رحلـــة إلــى الكويـــت
 

مالك المداني

الساعة الثامنة صباحاً وردتني مكالمة هاتفية أيقظتني من نومي، تخبرني عن اختياري ضمن الوفد المشارك في مفاوضات الكويت، وتبلغني أيضاً أن موعد الرحلة المسافرة الى هناك هو ظهيرة اليوم!
نهضت من على فراشي مذعوراً متخبطاً لا أدري ما الذي أفعله!
هرعت باتجاه خزانة ثيابي، فتحت بابها على مصراعيه، وبدأت بنبشها وتفتيشها باحثاً عن ثياب تليق بتمثيلي هناك كيمني محترم، ولكني لم أجد!
كانت كلها إما رثة ومهترئة، وإما شعبية!
قميص ضيق! بنطال ممزق! سترة واسعة! ثوب أبيض! ثوب رمادي! ثوب ترابي! ثوب أسود! معوز! صماطة! معوز آخر! قايش! جنبية!
لايهم، قلت في نفسي!
في الحقيقة، إن أصحاب الثياب الرثة هم من مثلوا اليمن قولاً وفعلاً، لذا أخذت ما في خزانتي بفخر، وحزمت أغراضي بعجل.
لم أقص شعري، ولم أشذب لحيتي، أخذت حماماً بارداً فقط.
وكنت كما أنا بلا تزييف أو تحسين!
ارتديت ملابسي، وانتظرت وصول من يقلني صوب المطار، وبدأت بمراجعة سريعة للتأكد من عدم نسيان شيء...
صلاة الفجر.. تم ذلك.. مصحف جيب.. معي.. النشيد الوطني... معي.. هاتفي.. معي.. شاحن الهاتف.. معي.. ملابس داخلية... معي.. حاسوبي المحمول.. معي.. مصروف طريق.. معي.. محفظتي... معي.. 
كل شيء كان معي، ولكن الشعور الذي كان يراودني ويخبرني بأنني نسيت شيئاً هاماً، لم يختفِ!
عجزت عن تذكره، وارتفع ضجيج بوق السيارة التي كانت تنتظرني خارجاً، لذا تجاهلت كل شيء، وحملت حقيبتي، وهرولت للخارج!
لم أودع أحداً من عائلتي، كنت أعرف أني سأعود سريعاً، ولن أطيل البقاء هناك.
لذا فتحت باب منزلي، وسارعت لركوب السيارة التي انطلقت من فورها نحو المطار.
وعدت للتذكر ثانيةً: 
قلم.. معي.. نوتة.. معي.. مقص أظافر.. معي.. قنينة عطر.. معي...، (...).. ليس معي!
 قف..! صرخت بوجه السائق.
عد أدراجك رجاءً، لقد نسيت شيئاً هاماً جداً.. أكملت قائلاً.
حمدت الله أننا لم نكن قد ابتعدنا كثيراً..
عدنا أدراجنا للمنزل، دخلت جرياً باتجاه غرفتي، ووجدت ضالتي معلقة أمامي تماماً. تنفست الصعداء، واختفت حمرة عينيَّ فور رؤيته!
ذهبت نحوه، أخذته وارتديته، وعدت طريقي خارجاً ضاحكاً بشوشاً...
كدت أن أنسى (كوتي الرمادي).. يا للمصيبة..!
ما الذي كنت سأفعل لولاه!
لايهم، اعتذرت للسائق عن التأخير، وأخبرته بأن يعرج على أقرب صيدلية لأخذ أقراص منع الغثيان (ليس لأنني أصاب بدوار السفر)، إنما لكي لا أتقيأ عند رؤيتي وجوه أولئك السفلة الذين سنقابلهم هناك!
جلست على مقعدي بهدوء أحتضن (كوتي) ويحتضنني، أشاهد من النافذة حركة السير في الشارع..
مشرد يبحث عن شيء يسد به رمقه...
مسن يسند ظهره الى عصى خشبية...
جريح على كرسي مدولب..
امرأة يملؤها التراب، يبدو أنها انتهت من دفن أبنائها تواً...
دمار هنا وخراب هناك..
وآهات هنا وأنات هناك (ما بين قلبي ورئتي)..!
وصلنا لبوابة المطار، وأنا ما بين شهقة وحرقة، متندم على عدم أخذ بندقيتي معي!
ترجلت من مقعد السيارة، أجر حقيبتي خلفي، ذاهباً نحو صالة الانتظار، وفي القلب غصة وألف قصة وقصة تحكي معاناة فقير وحزن يتيم وضيم 30 مليون يمني!
جلست على كرسي الصالة منتظراً نداء المغادرة حتى سمعته، مشيت نحو الباب المؤدي لمدارج الطائرات. 
وقفت في الطابور حتى جاء دوري..
- سيدي أرني جواز سفرك.. قال لي.
أدخلت يدي في جيب بنطالي لأخرجه، ولم أجده!
سحقاً لقد نسيته!
فتشت جيوب (كوتي الرمادي)، وأخرجت صوراً لبضعة شهداء، ووضعتها أمامه!
هؤلا هم معرفين وتذكرة سفري وتأشيرة عبوري.. قلت له.
ابتسم لي قائلاً: تفضل..!
تجاوزته شاكراً، متحركاً نحو حافلة النقل التي ستقلني للطائرة، متأملاً آثار القصف في كل مكان.. مشاهداً أفواج الجرحى الذين يتزاحمون لنقلهم للعلاج! حاملاً عزة مجاهد، تضحية شهيد، غبن ثكلى، حزن أب، ودمعة يتيم، جوع فقير، وقهر عزيز!
وصاعداً سلم الطائرة بيمانيتي كاملة، لابساً كوتي الرمادي، مرتدياً ثيابي الرثة، أشعث أغبر، ذاهباً لإركاع عتاولة العالم وإذلال كبريائهم، موقناً أن خلفي رجالاً كالجبال أصابعها على الزناد، تفضل الموت على الإذلال والخضوع!
مدركاً أنني في موقف قوة، مصدقاً بنصر الله الذي وعد به رجاله المؤمنين..!
لاشيء مما ذكر حدث حقاً، وكله من نسج خيال الكاتب..!

أترك تعليقاً

التعليقات