نساء يقهرن الفقر بالنقش.. وأطفال يحملون العبء


بشرى الغيلي / لا ميديا -
ما إن تدلف البوابة بعد أن تدفع ثمن التذكرة، ترى مشاهد الكفاح على أرضيةِ الحديقة. 
هنا تجلس فتاة وأمامها طاولة بلاستيكية تلوّح للزائراتِ بنقشِ أكفهن. أخرى تجلس وأمامها عُلب ألوان تنادي الأطفال لتلوّن وجوههم برسم شخصياتٍ كرتونية يحبونها كل حسب طلبه. بائع الفراولة، وبائع المجلجل، وبائع المناديل الورقية والألعاب، وبائع قناني الماء البارد... يجوبون الحديقة يعرضون بضائعهم على الزوار. جميعهم اختاروا هذا المكان ليقدموا خدماتهم ويعرضوها بطريقةٍ لطيفة وجميلة. لكل واحدٍ منهم قصة وجع أجبرته على ارتياد ذلك المكان. جميعهم اتفقوا على شيءٍ واحدٍ فقط، هو أن الأيام التي يكون فيها محصولهم جيداً، وخاصة في الأعياد والمناسبات، يدفعون جزءاً منه لإدارةِ الحديقــــــة؛ كأنما مقابل السماح لهــم بالتواجد هناك.
حاولت صحيفة «لا» أن نستوضح الأمر مـــــن إدارةِ الحديقة، فأجابنا أحدهم بأن الرد على استفسارات بهذا الخصوص ليس من اختصاصهم، ولم نجد صاحب اختصاص ليرد على تساؤلاتِنا، فاكتفينا بتلمّس شجونهم وسماع قصصهم وقصصهن، وخرجنا بهذه الحصيلة...

بائع الفراولة
وجدناه منزوياً في ركنٍ من الحديقة، بعد أن جاب جنباتها جيئة وذهاباً يعرض بضاعته للزوار والزائرات. كان يأخذ استراحة محارب ليواصل بعدها مشوار كفاحه حاملاً بين يديه الفراولة يبيعها لزوار وزائرات الحديقة. «يَزَن» (14 عاما) جاء من قريته في «شمير» ـ تعز قبل 3 شهور. سوء الأوضاع الاقتصادية جعله يترك مدرسته ويأتي إلى العاصمة ليعيل تسعة من أشقائه من خلال بيع الفراولة. «بعض الأيام أحصّل ألف ريال، لا تكفي لشراء زبادي وخبز، والحمد لله على كل حال».

اكتسبت الخبرة من أمي
«كيان» ذات الـ18 ربيعاً، وتدرس في الصف الثالث الثانوي، تعمل منقشة. تقول: «قبل تسعةِ أعوام كنت آتي إلى الحديقة رفقة والدتي، التي كانت تبيع مسّاكات وقبّاضات، وكنت أساعدها ببيع اللبان والمناديل. حينها كنت صغيرة، فكان عندي شغف بمراقبةِ المنقّشاتِ في الحديقة كيف كُنَّ يرسمن النقشات على كفوفِ الزائرات، فانتقلت إلى هذه المهنة الجديدة، التي حاولت اكتسابها ووجدت أنها تساعدني أكثر من بيع المناديل واللبان».
أما الدخل الذي تحصل عليه فتقول: «في الأيام العادية يصل إلى ستة أو ثمانية آلاف ريال، وفي أيام الأعياد والمناسبات يتراوح بين 15 - 20 ألف ريال».
وتستدرك بمرارة: «لكنهم يقاسموننا أرزاقنا، ففي الأيام العادية للأسف ندفع 3 آلاف ريال، وفي أيام الأعياد ندفع 7 - 8 آلاف ريال للحديقة، وهذا ظلم ومُبالغ فيه، فبالله عليكِ كم عاد نروح للبيت مما حصلناه؟! إن كان لا بد أن ندفع فيجب أن يكون المبلغ معقولا، وليس بهذا الإجحاف!».
وتضيف كيان أنها تضطر إلى الخروج لهذا العمل «بسبب الحاجة وغلاء الإيجارات، ويجب عليَّ مساعدة والدي ووالدتي. ولو كانت أوضاعنا جيدة، ما جئنا إلى هنا. ومن المؤسف أن إدارة الحديقة ليست متعاونة مع من يعملن لإعالة أسرهن. وأقولها بكلِ أسف: البعض اتجهن إلى أعمال سيئة، كالتسول في الجولات وغيره من الأمور التي قد تجعل مستقبلهن مجهولاً، خاصة بعد أن تركن العمل في الحديقة بسبب الجبايات المُبالغ فيها».

