«لا» 21 السياسي -
حينما كنت في العاشرة وأحتج غالباً على غياب صحن الأرز عن وجبة الغداء، كان أبي رحمة الله تغشاه يردد على مسامعي مثلاً يمنياً شعبياً يقول: «لو في الرز قوة كان في الهندي مروءة».
لم أكن أحفل حينها بمروءة الهندي، بل بغياب الأرز عن المائدة. ولطالما كنت أسخر من الأفلام الهندية ومشاهديها، برغم إعجابي بأغاني بوليوود الكلاسيكية. وكنت أحاول -دون فائدة- تبادل أطراف الحديث مع العمال الهنود، بالعربية أو بأولى جمل الإنجليزية التي تعلمتها باكراً، وهم ينفذون مشروع إنارة شوارع مدينة رداع أواسط ثمانينيات القرن الماضي، دون فائدة، فقد كانوا يتحدثون الهندية، وكنت أظنها الأوردو حينها، لتجمعني صداقة وثيقة بعد أقل من عقدين في الجامعة مع البروفيسور الهندي كومار راكيش المثقف والأستاذ...
مع مرور الوقت أعجبت تدريجياً بالتنوع الهندي إنسانياً ودينياً وثقافياً واجتماعياً، وقرأت بإعجاب أكثر عن جواهر لال نهرو وابنته أنديرا وحفيده راجيف، وعن اللاما غاندي، وعن الشاعر طاغور، وملحمة الشاهنامة، وعن المغولي الذي حكم الهند شاه جاهان وزوجته ممتاز محل، وعن ملحمة الاستقلال عن بريطانيا، وعن دور نهرو في حركة عدم الانحياز وصداقته لعبدالناصر وسوهارتو وخطابه عن الاستعمار المقنع، وعن موقف الهند من القضية الفلسطينية (لم تعترف نيودلهي بالكيان الصهيوني إلا مع بداية تسعينيات القرن الفائت، مع مؤتمر مدريد الاستسلامي وما تلاه)... ومع كل هذا، لا ننسى أن الإنجليز قد احتلوا تاج الهند (عدن) -كما كان يسمونها- بذريعة جنوح ونهب سفينة هندية. بالمناسبة، فإن العملية العسكرية التي نفّذتها القوات البحرية اليمنية يوم الجمعة 26 كانون الثاني/ يناير 2024 واستهدفت درة تاج القوات البحرية البريطانية «دايموند» تزامنت مع ذكرى احتلال بريطانيا جنوب اليمن في عام 1839 بذريعة جنوح السفينة الهندية «داريا دولت»... ومن ذا الذي لا يتذكر مشاهد الهمجية والوحشية من قبل الجنود الهنود السُّخرة بحق سكان عدن إبان الاحتلال البريطاني للجنوب اليمني؟! دعكم الآن من كشمير والنزاع الهندي الباكستاني بشأنها (يعد «مبس» و»مبز» من أوائل الداعمين للهند بهذا الشأن)، ولننتقل قليلاً إلى الضفة الأخرى من الموضوع، ولنعد بعض الشيء إلى ما كتبناه على صفحات هذا الملحق قبل أشهر مع بداية حرب أوكرانيا وموقف رئيس الوزراء الباكستاني حينها عمران خان من تلك الحرب ورفضه للإملاءات الأمريكية بالوقوف مع الغرب ضد روسيا وتحذيرنا حينها بأن واشنطن ستدفّع عمران خان الثمن، وهو ما قامت به الرياض وأبوظبي، ربيبتا واشنطن وربتا إسلام أباد، بكل حرفية وانحراف، بقفازات قادة الجيش الباكستاني وقضاة إسلام أباد الفاسدين، في حكم قضائي هو الثالث من نوعه منذ تنحيته عن رئاسة الحكومة، وضمن معركة مع زعيم حركة إنصاف عمران خان تم توجيه أكثر من مئة تهمة إلى الرجل، لتصدر محكمة مكافحة الفساد الباكستانية حكماً بالسجن 14 عاماً على رئيس الحكومة السابق وزوجته بشرى بيبي في قضية تتعلّق بمزاعم قيامهما ببيع 108 هدايا كانا قد تلقّياها من قادة أجانب، من بينهم محمد بن سلمان، خلال فترة وجود خان في السلطة. وتضمّن الحكم الذي جاء بعد يوم واحد من صدور آخر قضى بسجن كل من: خان، ووزير خارجيته شاه محمود قرشي، لمدة 10 سنوات بتهمة تسريب أسرار الدولة، ومنع زعيم «إنصاف» وزوجته من شغل أيّ منصب عام لمدّة 10 سنوات، وفرض غرامة مالية بقيمة 787 مليون روبية (2.8 مليون دولار) على كلّ منهما. عمران خان (نجم الكريكت الشهير سابقاً) في السجن بعقوبة الحبس لسنوات مجرداً من كل حقوقه حتى كمواطن، لأنه قال لواشنطن: لا، ولتلويحه بالكشف عن علاقة العمالة بين قادة الجيش وواشنطن، وبخاصّة قضية نشر وثيقة لمراسلات دبلوماسية بين السفير الأمريكي والجيش كان قد لوّح بها خان خلال إحدى التظاهرات المؤيّدة له.
بين الهند وباكستان ما صنع الحداد البريطاني، وما كان محمد علي جناح واللاما غاندي إلا جنديين في استراتيجية لندن التقسيمية، وليس هذا موضوعنا ها هنا، بل موضوعنا هو ما سقناه في مقدمة هذا الحديث عن غياب الأرز عن المائدة والمروءة عن الهنود؛ ولكن ماذا عن الباكستانيين؟!
مع وصول متطرفي «بهارتا جناتيا» الهندوسي للحكم زاد تعاون نيودلهي مع «تل أبيب» إلى حدود غير مسبوقة، عسكرياً وتكنولوجياً، وما إعلان وصول بوارج وسفن عسكرية هندية إضافية إلى البحرين العربي والأحمر إلا جزء من ذلك التعاون الصفيق، وأيضاً ما إعلان اقتراب اثنتي عشرة من تلك السفن من مثيلتها الأمريكية في باب المندب إلا ضمن محاولات حماية الكيان الصهيوني وفك الحصار اليمني البحري عنه، ودعماً للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة... لكن -وهنا السؤال الكبير- ماذا عن الدولة الإسلامية الكبرى والنووية الوحيدة باكستان؟!
حتى عميل الـ»سي آي إيه» ضياء الحق لم يكن ليرضى ربما بموقف إسلام أباد المخزي من محرقة غزة. وإن كان الهندي الجينات روشي سوناك (رئيس الوزراء البريطاني) قد أنساه عمه الصهيوني أن الضباط الإنجليز كانوا يركبون ظهور أجداده بدلاً من ظهور الحمير والبغال، فما الذي أنسى عمدة لندن الباكستاني الكروموسومات صديق خان، ومعه كل أحفاد محمد علي جناح أن البريطانيين كانوا يركبون ظهور جداتهم أيضاً؟! قد يقول أحدهم بأن من أنساهم ذلك هما «مبس» و«مبز»؛ غير أن ما لدى الأخيرين ليس بأقل مما لدى الباقين من ذكريات أجداد وجدات خلفوا أبناءً عبيد وأخلفوا حفيداتٍ إماء!