الإعلام السعودي بين خطاب التطبيع وتبني الرواية «الإسرائيلية» في لبنان
- عبد الحافظ معجب الأثنين , 29 سـبـتـمـبـر , 2025 الساعة 1:53:49 AM
- 0 تعليقات
عبدالحافظ معجب / لا ميديا -
لم يعد خافياً على أحد أن الإعلام السعودي عبر منابره الأساسية، المتمثلة بقناتي «العربية» و«الحدث» وعدد من القنوات اللبنانية والصحف والمواقع المرتبطة مباشرة بالقرار الرسمي أو التمويل المالي في الرياض، قد اختار أن يذهب بعيداً في تبني خطاب سياسي وإعلامي يستهدف المقاومة الإسلامية في لبنان؛ فمنذ اندلاع المواجهة الأخيرة على الحدود الجنوبية وتصاعد الاعتداءات «الإسرائيلية» على القرى والبلدات اللبنانية وصلت إلى العاصمة بيروت، ظهر جلياً أنّ التغطية الإعلامية السعودية للأحداث لا تخرج عن إطار سردية واشنطن و«تل أبيب»، إذ يُقدَّم سلاح حزب الله باعتباره «خطر الداخل» و»المسبب الأول للحرب»، فيما تُغفل هذه الوسائل حقيقة العدوان «الإسرائيلي» وأهدافه الاستراتيجية المعلنة في ضرب العمق اللبناني وترويع المدنيين، وأهدافه غير المعلنة والواضحة في سياق المخطط الصهيوني الذي يريد ابتلاع لبنان أو في أقل تقدير التخلص من المقاومة، ليصبح لبنان بكل جغرافيته وطوائفه نسخة مكررة من سورية الجولاني المستباحة.
هذا الخط الإعلامي الذي انخرطت فيه وسائل إعلامية تقدم نفسها على أنها تمثل لبنان، لم يعد مجرد نقد سياسي للمقاومة أو ملاحقة لمواقفها، بل تحوّل إلى منصة تبرير للحرب «الإسرائيلية» على لبنان. في نشرات الأخبار والتقارير والتحليلات تُصوَّر الاعتداءات الصهيونية على المناطق السكنية والبنية التحتية وكأنها «ردود دفاعية» على ما يسمّى «مغامرات حزب الله»، وهو توصيف لا يختلف كثيراً عن اللغة التي تعتمدها القنوات الصهيونية والناطقون باسم قوات الاحتلال. بذلك يسهم هذا التضليل الإعلامي في قلب الحقائق وتضليل الرأي العام العربي، بحيث يتحول المعتدى عليه إلى معتدٍ والمحتل إلى ضحية.
من يتابع مسار التغطية يلحظ بسهولة أنّ الخطاب السعودي يتقاطع عضوياً مع الحملة الأمريكية الهادفة إلى شيطنة المقاومة وتجريدها من شرعيتها الوطنية والقومية، فبدلاً من الإقرار بأن سلاح المقاومة كان وما زال الضمانة الفعلية لردع العدوان «الإسرائيلي» وحماية لبنان من مشاريع الهيمنة والاستباحة، يُقدَّم هذا السلاح كأداة إيرانية بحتة تُستخدم لتقويض الدولة اللبنانية. إنها المعزوفة ذاتها التي يكررها الإعلام الغربي منذ عقود، والتي يحرص المال والإعلام السعودي على إعادة إنتاجها وتلميعها بما يخدم مصالح واشنطن و«تل أبيب» في المنطقة.
الأكثر خطورة أن هذا الخطاب لا يقتصر على التحليلات السياسية، بل يتغلغل في تفاصيل التغطية اليومية، إذ يُمارس التضليل عبر الاصطلاحات والمصطلحات الموجهة: المقاومة تُسمى «مليشيا»، والعمليات الدفاعية تُوصف بـ»الاعتداء»، والصواريخ التي كانت تستهدف المواقع العسكرية للاحتلال تُقدَّم كاستهداف للمدنيين «الإسرائيليين»، فيما تُمحى صور المجازر اليومية التي يرتكبها العدو ضد المدنيين في لبنان... هذا المستوى من التلاعب الإعلامي يندرج بوضوح في إطار الحرب النفسية ضد جمهور المقاومة ومحاولة عزله عن بيئته العربية والإسلامية.
