اليمن بالحبر الغربي -
واقعة غريبة تشهدها سواحل اليمن منذ 9 سنوات، وبطلها هو الناقلة العملاقة «صافر»، التي كانت تنقل نفط البلاد على مدى 30 عاماً، حتى تحولت إلى ما يعرف بالقنبلة الموقوتة، قبل أن يتم إبطالها قبل أيام بجهود مشتركة من طرفي الحرب في اليمن ومن الأمم المتحدة أيضاً.
منذ عام 1988، طفت ناقلة النفط العملاقة «صافر» في البحر الأحمر، حيث تلقت النفط الخام من حقول النفط الوفيرة في مأرب اليمنية. لمدة 30 عاماً، كانت الناقلة جزءاً مهماً من البنية التحتية في صناعة النفط المزدهرة في اليمن، والتي كانت تدر 63% من إيرادات الحكومة.
لكن الحرب «الأهلية» اندلعت في عام 2014 واضطر معظم طاقم الناقلة إلى هجرها، تاركين وراءهم حمولةً تُقدَّر بـ1.1 مليون برميل من النفط. وفي ظل التكاليف المتزايدة والمخاطر الأمنية، أصبحت صيانة الناقلة شبه مستحيلة، بحسب تقرير لصحيفة (The Guardian) البريطانية.
وعندما هددت التسريبات في غرفة المحرك في عام 2020 بإغراق الناقلة، أثار ذلك مخاوف بشأن ما يمكن أن يحدث إذا انتشرت الشحنة في المحيط. لذا، لجأت الأمم المتحدة، في مواجهة هذه «القنبلة الموقوتة» وفي محاولة يائسة لمنع وقوع كارثة بيئية وإنسانية، إلى طريقةٍ غير مسبوقة: التمويل الجماعي.
القصة اللافتة التي تلت ذلك وصلت أخيراً إلى نهايتها الأسبوع الماضي، عندما أكملت فرق الإنقاذ عملية كلفت ملايين الدولارات لتفريغ الناقلة صافر من النفط، وبالتالي تجنب كارثة كان من الممكن أن تكون «أسوأ تسرب في عصرنا». لكن لم يكن مقدراً لها أن تنتهي نهاية سعيدة، بل كانت في الواقع معلقة بشكل غير مستقر على خيط رفيع من الاتفاق بين الطرفين المتحاربين في اليمن.
يقول ديفيد غريسلي، منسق الأمم المتحدة المقيم ومنسق الشؤون الإنسانية في اليمن، الذي قاد عملية الإنقاذ مع الحكومات والمنظمات غير الحكومية ورجال الأعمال اليمنيين: «أود أن أصف الناقلة صافر بأنها وحشٌ قام الجميع بترويضه».
بُنِيَت «صافر» كناقلة عملاقة في عام 1976، وتحولت لاحقاً إلى منصة تخزين وتفريغ عائمة، وهي سفينة تقوم بتخزين النفط الخام في صهاريج شحن ضخمة تُفرَّغ إلى السفن المارة. وهي مملوكة لشركة صافر لعمليات الاستكشاف والإنتاج، أول شركة وطنية للنفط والغاز في اليمن.بعد اندلاع الحرب، لم يبقَ سوى قوة عاملة صغيرة ومتفانية لصيانة السفينة. كانت الاحتمالات ضدهم: لم تكن الشحنة الهائلة في صافر متمركزةً في منطقة حربٍ فحسب، مما جعل الوصول إليها مقصوراً على من يسيطر على الساحل، ولكن بعد عام 2015، انهارت أنظمة سلامة السفينة، التي تمنع انفجارات الغاز والحرائق، وتعطَّل هيكلها، وتطوَّرت نقاط الضعف في الهيكل.
تقول جيوا نكات، المديرة التنفيذية لمنظمة السلام الأخضر لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: «كانت صافر معلقةً فوق رؤوسنا كقنبلةٍ موقوتة منذ عام 2015».
