«لا» 21 السياسي -
في مذكراته الليبية، يروي لنا الصحفي اللبناني طلال سلمان قصة اختفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين في ليبيا. يروي طلال سلمان أن الخلل في العلاقة مع ليبيا بدأ عام 1978، وتحديداً في الأيام الأخيرة من آب/ أغسطس. كان سلمان في ليبيا برفقة مجموعة من الزملاء لإجراء مقابلة «فكرية – سياسية» مع القذافي، «وأذكر أنه كان معي أسعد المقدّم، ومحمد مشموشي، وعلي يوسف، وبشارة مرهج، ومنح الصلح، وعباس سلمان المصوّر». في فندق الشاطئ، الذي كان يعجّ بالنزلاء لكثرة المدعوين إلى احتفالات الثورة، التقى طلال سلمان برفيق الإمام موسى الصدر، الصحافي عباس بدر الدين، الذي أخبرهم أن الإمام موجود هنا. كان ذلك ليل 28 آب/ أغسطس. قرّر الفريق زيارة الصدر ليلاً، لمؤانسته، وقد حمل إليه الراحل أسعد المقدّم عنباً من دون بذور من السوق كهدية رمضانية، وتوجه الجميع لقضاء السهرة معه. في تلك الليلة، «أخبرنا الإمام الصدر أنه جاء بوساطة من الرئيس الجزائري هواري بومدين. فقد كان في الجزائر يشكو من تصرّفات المسلّحين الفلسطينيين في الجنوب (اللبناني)، وكيف أن الفلسطيني صار يطلق النيران من بين المنازل ويهرب فيأتي الرد الإسرائيلي على بيوت الجنوبيين الذين تأذوا كثيراً. بادر بومدين إلى الاتصال بالقذافي وتحدث معه في الأمر، وجرى الاتفاق على تحديد موعد في ليبيا يجمع الرجلين، وقد أكد لنا الصدر أنه سيغادر ليبيا قطعاً قبل الثلاثين من آب/ أغسطس، لأنه لم يكن يرغب بالمشاركة في احتفالات ثورة الفاتح في الأول من أيلول/ سبتمبر، وقال لنا حرفياً: لا أريد أن أجلس خلفه على المنصة وأسمعه يشتم من شاء من الرؤساء والملوك والقادة في الشرق والغرب».
في اليوم التالي، ذهب فريق صحيفة «السفير» للقاء القذافي، وانهمك في العمل، «ولدى العودة إلى الفندق القتينا بعباس بدر الدين يركض. سألناه: خير يا عباس؟! قال لنا: اتصال، إن شاء الله فُرجت. قلنا: إن شاء الله. ومن بعدها لم نَرَه، لا هو ولا السيد ولا الشيخ محمد يعقوب. فاعتبرنا أن الصدر قابل القذافي وغادر؛ لأننا كنا سمعنا منه أنه سيغادر سريعاً، لذا لم نستغرب عدم رؤيتنا له لاحقاً. وعندما عدنا إلى لبنان في 3 أيلول/ سبتمبر بدأت الاتصالات تنهمر علينا: أين السيد موسى؟! ما أخباره؟! قلنا: السيد موسى غادر قبلنا. كيف غادر؟! لا لم يغادر. لم يكن في المطار... والأسئلة المعروفة».
كان الوضع مربكاً لسلمان ولجريدة «السفير»، التي تعاملت مع خبر اختفاء/ إخفاء السيد موسى بمسؤولية كبيرة. لكنها لم تقل كل شيء، خصوصاً عن اللقاء الذي جمع سلمان بالقذافي بعد نحو ستة أشهر، أي في آذار/ مارس 1979.
كان الإمام الخميني قد عاد إلى إيران مطلع شباط/ فبراير من ذلك العام، وتوجّه سلمان للقائه في قم، حيث كان يقيم، بعد شهر تقريباً من انتصار الثورة، وكان قد سبق له أن قابله في منفاه الفرنسي، في «نوفل لو شاتو» قبل أن يقرر الرجوع إلى بلاده.
