقاً

التعليقات