ومن الحالات السابقة فإن النفط المنطلق من سفينة غارقة أو منفجرة كان من شأنه أن يشبع سواحل اليمن والسعودية وشمال أفريقيا، ويخنق أشجار المانجروف والشعاب المرجانية، ويقضي على مصائد الأسماك التي يعتمد عليها 1.7 مليون شخص، ويسمم محطات تحلية المياه التي توفر المياه العذبة لعشرة ملايين شخص. وأكثر من ذلك، كان من شأنه أن يغلق ميناءَي الحديدة والصليف، وهما نقطتا دخول حاسمتان للدعم الإنساني.
لقد كانت خطورة هذا التهديد لكل من «الحوثيين» في اليمن، وللسعودية، التي تدعم «الحكومة المعترف بها دولياً»، هي التي خلقت خيط اتفاق بين الطرفين المتحاربين سمح لغريسلي بالبدء في اجتماع المجموعات بشكل منفصل في عام 2021 لمناقشة كيفية إنقاذ الناقلة.
كانت المفاوضات التي توسطت فيها الأمم المتحدة على حافة الهاوية، ففي ذلك الوقت كانت «صافر» تقع على بعد أميال فقط من خط المواجهة، بالقرب من الحديدة، ولم يؤدِّ تدفق المفاوضين الأجانب إلى المنطقة إلا إلى تأجيج انعدام الثقة. يقول غريسلي إن «المناقشات كانت بالضرورة مؤقتة وبطيئة. فقط من خلال حل القضايا السياسية والأمنية، يمكن البدء في الحديث عن تنفيذ حل تقني».
لكن في أيلول/ سبتمبر 2022، اتفق الطرفان على خطة لإزالة النفط. وكان ذلك يتوقف على مطلب رئيسي: يجب على شخص ما شراء سفينة جديدة للاحتفاظ بالنفط المنقول، الذي يجري التنازع على ملكيته. معظمه ملك للدولة؛ لكن الحرب أدت إلى تعقيد من يمثل الناقلة، حيث يطالب كل من الحكومة المدعومة من التحالف و»الحوثيين» بالشحنة.
ستكلف السفينة الجديدة أكثر من 50 مليون دولار، وهو المبلغ الذي يغطيه عادة أصحاب الناقلات وشركات التأمين الخاصة بهم. ومع ذلك، فإن ظروف الحرب كانت تعني أن القواعد العادية لا تنطبق على الوضع هنا، ويقع على عاتق الأمم المتحدة العثور على 144 مليون دولار لتغطية التكاليف الإجمالية، بما في ذلك السفينة الجديدة واستئجار شركة إنقاذ لنقل النفط. وفي أيار/ مايو 2022، أطلقت الأمم المتحدة حملة طموحة لجمع الأموال من الدول الأعضاء، وهو تكتيك مخصص عادةً للاستجابة للكوارث الإنسانية.
ورغم ضخ مبالغ كبيرة من التمويل، كان التقدم بطيئاً. يقول غريسلي: «لو حدث تسرب نفطي كبير هناك لكان من المحتمل أن نجمع مليار دولار في شهر واحد؛ لأن هناك آليات للحكومات للقيام بذلك». لكن تأمين الأموال لمنع التسرب النفطي كان قصة مختلفة تماماً. يضيف غريسلي: «عانت كل حكومة من ذلك، ولم يكن لديها بنود في الميزانية. فمن أين تأخذ هذا المال؟!».
وحرصاً منها على الحفاظ على الزخم الذي اكتسبته المفاوضات بشق الأنفس، بدأت الأمم المتحدة في مناشدة القطاع الخاص للحصول على التمويل. ثم، على نحو غير معتاد، في حزيران/ يونيو 2022، وسَّعت الأمم المتحدة نطاق جمع المال من خلال حملة تمويل جماعي أطلقها غريسلي نفسه، والتي نجحت في جمع ما يقرب من 380 ألف دولار.
