«لا» 21 السياسي -
كانت عمليات القوات المسلحة اليمنية هي الأكثر إزعاجاً وإيلاماً وإنزافاً للكيان الصهيوني، بعد صمود الغزّيّين. الصواريخ المجنحة البعيدة المدى والمسيّرات قرّبت المسافات وجعلت اليمن البعيد جغرافياً على أبواب مستوطناته الجنوبية. الخطر الأدهى كان تهديد السفن الصهيونية العابرة باب المندب، الأمر الذي تترتب عليه تداعيات استراتيجية تتعدى الخسائر التجارية المباشرة. يشكّل هذا المضيق عقدة تاريخية للكيان المجرم منذ أن أغلقته صنعاء أمام ناقلات النفط الإيرانية المتّجهة لدعمه في حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، وقبل ذلك كان حرمان السفن الصهيونية من العبور أحد أسباب اندلاع الحرب في حزيران/ يونيو عام 1967 (نكسة حزيران) عندما أغلقت مصر مضيق تيران.
هذه المرّة يعطل اليمنيون حركة سفنه المتّجهة من «إيلات» (أم الرشراش المحتلة) وإليها والمحمّلة بالواردات وبعض حاجاته من النفط في مقابل صادراته إلى أفريقيا والشرق الأقصى.
ونظراً للأهمية الاستراتيجية للمعبر والمسطّح المائي اللذين تمرّ عبرهما أكثر من 38 في المائة من الملاحة الدولية، ونحو خمسة ملايين برميل نفط يومياً، كانت «تل أبيب» قد «اشترت» قواعد جوية في جزيرتَي حالب وفاطمة عند المقلب الإريتري من مضيق باب المندب، و»استأجرت» جزيرة دهلك حيث أقامت قاعدة بحرية. وربما الموقع الجغرافي لليمن كبوابة جنوبية للعالم العربي وزاوية العقد للبيت الخليجي ونقطة انطلاق إلى شرق أفريقيا ومفتاح لباب المندب يعطي صنعاء مكانة بارزة في العقل الاستراتيجي الصهيوأمريكي، والذي استمات وما يزال في جعل البحر الأحمر بحيرة صهيونية مغلقة.
اليمن راديكالي (جذري)، وليس متطرفاً؛ لأنه لم يسمح أن يُطبَّق القانون الدولي بانتقائية، ضد الفلسطينيين دائماً ومع «إسرائيل» غالباً. اليمن راديكالي لأن لسان حاله يقول: إذا كانت علاقات القوة هي المعيار الوحيد في المواجهة، وإذا كان الغرب يسمح لـ»إسرائيل» باستخدام كل أوراق الضغط والقهر المحتملة (استهداف مستشفيات، وقود، أطفال، نساء، طعام، ماء، مبان... إلخ)، فإن اليمنيين قرروا أن يدعموا فلسطين على طريقتهم الراديكالية الخاصة، ولسان حالهم يقول: «ليس من المفروض أن يثير احتجاز السفن التجارية «الإسرائيلية» استنكاراً دولياً؛ إذا لم تثره صور الأطفال الخدج في غزة» كما يشير محمد فرج، رئيس تحرير موقع «الميادين نت».
يضيف فرج: «إذا كانت جبهة غزة تشهد مواجهة برية حامية وإطلاقاً دورياً للصواريخ، وكانت جبهة حزب الله في جنوب لبنان تبدع في الإصابات والعمليات الدقيقة والفعّالة ضد مواقع الاحتلال وآلياته، فإن اليمن هو مايسترو الجبهة الراديكالية، التي تردّ بالأدوات التي يفترض المجتمع الدولي أن العرب لا يستطيعون استخدامها، ويقلقون من ردود الفعل بعدها.
الحرب الطويلة، والشعور بالخذلان خلالها، ورصيد تاريخي من التصدي للاستعمار، وتجربة طويلة في الانسلاخ عن العولمة وعدم الاندماج فيها، جميعها شكلت الوصفة اليمنية للراديكالية في التعامل مع الأحداث الكبرى. كان استثمار ورقة المضائق وإغلاق مخارج البحر الأحمر أدوات الجيوش العربية في حروبها ضد إسرائيل؛ ولكن ما يربك الاحتلال اليوم أن اليمن وحده، بقواته المسلحة، يفعل ذلك!» كما يختم فرج.
