عادل بشر / لا ميديا -
في واحدة من أكثر المفارقات وقاحة في التاريخ البحري الحديث، وفي مشهد يجسد ذروة النفاق السياسي، شنت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاء لها حرباً على اليمن، متهمة صنعاء بالإرهاب وتهديد الأمن القومي وممارسة القرصنة في البحر الأحمر، لاستهداف الأخيرة سفناً مرتبطة بالإبادة الجماعية في غزة، بينما واشنطن نفسها تمارس أفعالاً تُصنف بوضوح ضمن أعمال العدوان والقرصنة والإرهاب، فتستولي على ناقلات نفط مدنية في البحار المفتوحة، وتقتل ركاب القوارب الصغيرة، وتهدد بفرض حصار بحري على فنزويلا دون أي مسوغ قانوني أو تفويض أممي.
هذا التناقض الفج، سلطت الضوء عليه مجلة «كاونتر بنش» الأميركية اليسارية، مؤكدةً بأن هذا لا يعبر فقط عن ازدواجية المعايير في السياسة الأميركية، بل عن انقلاب كامل على القانون الدولي، حيث يُدان من يواجه الإبادة الجماعية، بينما يُكافأ من يمارس النهب بالقوة، ويتباهى علناً بالاستيلاء على ناقلات نفط فنزويلية خارج أي نزاع مسلح، فتنصب واشنطن نفسها شرطياً للبحار حين يخدم ذلك مصالحها، وتخلع عن القانون الدولي أي قيمة عندما يقف في وجه مشاريعها.
من قلب هذا التناقض، ينهض السؤال الجوهري الذي تتجاهله واشنطن عمداً: «من هو الخارج عن القانون الحقيقي في البحار؟».
مجلة «كاونتر بنش» الأميركية، وفي محاولة للإجابة على هذا السؤال، نشرت، أمس، تقريراً بعنوان (من هو الخارج عن القانون الحقيقي في البحر؟ استيلاء ترامب على ناقلات النفط مقابل حصار الحوثيين المناهض للإبادة الجماعية).
أفاد التقرير بأن الولايات المتحدة اعترضت عدة ناقلات نفط فنزويلية في إطار عدوانها المتصاعد على فنزويلا، كما دمرت عشرات القوارب الصغيرة في البحر الكاريبي والمحيط الهادئ تحت ذريعة «مكافحة المخدرات»، ما أسفر عن مقتل أكثر من مائة شخص أخفت الولايات المتحدة هوياتهم. وفي الوقت نفسه، هددت إدارة ترامب بفرض حصار بحري على فنزويلا، وهي دولة ذات سيادة لا تربطها بأمريكا أي حرب.
وتساءلت المجلة الأمريكية اليسارية: «كيف يمكن لواشنطن أن تدعي الحق في الاستيلاء على السفن أو تفجيرها، وتعطيل التجارة البحرية، وقتل المدنيين الذين يرتادون القوارب، بينما تقصف اليمن وتدين حكومة الحوثيين لاعتراضها السفن في البحر الأحمر لمواجهة الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة؟».
وأوضحت أن هذا التناقض يكشف عن ازدواجية معايير صارخة في السياسة الأمريكية، فقد وصفت الحكومة الأمريكية العمليات اليمنية في البحر الأحمر، بأنها «إرهاب» وقرصنة وتهديد للأمن القومي الأمريكي، حتى مع تقديم صنعاء مبررات قانونية مقنعة لأفعالها استناداً إلى قوانين الحرب. في المقابل تُمجّد واشنطن هجماتها على ناقلات النفط والعبّارات وقوارب الصيد الفنزويلية، والتي تُعدّ انتهاكاً لأبسط مبادئ القانون الدولي.
وأشارت «كاونتر بنش» إلى أنه ومنذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2023م، «أطلقت صنعاء حملة بحرية في البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب رداَ على العدوان الإسرائيلي على غزة. وأعلن الحوثيون علناً معاييرهم، مصرحين بأنهم يستهدفون فقط السفن المرتبطة بإسرائيل، أو المتجهة إلى موانئها، أو المملوكة لشركات إسرائيلية، أو المرتبطة بدول تدعم الحرب الإسرائيلية على غزة».
وأضاف التقرير: «أدانت الولايات المتحدة وحلفاؤها هذه الأعمال فوراً ووصفوها بالإجرامية»، لافتاً إلى أنه «من الناحية القانونية، دأب الحوثيون على تبرير أفعالهم بأنها حصار ومنع خلال نزاع مسلح، مستندين في ذلك إلى انتهاكات إسرائيل الجسيمة للقانون الدولي الإنساني».
