النصر الأهم
 

ابراهيم الحكيم

إبراهيم الحكيم / لا ميديا -
يسعى أعوان الاحتلال القديم والجديد لمدينة عدن وجنوب اليمن، إلى تغييب حقائق مهمة ووقائع ملهمة، ما تزال مغمورة، لنصر يمني أهم سبق وقاد إلى اندلاع ثورة 14 أكتوبر ودحر الاحتلال وانتزاع الاستقلال، أمس وغدا.
يظل الأهم في ذكرى ثورة 14 أكتوبر هو إدراك هذه الحقائق المهمة والوقائع الملهمة، للنصر اليمني المغمور، في أهم المعارك مع الاحتلال المدحور، وأعظم هزيمة تكبدتها أعتى إمبراطوريات العالم، استكبارا واستبدادا.
انتصر اليمنيون بمبادرات أهلية جسدت هويتهم الوطنية الواحدة، وبشهادة إجابة السؤال: كيف ظلت مدينة عدن يمنية الانتماء، عربية الولاء، ومسلمة العقيدة، رغم إخضاعها لشتى صنوف طمس الهوية 129 عاما؟!...
عمدت سلطات الاحتلال البريطاني لعدن وجنوب اليمن، وكما يفعل غزاة اليوم، إلى استهداف الهوية والقومية والعقيدة، وتبعاً الإرادة، عبر سياسة ممنهجة لطمس هوية عدن اليمنية وإعدام أي فرص اتحاد قومي ضدها.
تجلت أدوات هذه السياسة في نهج «فرِّقْ تَسُدْ»، وتقديم سلطات الاحتلال البريطاني امتيازات وتسهيلات مغرية لاستقدام جاليات أجنبية عدة، تجارية وإدارية وعمالية، بما فيها منح الجنسية وأولويات التوظيف والاستثمار.
تزامن هذا التوطين المتعمد العبث في الجغرافيا السكانية لمدينة عدن، مع إعادة سلطات الاحتلال تخطيط المدينة سكنياً، وفق معايير عسكرية وأمنية واقتصادية جعلت أصحاب الأرض على الهامش، سكناً ومعيشة.
رتب الاحتلال أحياء هذه الجاليات وقربها من مقر قيادته بحسب الولاء، وظلت تسكن العمارات الحديثة، وتنعم بالوظائف والأعمال الرفيعة، وكانت لها امتيازاتها ومعابدها وكنائسها وأنديتها الترفيهية والرياضية، وصحفها.
وبجانب طمس سلطات الاحتلال المعالم التاريخية ونقل آثار الحضارات اليمنية إلى المتاحف البريطانية، واعتماد الإنجليزية لغة رسمية تليها الهندية، قيدت سلطات الاحتلال التعليم: مدارس ومناهج، والتحاقا ومنحا.
تجاوزت القيود شرط الحصول على المخلقة (شهادة الميلاد البريطانية في عدن) إلى أولوية التعليم للخاصة من الأعيان على حساب عامة اليمنيين من ساكني عدن واليمن وجنوبه ما عُرف بالمحميات الغربية والشرقية.
تجرع معظم اليمنيين الحرمان من التعليم، وتبعاً الوظائف الرفيعة، كما لو كانوا هم الدخلاء، وصاروا بفعل التفاوت التعليمي والاقتصادي فقراء في حكم الغرباء، ويزاولون حرفاً خدمية وعمالية دنيا، وتجارية حراجية.
كادت تندثر هوية أصحاب الأرض اليمنيين في عدن، لولا ظل إباؤهم الحر أقوى من أن ينكسر، فعمدوا بمبادرات أهلية تعاونية إلى تعويض الحرمان، والتشارك في كل ما من شأنه صون هوية الإنسان ومنع الهوان.
شيد اليمنيون المساجد وأربطتها، أو ما يعرف بـ»المعلامات» الدينية، وفتحوا عيادات طبية تغنيهم عن عيادات الكنائس، وعمروا مدارس ومعاهد مهنية، واستقدموا مدرسين عرباً، مثلما ابتعثوا أبناءهم في منح دراسية خارجية.
بالتوازي، وأمام موجة التغريب الممنهج والمسخ الفج للهوية، أصدر أصحاب الأرض في عدن صحفا ومجلات عدة بالعربية، وأسسوا مطابع ومكتبات، للحفاظ على اللغة العربية، واستدامة الثقافة والقيم العربية والإسلامية.
وفي جانب الترفيه، عمد اليمنيون من مختلف أنحاء اليمن، إلى تأسيس أندية أدبية وثقافية، وأندية وفرق رياضية، بدءا من نادي الاتحاد الذي صار لاحقا «التلال»، وأنشؤوا حدائق ألعاب تقليدية للأطفال، وجمعيات نقابية وفنية.
شكلت هذه الأندية والجمعيات إطاراً حافظاً للهوية القومية اليمنية العربية الإسلامية، وظلت تبعثها في نفوس النشء والشباب في عدن، وتؤصل فيهم قيم العزة والحرية، فكانت وقود تفجير ثورة 14 أكتوبر الجارفة للاحتلال.
تجاوز انتصار اليمنيين في معركة الهوية قهر بريطانيا العظمى، إلى قهر صراع الأيديولوجيات الوافدة بفعل الحرب الباردة بين قطبي العالم الشرقي (الاشتراكي) والغربي (الليبرالي)، وتجاوز عقبات إعادة توحيد شطري الوطن.
أثبت اليمنيون إذن أن وحدة اليمن تتجاوز اختلاف أنظمة الحكم والحدود، وائتلاف وحدة العرق والدم والجدود، إلى وحدة الوجود نفسه، في أرض كانت ولا تزال تُدعى اليمن، وكل ما فيها «يمني»، مهما تعددت مسميات السلطان.

أترك تعليقاً

التعليقات