وفي موازاة هذه التغطية لم يُخفِ الإعلام السعودي انزعاجه من المشهد الشعبي الإنساني في بيروت حين أضاء جمهور المقاومة صخرة الروشة بصورة الشهيد الأقدس السيد حسن نصر الله، الصورة التي حملت رمزية تاريخية مرتبطة بمقاومة الاحتلال والتحرير منذ انتصار العام 2000 وحتى يومنا هذا أزعجت الرياض، لأنها تُذكِّر اللبنانيين والعرب والمسلمين بالموقع الحقيقي للمقاومة في الدفاع عن الكرامة الوطنية، ولأنها تتناقض مع الرواية السعودية التي تسعى إلى حصر حزب الله في خانة «الأداة الإيرانية». ردود الفعل الغاضبة والساخرة التي بثتها القنوات السعودية تجاه هذا الحدث الشعبي والوطني المقاوم كشفت عمق المأزق الذي يعيشه الإعلام الممول من الرياض؛ فبينما يصر على شيطنة المقاومة، يواجه في الشارع العربي واللبناني صورة مغايرة لقائد مجاهد قدم حياته في الدفاع عن لبنان وسيادته وقضايا الأمة المركزية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ويحظى باعتراف واسع بدوره في دحر الاحتلال.
الربط بين هذا الخط الإعلامي والخيارات السياسية السعودية بات واضحاً، فالمملكة وهي تخوض حواراً دبلوماسياً مع طهران بعد الاتفاق الشهير الذي رعته الصين تُصر في الوقت ذاته على إبقاء ملف حزب الله والمقاومة ضمن خانة الاستهداف والشيطنة. التفسير الأقرب هو أنّ السعودية تفصل بين علاقاتها الثنائية مع إيران كدولة وبين تعاملها مع قوى المقاومة المرتبطة بمحور إقليمي يواجه مشاريع واشنطن و»تل أبيب». بيد أنّ هذا التفسير لا يكفي وحده؛ إذ إن المراقب لا يستطيع إغفال حقيقة أن الموقف السعودي ينسجم تماماً مع الرغبة الأمريكية في فتح الطريق أمام التطبيع مع الكيان «الإسرائيلي». فشيطنة حزب الله وحركات المقاومة عموماً هي خطوة تمهيدية أساسية لإقناع الرأي العام العربي بأن «إسرائيل» ليست الخطر، بل إن الخطر يأتي من قوى محلية وإقليمية مرتبطة بإيران كما يصفها الإعلام السعودي، وفي رواية أخرى الإعلام المتصهين.
بهذا المعنى يصبح الإعلام السعودي جزءاً من استراتيجية متكاملة هدفها إعادة تعريف العدو في الوعي العربي، فبدلاً من أن يبقى الاحتلال «الإسرائيلي» هو العدو المركزي، يُدفع اللبنانيون والعرب إلى اعتبار المقاومة عبئاً يجب التخلص منه. إنها نفسها الوصفة التي سبقت «اتفاقيات أبراهام» مع الإمارات والبحرين، إذ جرى تسويق إيران ومحور المقاومة كعدو أول، ما أتاح تمرير مشاريع التطبيع. واليوم يتكرر المشهد مع السعودية، التي تسعى إلى التمهيد لخطوات عملية في هذا الاتجاه مستخدمة إعلامها كسلاح تمهيدي في معركة الوعي.
إن خطورة الدور السعودي لا تقتصر على الجانب الإعلامي وحسب، بل تتعداه إلى تقاطع مصالح مباشر مع الأجندة الأمريكية و«الإسرائيلية» في لبنان. فحين يغطي الإعلام السعودي على الجرائم «الإسرائيلية»، ويبرر قصف القرى الجنوبية، ويهاجم صور الشهداء والمقاومين، فإنه لا يمارس مجرد نقد سياسي، بل يضع نفسه في خدمة آلة الحرب التي تستهدف لبنان أرضاً وشعباً. هذه الحقيقة يدركها الشارع اللبناني جيداً، ويعي أن ما يجري ليس مجرد «اختلاف بالرأي»، بل اصطفاف واضح في معسكر العدو.
لقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن المقاومة في لبنان ليست مليشيا كما تصفها قناتا «العربية» و«الحدث»، بل هي وجدان وذاكرة وانتماء وطني عميق، كلما اشتدت الحملات الإعلامية والسياسية ضدها برزت مشاهد التضامن الشعبي لتؤكد أن هذه المقاومة بما تمثله من كرامة وحق وسيادة لا يمكن أن تُمحى بخطاب ممول أو بتقارير مشوهة. لذلك فإن محاولات الإعلام السعودي وأتباعه في الإعلام اللبناني الممول سعودياً وأمريكياً، مهما بلغت من فجاجة أو تضليل، لن تنجح في اقتلاع حقيقة راسخة أن المقاومة في لبنان ستبقى رأس الحربة في مواجهة «إسرائيل»، وأن كل خطاب يشيطنها أو يبرر العدوان عليها إنما يكشف عن نفسه كجزء من مشروع التطبيع الأمريكي - «الإسرائيلي» الذي يجد في بعض الأنظمة العربية أداة تمرير وتلميع؛ لكنه لن يجد في وجدان الشعوب إلا الرفض والمواجهة.
المصدر عبد الحافظ معجب
زيارة جميع مقالات: عبد الحافظ معجب