بقي سلمان في إيران نحو 14 يوماً، أجرى خلالها العديد من المقابلات. وفي إحدى الليالي، بينما كان عائداً إلى الفندق في طهران، وجد شخصين يقفان أمام باب غرفته. إنهما ليبيان، الصحافي المحترف سعد مجبر، الذي كان يتقن نحو ست لغات، وإبراهيم مصطفى، رجل المخابرات الذي كان يقدّم نفسه كصحافي. خير؟! ما الذي أتى بكما؟! سألهما سلمان متفاجئاً وهو يدعوهما للدخول إلى الغرفة. قال له سعد: «العقيد يريدك في ليبيا هذه الليلة، إذا أمكن!». وتابع إبراهيم سريعاً: «نحن مستعدّون لكل شيء، رحلة الطائرة مؤمّنة». حاول سلمان الاعتذار بالقول إن لديه الكثير من العمل: «لقد أجريت العديد من المقابلات وعليّ العودة إلى لبنان لكتابتها». أصرا: «نحن مفوضان أن نأتي بك ولو تطلّب الأمر استئجار طائرة خاصة». طلب الانتظار بضعة أيام لينهي عمله، فلم يوافقا: «العقيد يبيك التوّ (يريدك الآن)». وشرح سعد: «العقيد يريدك لأمر لا يقلّ أهمية عن عملك، فلنقل إنه عن العلاقة بينه وبين الإمام الخميني»، ثم تابع: «افترض أنه أيضاً أمر يتصل بقضية الإمام موسى الصدر».
وافق سلمان وقد كان يدرك جيداً رغبة القذافي في إقامة علاقة جيدة مع إيران، ويزعجه أن قضية اختفاء الإمام الصدر جعلت الأمر مستحيلاً. هكذا، سافر الثلاثة من طهران إلى دبي، ثم من دبي إلى فرانكفورت، ثم إلى فيينا، ومنها إلى تونس، «حيث كان علينا أن نمضي ليلة، ومن تونس طرنا إلى طرابلس؛ لكن القذافي كان قد صار في بنغازي. وهكذا طرنا إلى بنغازي حيث نمنا، واتفقنا على موعد عند التاسعة صباحاً للقائه».
في الصباح، خرج سلمان من الفندق فوجد حافلة ضخمة وفخمة في الخارج. «صعدنا فيها، نحو أربعين شخصاً، وكان القذافي معنا، واتجهنا نحو مدينة درنة، التي تبعد نحو 70 إلى 80 كم عن بنغازي. عندما وصلنا إلى نقطة معينة بين المدينتين، التفت إلى الموجودين وطلب منهم النزول. بقيت واقفاً، فبادرني بطرح جملة من الأسئلة من دون توقف: أريد أن أعرف من هو موسى الصدر! ما هي قصته؟ ما علاقتي أنا بالأمر؟ يموت أو يعيش، يختفي أو لا يختفي، قتلته أو سأقتله، لمَ سأقتله؟! أنا لا أعرفه. قد أكون التقيته والأرجح أنني لم ألتقِ به، لكن لمَ سأقتله؟! أنت تعرف، لقد اتصل بي بومدين وقال لي أن أقابله. يحكون الكثير في لبنان ويخطبون في المهرجانات عن مسؤوليتي. ما علاقتي؟!».
تهيّب سلمان الموقف، وفكر قليلاً، هل يحكي الصراحة أم يجامل؟! ثم قرّر أن يقول الأمور كما هي، خصوصاً بعد هذه الرحلة الخرافية التي قطعها: «قلت له: الصراحة يا أخ معمّر، إذا كنت تسألني لكي تعالج المسألة فأنا حاضر؛ لأن الموضوع جدي جداً ونكاد نكون أمام كربلاء جديدة. أما إذا كنت تريد المكابرة وقول الكلام الذي تكرّره في الإذاعة والتلفزيون فأنا لن أقول شيئاً، سأجيبك بشكل سطحي. طلب مني القذافي الكلام بصراحة، فأجبته إني قد أكون أحب أو لا أحب السيّد موسى الصدر؛ لكني سأخبرك من يكون». قدّم له طلال سلمان سردية عن الشيعة، وعن ظلامتهم التاريخية في المشرق العربي، وعن موقع موسى الصدر والحركة التي أسسها والانتعاش الشيعي الذي تحقق بفضله. كما حكيت له عن موقع الصدر في الحياة السياسية