وأكد التقرير أن «هذا الإطار القانوني قائم بالفعل. فبموجب اتفاقيات جنيف والقانون الدولي العرفي، يحق لأطراف النزاع المسلح -بل ويلزمون في حالات الانتهاكات الجسيمة- منع الشحنات التي تقدم دعماً مادياً لطرف معتدٍ يرتكب جرائم إبادة جماعية بحق المدنيين. وفي حالة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، قضت محكمة العدل الدولية، وأكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة، بأن جميع الدول ملزمة بقطع كل أشكال الدعم العسكري والاقتصادي عن عدوان إسرائيل على غزة».
وتابعت المجلة الأمريكية اليسارية: «لم يكن رد الولايات المتحدة الضغط على إسرائيل لوقف عدوانها الإبادي -وهي نتيجة كانت ستنهي حملة الحوثيين فورًا- بل شنّت هجومًا على اليمن. ففي كانون الأول/ ديسمبر 2023، أطلقت واشنطن عملية حارس الازدهار كتحالف بحري متعدد الجنسيات مدعوم بقوة جوية ضخمة، تلاه تنفيذ مئات الغارات الجوية الأميركية والبريطانية على اليمن. لم تقتصر هذه الهجمات على مواقع عسكرية، بل طالت الموانئ، والبنية التحتية، والعاصمة صنعاء، وأودت بحياة عشرات المدنيين، بينهم مهاجرون أفارقة قُتلوا في غارة استهدفت مركز احتجاز في محافظة صعدة».
المفارقة الأكثر فجاجة، وفقاً للمجلة الأمريكية، تتجلى عند مقارنة هذه الوقائع بما تقوم به واشنطن في البحر الكاريبي. ففي كانون الأول/ ديسمبر الجاري، تفاخر الرئيس الأميركي دونالد ترامب علنا باستيلاء قواته على ناقلة نفط فنزويلية في عرض البحر، واصفاً العملية بأنها «أكبر عملية استيلاء على ناقلة نفط في التاريخ». جرى ذلك دون أي نزاع مسلح بين فنزويلا وأمريكا، ودون تفويض من مجلس الأمن، ودون حتى ذريعة الدفاع عن النفس.
لم تكتفِ الإدارة الأميركية بذلك، بل واصلت اعتراض ناقلات إضافية مرتبطة بفنزويلا، ولوّحت بفرض حصار بحري شامل، بينما دمرت عشرات القوارب الصغيرة بذريعة «مكافحة المخدرات»، ما أسفر عن مقتل أكثر من مائة شخص في البحر، دون محاكمات، أو اعتقالات، أو حتى الإعلان عن هويات الضحايا.
المجلة الأمريكية في ذات التقرير أكدت أنه بموجب القانون الدولي، يُعدّ الاستيلاء على السفن التجارية المدنية في المياه الدولية أو فرض حصار بحري خارج نطاق نزاع مسلح عملًا عدوانيًا صريحًا. أما تبرير هذه الأفعال بالعقوبات الأميركية على فنزويلا، فيسقط قانونيًا، إذ أن مجلس الأمن وحده يملك صلاحية فرض العقوبات وإنفاذها. أما «التدابير القسرية الأحادية»، لا سيما حين تُفرض بالقوة العسكرية، فهي انتهاك مباشر لميثاق الأمم المتحدة.
وأضافت: «لقد كان الخبراء االقانون الدولي، دون لبس، أن الولايات المتحدة لا تملك أي ولاية قضائية للاستيلاء على سفن ترفع أعلام دول أخرى لإنفاذ قوانينها المحلية أو عقوباتها الأحادية، خصوصًا في المياه الإقليمية أو الدولية».
في هذا السياق، ترى المجلة أنه «لا يمكن أن يكون الفرق أوضح من ذلك». فصنعاء أعلنت حظر الملاحة الصهيونية في البحر الأحمر وخليج عدن، وحددت طبيعة الحصار ونوع السفن الممنوعة من المرور، وقامت بمهاجمة السفن التي حاولت إنتهاك الحظر، وكل ذلك استناداً إلى أساس قانوني متجذر في قوانين النزاعات المسلحة، حيث هدفت صنعاء من خلال تلك العمليات إلى إنهاء المذبحة الجماعية للمدنيين في غزة، وأوقفت عملياتها عندما تم إعلان وقف إطلاق النار في غزة.
من ناحية أخرى، كما تؤكد «كاونتر بنش» قامت الولايات المتحدة، العضو الدائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بالاستيلاء على ناقلات النفط، وتدمير القوارب، وقتل الناس في البحر، والتهديد بفرض حصار على دولة ليست في حالة حرب معها، ليس لمحاولة إنهاء حرب أو إنقاذ السكان المدنيين من الإبادة الجماعية، ولكن ببساطة سعياً وراء تغيير النظام خارج نطاق القانون وسيطرة الولايات المتحدة على أكثر موارد تلك الدولة قيمة.