علي جاحز

علي جاحز / لا ميديا -

الآية.. والقرار
الآية التي استهل بها العميد يحيى سريع بيان القوات المسلحة، صباح الجمعة المباركة والتاريخية، تعتبر بيانا بحد ذاتها، فاليمن الذي انبعث من بين رماد الحروب عملاقاً إقليمياً يدشن وعد الآخرة، وطائرته «يافا» المسيرة تجوس خلال الديار، وتبعث يافا المحتلة من جديد بعد أن دُفنت تحت مستوطنة اسمها «تل أبيب».
ولعل القرار اليمني بضرب هدف حساس ونوعي في عمق جبهة العدو المحتل في يافا المحتلة يعتبر بحد ذاته حدثا تاريخا وتحولا استراتيجيا، في وقت لم تجرؤ أي دولة عربية منذ النكسة على توجيه سلاحها باتجاه يافا المحتلة المسماة «تل أبيب». وبرغم البعد الجغرافي الشاسع بين اليمن والأراضي الفلسطينية المحتلة، إلا أن اليمن منذ اليوم الأول دخل المعركة وبدأ بضرب الأهداف الحساسة في فلسطين المحتلة في أم الرشراش وبئر السبع وميناء حيفا، واليوم يكسر القواعد ويتجاوز الخطوط الحمراء لتصل يده الطولى إلى «تل أبيب» (يافا) ويشعل النار على بعد أمتار من القنصلية الأمريكية.

العملية.. ما الذي حدث؟ وكيف حدث؟
من الواضح أن المعطيات الرسمية عن تفاصيل العملية، وخاصة عن سلاحها النوعي الجديد، لم تزل معطيات أولية، وربما تفصح القوات اليمنية عن تفاصيل أكثر في وقت لاحق. وبحسب البيان فإن العملية قرار يمني جاء وفق حيثيات الإسناد لغزة والرد على الجرائم المتواصلة بحق الفلسطينيين في غزة، ونُفذت بسلاح نوعي لأول مرة يدخل المعركة، وهو طائرة مسيّرة اسمها «يافا» صناعة يمنية.
وفي حين لم يفصح البيان عن اسم الهدف واكتفى بأنه هدف حساس، وأن العملية أصابت الهدف بدقة، شاهد العالم لحظة وصول المسيّرة اليمنية «يافا» إلى الهدف ووقع الانفجار في مشاهد موثقة التقطتها الكاميرات «الإسرائيلية» من أكثر من زاوية منذ دخول الطائرة إلى الساحل وحتى وصولها إلى حيث أريد لها أن تصل، ولم يكشف البيان تفاصيل عن الطائرة ومداها.

الصيحة.. زلزال يخلّف هلعاً وفوضى
في ساعة السَّحَر، وفي أعمق أوقات الغفلة الصهيونية، وفي الوقت الذي كان فيه الجيش «الإسرائيلي» بوحداته المختلفة وتقنياته في وضعية النوم ذاتها التي كان عليها في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، ودون أن توقظ صافرات الإنذار، وصلت «يافا» اليمنية إلى يافا المحتلة، بعد رحلة استمرت ما يقارب الست ساعات، لتُحدث صيحة ظنها الصهاينة القيامة.
الصدمة يصفها الشارع الصهيوني بالهزة التي جعلت المباني تهتز ليعتقد الناس أن زلزالا قد ضرب المدينة، لتستحيل أجواء الغفلة والنوم فزعا وهلعا وفوضى على كل المستويات داخل الكيان.
حالة الهلع والفوضى، شعبيا وسياسيا وإعلاميا وأمنيا، ظلت تحكم الموقف داخل الكيان لساعات، وهو ما يذكرنا بالحالة ذاتها التي عاشها الكيان في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.
الشارع «الإسرائيلي» الذي استيقظ إجباريا بفعل الصيحة وجد نفسه يعيش وسط النار وداخل منطقة حرب، الأمر الذي أنتج حالة من التذمر وفقدان الثقة في الحكومة «الإسرائيلية» ظهرت جلية في الكم الكبير من فوضى التغريدات والتصريحات التي عبّرت في مجملها عن هلعها وخيبة أملها في إمكانية الحصول على الأمان. وكان أبرز ما قاله المستوطنون تعبيرا عن تذمرهم أن «من المفترض أن تسقط على رؤوس أعضاء الحكومة التي لا فائدة منها ولا يُعوّل عليها».
وفي سياق تداعيات زلزال الضربة ألغى نتنياهو زيارته إلى الولايات المتحدة، التي كان يفترض أن يلتقي فيها بالكونغرس الأمريكي ويقنعه بمواصلة الدعم، ليجد نفسه مجبرا على العودة سريعا دون تفكير في جدوائية عودته التي لم تكن ولن تكون لتمنع وصول اليد اليمنية الطولى إلى حيث ينبغي أن تصل.