اللبنانية، وكيف استطاع أن يخترق بشخصيته وذكائه وثقافته وكفاءته الخطابية، وعشق النساء له، كلّ الحواجز الطائفية والطبقية. وحدّثته عن علاقته بياسر عرفات والمقاومة الفلسطينية، والمشاكل الأخيرة التي أدّت إلى طلب الوساطة من بومدين لكي يتوقف الفلسطينيون عن استخدام المناطق السكنية لإطلاق النار على إسرائيل». أجابه القذافي: «حتى لو كان أكبر زعيم في العالم، ما علاقتي بأمر اختفائه؟! لمَ سأقتله؟! ماذا فعل لي؟! مشكلته مع الفلسطينيين فما علاقتي بالموضوع؟!». أجاب سلمان: «كان ضيفك، وأنت رئيس الدولة، وهذه بلادك، والمطار مطارك!». قال القذافي: «يعني أنا مسؤول عن الألفين شخص الذين كانوا في ليبيا يومها؟!». أجاب سلمان: «أنت المسؤول عن 15 ألفاً إذا حضر 15 ألفاً. من المسؤول إن لم يكن الرئيس؟!». عاد القذافي يكرّر: «لمَ سأقتله؟! بالكاد أعرفه. ماذا يعني لي موسى الصدر؟! وماذا يعني لي السنّة والشيعة؟!». كان صوته مرتفعاً، فقال له سلمان: «أخ معمّر، لقد استدعيتني من طهران وقطعت كلّ هذه المسافة، وأنا لا أعرف ما هو الموضوع، على الأقل هذا الرجل كان ضيفك، وأنت مسؤول عن حياته منذ لحظة دخوله إلى لحظة خروجه، أنت رئيس البلد وأنت الحاكم الفعلي والوحيد في هذا البلد!». تجادلا كثيراً وبصوت عال، كان خلالها سلمان يحسب حساباً لكلّ كلمة؛ «لأني في النهاية بين يديه. سألني في النهاية: ما العمل؟! أجبته: في الحقيقة، لقد فاجأتني، لذا لست مستعداً لتقديم إجابة؛ لكني قد أقترح عليك ما خطر في بالي الآن. قال: خير؟! لكن بنبرة غاضبة. تابعت: تعرف أن أجهزتك الأمنية غير منضبطة كما يجب، وهناك فوضى عظيمة، وهذا الرجل كان ضيفك، وبالتأكيد ومن دون أن أعرف تفاصيل يمكن الاستنتاج أن رجال الأمن المسؤولين قصّروا في حماية موسى الصدر وهو ضيفك وقادم لزيارتك بتوصية من هواري بو مدين، فلمَ لا تجري تحقيقاً في أوساط المخابرات وتحاسب المقصّرين؟! تقدّمهم إلى المحكمة وتقول: هؤلاء قصّروا، وقد كانوا مكلفين بحراسة وتأمين السيد موسى الصدر. هكذا تحلّ مشكلتك، وتتصالح مع إيران التي تمنع من زيارتها اليوم، وتكون قد أرضيت الجمهور الشيعي الغاضب والمنتشر بين لبنان والعراق وصولا لإيران، وحفظت كرامتك كرئيس دولة مسؤول، وحفظت كرامة بلادك، ومنعت تجدّد الفتنة السنية الشيعية. هكذا لا تنقذ نفسك فحسب، بل ليبيا وسمعة شعب ليبيا، وإلا فإنها لعنة أبدية ستلاحقك، ولن تدفع ثمنها وحدك، سندفع ثمنها كلنا كمسلمين وكعرب». رفض القذافي هذا الاقتراح، واعتبر أنه يثبت عليه تهمة هو بريء منها. ثم أشار بيده إلى الجموع فعادت إلى الحافلة التي توجهت بالجميع مجدداً إلى درنة، ومنها إلى طرابلس، فبيروت.
بعد هذا اللقاء، تعكرت العلاقة بين الرجلين. زار سلمان ليبيا بعدها مرتين لتكون الزيارة الأخيرة في العام 1980، «وآخر مرة زرت ليبيا كانت عام 2002 عندما قرّرت أن أحوّل «السفير» إلى شركة مساهمة. وكان موضوع المقابلة التي واكبني فيها حرس شرف هو: السيد موسى الصدر. ولقد كرّرت السؤال وكرّر الأجوبة، ولم يتح لي أن أتحدّث عن سبب زيارتي... الأخيرة».

29/ 7/ 2023
مهى زراقط، كاتبة وصحافية وأكاديمية