قد نحصل ما يكفي يومنا
«غمدان» (12 عاماً) يدرس في الصف الثامن أساسي. كان برفقة صديقه محمد، الذي يضاهيه في العمر ويدرس في الصف السابع. يأتيان إلى الحديقة يومياً لبيع الجلجل. يدوران بصحنيهما على زوار الحديقة. يقولان: «بالكاد نحصل باليوم الواحد حق الغداء والعشاء، وأحيانا نعود بدون شيء».
ويضيف غمدان أنهما إذا لم يبيعا أي شيء فإن الحديقة تطلب منهما المشاركة في تنظيف الحديقة، لدفع ما عليهما.

أساعد أمي
«سناء» لم تتجاوز الـ12 عاماً من عمرها، ترسم للأطفال على وجوههم. تأتي إلى الحديقة يومياً، لتساعد أمها في إعالة أسرتها. تقول: «أيام الدراسة أجي الحديقة يومياً أساعد أمي بالمصروف. أسرتنا مكونة من أمي و10 إخوة، 6 بنات و4 أولاد، ولا يوجد لنا عائل، ومن خلال الرسم على وجوه الأطفال، أعمل لأساعد أمي».
وتضيف سناء: «في الأيام العادية أحصل على ألف أو ألفين ريال، وفي الأعياد ثلاثة آلاف أو أكثر».
ثم تستدرك متحسرة: «لكن الحديقة يأخذون منا في الأيام العادية 500 ريال، وفي الأعياد يأخذون 3 -4 آلاف ريال».

علمتني شقيقتي
فاطمة (منقشة) حدثتنا قائلة: «أول ما بدأت بأعمال أخرى، ولم يكن النقش شغلي، وكنت أتأمل شقيقتي كيف تضع النقشات على كفوف البنات في الحديقة، وقلت لنفسي: لماذا لا أجرب؟! فجربت، وكنت كل مرة أبدع في شغلي، وكل من أقوم بنقشها يعجبها عملي، ومن يومها اعتمدتُ على نفسي، وأيضاً أساعد عائلتي، ثم تطورت لأقوم بنقش عرائس، وحالياً مستمرة بعملي وبدراستي، والحمد لله عدد ما شكره الشاكرون وحمده الحامدون، وغفل عنه الغافلون».

خمسة أعوام
أم عمرو (ربة بيت) عمرها 32 عاما، منذ خمسة أعوام تعمل في تلوين وجوه الأطفال، وتأتِي إلى الحديقة يومياً لتقوم بما تبرع فيه. تقول: «أحيانا أعود إلى البيت دون أن أحصل أي شيء، وقد أستلف من صديقتي أجرة الباص حين أرجع إلى بيتي، وأحيانا أحصل ألفين أو ثلاثة آلاف ريال، وفي المناسبات والأعياد أحصل ما بين 6  و7 آلاف ريال».
وكسابقاتها، تستدرك أم عمرو قائلة: «للأسف، إدارة الحديقة يأخذون منا في الأعياد 4 و5 آلاف ريال».
نساء وفتيات يكافحن العوز والحاجة، والوضع الاقتصادي المتدهور، واخترن مكاناً يرسمن فيه البهجة بأناملهن، وأطفال يحملون عبئاً أكبر من أعمارهم الطرية، بل البعض ترك مدرسته ليعيل أسرة قد يصل عدد أفرادها إلى عشرةِ أشخاص وأكثر. رغم ذلك فإن الفساد يقاسمهم ما يحصلون عليه.
ورغم أن إدارة الحديقة تقاسم هؤلاء المكافحين والمكافحات أرزاقهم بدون أي وجه حق، فإنها ترى أن الرد على الاستفسارات بهذا الشأن ليس من اختصاصها. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو:
إذا كان من اختصاص الحديقة مقاسمة الكادحين عرق جبينهم، فمن هو المختص بالرد على استفسارات الناس والصحفيين حول هذه الجبايات، وإلى أين تذهب؟!