تقرير وتصوير/ عادل بشر / لا ميديا -
بوجع يشبه الفقد الأول، شيّعت العاصمة صنعاء، الثلاثاء، جثمان الإعلامي والصحفي الكبير الزميل خليل العُمَري، مراسل قناة «المنار» وأحد أبرز الوجوه الصحفية التي رافقت ذاكرة اليمن خلال عقود ماضية، بعد أن غيّبه الموت نتيجة ذبحة صدرية مفاجئة، بعد حياة حافلة بالكلمة والميدان، وبالصدق الذي لا يعرف المواربة، حتى اللحظة الأخيرة.
بدأت مراسم التشييع بالصلاة على جثمانه الطاهر في جامع «عثرب» في «شارع الميثاق»، وسط العاصمة، الذي اكتظ بجموع المودّعين. رفاق المهنة، وأصدقاء العمر، وحشود من مختلف الأطياف، توافدت لتودّع الرجل الذي كان صدى الأرض وصوت الناس، وخيط ضوءٍ في زمن العتمة.
موكب التشييع المهيب، الذي شقّ الشوارع المؤدية إلى «مقبرة العوجاء» في «حي شعوب»، لم يكن مجرد طقس جنائزي، بل بدا كأنه تظاهرة وفاء وطنية لعميد المراسلين الصحفيين في اليمن، امتزجت فيه الدموع بالدعاء، والكلمات براحة التراب، فكان الوداع حزيناً كأنه وداع للذاكرة ذاتها، لتاريخ ظلّ العُمَري أحد شهوده الأمناء وأقلامه الصادقة.
رجل الميدان الذي لم يغادر الخندق
منذ بداياته الأولى، لم يكن خليل العُمَري صحفياً عادياً. كان صوت البسطاء، وصورة الناس في لحظاتهم الأصعب. وحين عمل مراسلاً لقناة «المنار» اللبنانية، خلال أكثر من عقدين استطاع أن يرسم ملامح مدرسة إعلامية فريدة، قوامها الدقة والمصداقية والالتزام. كان حاضراً في كل حدث جلل، ينقل الصورة كما هي، ويمنحها عمقها الإنساني والوطن، مؤمناً بأن الصحافة ليست مهنة بل مسؤولية أخلاقية، وأن الحياد في مواجهة الحق والباطل خيانة للإنسان.
وطوال سنوات العدوان والحصار على اليمن، بقي العمري يكتب من الميدان، ينقل الوجع كما هو، ويروي البطولة كما يراها. لم يجامل، أو يساوم، وظلّ صادقاً في انحيازه للناس وللوطن ولقضايا الأمة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
عرفه زملاؤه هادئاً في حضوره، صلباً في موقفه، نبيلاً في خصومته، يكتب كما يتنفس، بلا ادعاء ولا ضوضاء، واثقاً بأن المجد في الصحافة لا يُقاس بالشهرة، بل بقدر ما تضيء الكلمة ظلام الناس.
حضور لا يغيب
في وداعه، لم يكن الحزن وحده سيّد الموقف، بل الفخر أيضاً.
الوجوه التي ملأت المكان كانت تعرف أن الراحل لم يمت إلا جسداً، وأن صوته سيبقى شاهداً على مرحلة كاملة من الوعي والمقاومة.
منذ إعلان وفاته، فجر أمس الأول، خيم الحزن على الوسط الإعلامي في اليمن وخارجه. امتلأت مواقع التواصل بمنشورات الرثاء والنعي، كتب فيها الزملاء والمحبون كلمات تعجز عن الإحاطة بفقده، حتى أن أحدهم علّق قائلاً: «تابعت ما كتب عن الفقيد خليل العمري حتى تمنيت أن أكون أنا من رحل، لا هو».
وكتب آخر: «رحل الهامة الوطنية والمناضل الجسور، المدرسة التي أنجبت وعياً لا يموت»، فيما قال ثالث: «كان خليل العمري يكتب كمن يصلي، لا يطلب مجداً، بل يطلب صدقاً»، وأضاف رابع: «برحيله خسرنا بوصلة كانت تدلنا دائماً على الطريق الصحيح».
برحيل خليل العمري، يطوي اليمن صفحة أحد أنبل وأصدق الأصوات الصحفية التي آمنت بأن الإعلام رسالة ومسؤولية لا مهنة فحسب، وبأن من يكتب بضمير حي ناقلاً للحقيقة ومدافعاً عنها بكل جسارة، لا يموت، بل يبقى في الذاكرة صوتاً حاضراً لا يغيب.
هكذا بدا المشهد، أمس، في صنعاء، وداعاً بحجم الوطن، ودمعة بجسامة الموقف، ورحيلاً جعل من الحروف جنازة، وكأن خليل العمري يكتب آخر تقاريره الصحفية.










المصدر عادل عبده بشر / لا ميديا