«بعيدا عن الضحك والنكات، أخبار البحر الأحمر ليست مجرد عمليات عسكرية موجهة ضد سفن الاحتلال، وإنما أمر واقع تفرضه جماعة الحوثي في البحر الأحمر ومضيق باب المندب» يقول سامح عسكر.
يضيف عسكر: «هذه الجرأة في استهداف السفن «الإسرائيلية» والأمريكية والبريطانية تعني أن الجماعة قادرون على مواجهة من هم أقل من هؤلاء بسهولة، بل وبإمكانهم الإضرار بالملاحة البحرية وتعطيلها في البحر الأحمر وما يحدث من عمليات أبعاده تتجاوز حدود غزة وقضية فلسطين، فتحريك أمريكا لأساطيلها، وإرسال «إسرائيل» قطعاً بحرية، يعني تغيراً تاماً في قواعد اللعبة، فهذه الجماعة لم تعد مجرد مليشيا تردد الصرخة في جبال صعدة، بل قوة إقليمية تستطيع إفساد أي فعالية ولا تخشى عواقب سطوتها وعملياتها».
يحذّر المحرر السياسي لصحيفة «البناء» اللبنانية من تجاهل وقائع ما يجري في البحر الأحمر من تطورات دراماتيكية غير مسبوقة، «حيث يفرض أنصار الله ضمن تداعيات العدوان على غزة مشهداً يقول إن الملاحة في هذا الممر المائي الحيوي للتجارة العالمية ونقل الطاقة أمام احتمالات التوقف، وأن الرهان على قدرة الردع الأمريكية لبقاء الرفاه العالمي بخير حتى لو قتل كل سكان غزة ليس إلا وهم، وأن أنصار الله رغم الحشود الأمريكية الضخمة في المنطقة يفرضون معادلة تقول إن حياة الغرب لا تستطيع أن تبقى كما هي فيما غزة تذبح بكل وحشيّة وحكام الغرب يصفقون لآلة القتل «الإسرائيلية»، أو يخاطبونها بلغة التمني الخجل لتخفيف درجة التوحش منعاً للإحراج».
إن نقل المعركة إلى خارج حدود قطاع غزة والمنطقة الضيقة المحيطة به لجعل كل دول العالم -دون استثناء- مَعنيّة بشكل مباشر بوقف إطلاق النار هو الهدف الذي حققه اليمن بالفعل. ونتيجة للنقطة الاستراتيجية المهمة التي تتركز فيها العمليات العسكرية اليمنية وصل حجم التأثير إلى الأسواق العالمية. وإذا كانت بعض الدول أصرت طيلة الفترة الماضية على اتباع سياسة النأي بالنفس عن الحرب الهمجية الصهيونية على الشعب الفلسطيني حفاظاً على مصالحها باتت اليوم مضطرة ودون أي مناشدة دبلوماسية إلى الضغط لتهدئة المنطقة وتجنيبها حرباً إقليمية وشيكة.
بالتوازي يؤكد وزير الدفاع اليمني، اللواء الركن محمد ناصر العاطفي، أن «زمن الضغوط والترغيب والترهيب ولى إلى الأبد، وعلى دول العالم أن تتعامل مع اليمن معاملة الندية وكدولة حرة مستقلة عاصمتها صنعاء الأبية»، مطمئناً كافة دول العالم بأن «البحر الأحمر منطقة آمنة للملاحة والتجارة الدولية ومرور السفن، عدا السفن الخاصة بالكيان الصهيوني أو التي لها علاقة به».
وأكد اللواء العاطفي أن «البحر الأحمر من خليج العقبة وحتى باب المندب أصبح محرماً على الكيان الصهيوني وسيتم الاستيلاء على أي سفينة للكيان الصهيوني في البحر الأحمر أو إنزال الضربات عليها»، وأن «القوات البحرية والقوة الصاروخية والطيران المسيّر جاهزة لإنزال أقسى الضربات الفردية والجماعية بالأهداف الثابتة أو المتحركة للكيان الصهيوني، نصرة لأهلنا في غزة ولإيقاف العدوان عليهم».
هنا تحديداً يصنع اليمنيون الفارق بين البلد الاسمي والبلد الحقيقي، حيث القرار والسيادة والحدود لم تعد فقط على الورق.