عبد الحافظ معجب

عبد الحافظ معجب / لا ميديا -
منح الدستور اليمني القضاء مكانة راسخة كسلطة مستقلة لا سلطان عليها لغير القانون، وحدد أن استقلال القضاة ضمانة للحقوق والحريات، وأن مجلس القضاء الأعلى هو الجهة المكلفة دستورياً بتنظيم شؤون السلطة القضائية والإشراف على المحاكم والنيابات، ضمن هرمية قضائية واضحة تقف فيها المحكمة العليا على رأس السلك القضائي تليها النيابة العامة والمحاكم بدرجاتها المختلفة. هذا البناء الدستوري يؤكد أن أداء القضاء لرسالته العادلة يستلزم وجود إطار قانوني سليم وبيئة عملية مستقلة وبنية مؤسسية محايدة.
ومن هذا المنطلق، جاءت دعوات قائد الثورة، السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، المتكررة لإصلاح القضاء وتصحيح مساره، معتبراً القضاء ركيزة أساسية لأي إصلاح حقيقي للدولة. غير أن التفاعل الرسمي لم يصل الى مستوى دعوات القائد وتوجهاته، والنوايا الرسمية وحدها لا تكفي، فالإصلاح لا يتحقق عبر إبدال الأشخاص في المناصب القضائية أو الإدارية إن لم يكن مصحوباً بإصلاح بنيوي شامل يعالج جذور الخلل.
الإصلاح يبدأ من رأس الهرم القضائي، عبر مجلس القضاء الأعلى، الذي له الاختصاص الدستوري بوضع السياسات القضائية وإدارة الشأن القضائي. لكنه لا يتوقف عند مستوى السياسات فحسب، ولا بد أن يمتد إلى بناء القاضي وتأهيله؛ القاضي هو الأساس، ويستلزم إعداداً قانونياً ومهنياً متيناً منذ البداية، عبر برامج تأهيل متقدمة في المعهد العالي للقضاء، وتدريباً مستمراً يعزز قدرته على تطبيق القانون بكفاءة ويحد من الأخطاء ويقلص مُدد التقاضي.
الواقع في صنعاء ومحافظات جغرافيا السيادة الوطنية يبيّن جملة تحديات حقيقية، منها أن بعض القضاة -للأسف- غير مؤهلين. يمكنك أن تصلح كل المسارات لتكتشف أن عضو نيابة واحداً يتصرف وكأنه يعمل لإفشال كل المسارات الإصلاحية، لتتكدس القضايا وتطول فترات التقاضي، وتتعطل المحاكم. كما أن بعض النيابات والمحاكم تمارس عملها في مقرات غير ملائمة، وهشاشة البنية التحتية، ونقص الموارد المالية، أصبحت تعيق عملها. وكشفت تقارير محلية أن عدداً من المقار القضائية تضرر أو فُقد خلال سنوات العدوان، بينما صدرت قرارات بإنشاء محاكم جديدة لم تنفذ؛ لغياب المقرات والتجهيزات، ما يبرز الفجوة بين التخطيط والواقع العملي ويضع أولوية واضحة لإعادة تأهيل البنى الأساسية قبل أي توسع مؤسسي.
لا يتحقق استقلال قضائي حقيقي ما لم تمنح السلطة القضائية موازنة مستقلة وكافية تدرج ضمن الموازنة العامة للدولة وتدار بإشراف مجلس القضاء الأعلى. وفي هذا الإطار يظل دور وزارة العدل إدارياً وتنفيذياً مكملاً لا يمس سلطة القاضي أو أحكامه أو سير التحقيقات، كما نص عليه قانون السلطة القضائية. ومن هذا المنطلق، لا تعد شراكات الدولة ومؤسساتها مع مجلس القضاء الأعلى لتقديم خدمات اجتماعية للقضاة مساساً بالاستقلال، شريطة أن تنظم بقرار مؤسسي واضح، وأن تكون عبر قنوات رسمية لا عبر أفراد أو وسطاء.
يمكن توسيع شبكة الضمانات الاجتماعية للقضاة لتشمل ما يتلاءم وطبيعة عملهم: تخصيص وحدات سكنية أو بدلات سكن للقضاة المكلّفين خارج مناطق سكنهم، توفير وسائل نقل رسمية أو بدل تنقل لمهام خارج الاختصاص، ضمان تأمين صحي شامل للقضاة وأسرهم عبر وزارة الصحة، توفير حوافز تعليمية لأبناء القضاة ضمن ضوابط معلنة، وتخصيص خدمات اتصالات رسمية وآمنة تسهل التواصل القضائي. إن هذه التدابير، حينما تمنح بموجب قرارات مؤسسية ثابتة وممولة من الموازنة العامة، لا تمس استقلال القضاء، بل تعزز نزاهة القاضي وتجنبه أي ضغوط اقتصادية قد تؤثر في حياده.
ومقابل ضمان الحقوق، يجب تشديد آليات المساءلة والرقابة، عبر تفعيل التفتيش القضائي بمعاييره القانونية، وتفعيل إدارة الشكاوى والتحقيقات التأديبية، والالتزام بمدونات السلوك القضائي، مع التشديد على أن غياب المعالجات المادية لا يعفي القاضي من مسؤولياته القانونية والأخلاقية، ولا يبرر تحت أي ظرف قبول منفعة أو تأثير يؤدي إلى المساس بكرامة القضاء أو نزاهته.
إلى جانب ذلك، تشكل ثقافة الصلح والتحكيم، المستندة إلى إطار قانوني منظم، أسلوباً فعالاً لتخفيف العبء على المحاكم. ولقد أثبتت التجارب المحلية الوطنية منذ بدء العدوان أن تعاون القضاة مع الأعيان والوجهاء ضمن ضوابط مؤسساتية يمكن أن يفض النزاعات العائلية أو القبلية ويوفر حلاً لملفات كانت متراكمة لعقود، شريطة ألا تتعارض هذه العمليات مع أحكام القانون العام، وأن تراعى حقوق الأطراف.
للوصول إلى حلول عملية، ينبغي تشكيل لجنة إصلاح قضائي عليا تضم القيادة العليا للدولة ومجلس القضاء الأعلى والنيابة العامة ووزارة العدل ووزارة المالية بصفتها جهة مساندة، إضافة إلى الجهات الفنية المختصة، لتضع خارطة طريق واضحة تتضمن: إعادة تأهيل المحاكم والنيابات وتجهيزها، تحديد احتياجات السكن والتنقل للقضاة، تحسين الموازنات التشغيلية، تعزيز الحوكمة المالية، مراجعة آليات توريد الإيرادات القضائية واستثمارها في صيانة البنى الأساسية، وتطبيق نظام أرشفة رقمي يحد من فقدان الملفات ويسرع الإجراءات.
إن طريق الإصلاح شاق في ظل تبعات العدوان والحصار وتراجع الموارد؛ لكن الإرادة السياسية والقضائية الصادقة قادرة على تحويل القيود إلى نافذة فرصة تتوافق مع توجهات ودعوات قائد الثورة حفظه الله. فإذا صلح القضاء، صلحت المؤسسات، واستعادت الدولة هيبتها وثقة المواطنين بها. وما يحتاجه القضاء اليوم من تغيير جذري لن يتحقق بالحلول الترقيعية المعتادة، بل يحتاج إلى رؤية شاملة ومؤسساتية تضع قواعد صلبة لعدالة مستقلة ومنصفة؛ لأن العدل هو الأساس الذي لا تقوم بدونه دولة ذات سيادة.

أترك تعليقاً

التعليقات