وبحلول أيلول/ سبتمبر 2022، كانت الحملة قد جمعت 75 مليون دولار من المبلغ المطلوب البالغ 144 مليون دولار من مزيج يضم 17 دولة، وشركة يمنية واحدة متعددة الجنسيات، وحتى مجموعة من طلاب مدرسة أمريكية.
وعندما وصلت الحملة إلى 121 مليون دولار في تموز/ يوليو من هذا العام، قدم صندوق الطوارئ الإنساني التابع للأمم المتحدة قرضاً لسد الفجوة المتبقية البالغة 20 مليون دولار.
ساعدت هذه الأموال الأمم المتحدة لتتمكن أخيراً من شراء ناقلة تخزين بديلة أطلقت عليها اسم «اليمن»، ومن هناك كان التحرك سريعاً. وفي 2 حزيران/ يونيو، صعدت شركة الإنقاذ (Smit Salvage) على متن الناقلة صافر لتقييم الهيكل ومخاطر انفجارات الغاز، وهي أول عملية تفتيش منذ عام 2015، وهي خطوة محفوفة بالمخاطر للغاية، حيث إن مجرد إرساء السفينة البديلة بجانب الهيكل الضعيف لصافر قد يكون كافياً لتحطيمه. وكانت هناك طائرة طوارئ على أهبة الاستعداد في جيبوتي، لإسقاط حمولتها من مشتتات النفط الميكروبية في حالة حدوث تسرب.
وبعد مرور شهر تقريباً، أعطت شركة الإنقاذ إشارة البدء. وفي 25 تموز/ يوليو انحرفت الناقلة «اليمن» إلى جانبها لتتلقى حمولتها. يعد نقل مليون برميل من النفط عبر المضخات الهيدروليكية عملية شاقة؛ ولكن مع سحب البرميل الأخير في 11 آب/ أغسطس، كان هناك ارتياح واضح؛ لأنه لم يعد من الممكن أن يحدث أي ضرر، كما يقول غريسلي.
ستُربَط الناقلة «اليمن» مؤقتاً بقاع البحر من خلال مرساة مخصصة، حتى يُعثَر على مكانٍ آخر تركن إليه. وسيتبع ذلك مداولاتٌ دقيقة حول كيفية تقسيم أرباح النفط، عندما يُباع في نهاية المطاف. يقول غريسلي: «لا أحد يرغب في أن تذهب العائدات لتعزيز القدرات العسكرية مثلاً». الآن كل ما تبقى هو سحب الناقلة صافر إلى الشاطئ، حيث من المحتمل أن يتم التخلص من جوانبها الفولاذية وإعادة تدويرها. تقول نكات إن منظمة السلام الأخضر ستراقب الأمر للتأكد من عدم وصولها إلى إحدى ساحات تكسير السفن سيئة السمعة في جنوب شرق آسيا.
وهي تشكك في مشاركة شركات النفط في تجنب هذا التسرب النفطي الذي كان ليؤدي إلى كارثة، مشيرةً إلى أن تحقيق منظمة السلام الأخضر كشف أن شركتَي «توتال إنرجيز» و»إكسون» تمتلكان حصة من نفط السفينة. ويقول غريسلي إن منظمة شاملة لصناعة النفط تبرعت بمبلغ 15 مليون دولار للحملة.
وبحسب نكات، ليس هذا كافياً. تقول: «لديك المجتمع الدولي وأعضاء الأمم المتحدة والأفراد من جميع أنحاء العالم يجتمعون للمساهمة بمبلغ 121 مليون دولار، ومازال العدد في ازدياد. ومن ناحية أخرى، لديك عمالقة النفط هؤلاء، الذين يجب أن يتحملوا نصيب الأسد من المسؤولية، ويهملون واجباتهم».

صحيفة (The Guardian) البريطانية