الرأي العام «الإسرائيلي».. مسرحية هزلية
الرأي العام «الإسرائيلي» أخذ الحدث ودلالاته بجدية، فالمحللون والمراقبون الصهاينة الذين سخروا من تصريح غالانت الذي هدد اليمنيين «بدفع ثمن الهجوم على تل أبيب»، يؤمنون أن «الحوثيين لا يمزحون عندما يقولون الموت لإسرائيل».
والمستوطنون الذي تناقلوا مشاهد صورتها الكاميرات من عدة زوايا، جعلوا منها مادة للهجوم على قائد منطقة «تل أبيب» الذي وقع في مأزق مضحك حين قال إن المسيّرة انفجرت في الجو.
وهكذا بدا المشهد داخل الكيان، أشبه بمسرحية هزلية، من أبرز فصولها تفسيرات وتبريرات فشل القبة الحديدية أمام المسيّرة اليمنية «يافا». وبعد فضيحة قائد منطقة «تل أبيب»، يضطر مسؤولون عسكريون للقول بأن الاختراق يمكن تفسيره من ثلاث حيثيات، هي:
احتمالية أن هناك خللاً عملانياً في نظام الدفاع الجوي، وأن الواقع يقول إنه لم ولن يكون هناك صفر اختراق، وأيضا أن الكيان يخوض معركة لم يشهد مثلها بوجه جبهة متعددة الساحات.
وفي الاتجاه الفوضوي ذاته يستثمر المعارض لابيد الحدث ليوجه سهام التشفي للحكومة بالقول: «من فقد الردع في الشمال والجنوب سيفقده حتما في تل أبيب».

اليمن وغزة.. جرعة معنويات
ومثلما أعطى الحدث جرعة جديدة من المعنويات للشارع اليمني وأفشى السعادة في الأوساط اليمنية، فإنه سقى أهالي غزة ومجاهديها كأسا من البهجة والسرور، وهو ما انعكس في تغريدات وكتابات وفيديوهات نشرها الغزاويون بكثافة نقلوا من خلالها انطباعاتهم وسعادتهم وامتنانهم لليمن جيشا وقيادة وشعباً، وتوجت قيادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) والفصائل الأخرى ذلك الامتنان في بيانها الذي أعلنته مساء الجمعة، وثمنت فيه العملية وباركتها.

دهشة الفعل.. الدلالات والرسائل
لم تكتمل الدهشة كما يبدو، ولم تمل الحروف والكلمات بعد، فالعملية اليمنية التاريخية والضربة الاستراتيجية الفارقة لاتزال إلى اللحظة تحتل أعلى اهتمامات الساحة الإقليمية والدولية وتتصدر الأخبار والتحليلات في كافة المنابر الإعلامية والمنصات التواصلية، وكل ذلك يأتي في سياق محاولة التوصل إلى قراءات كافية للدلالات والرسائل والتأثيرات والتداعيات للحدث.
فنياً: الطائرة بحسب بيان القوات المسلحة طراز مسيّر جديد وصناعة يمنية، ومن الواضح أنها طارت في مسار محدد تقنيا وعبرت أكثر من ألفي كيلومتر في زمن لم يعلن عنه بعد، ويرى محللون عسكريون أنها مرت من فوق أجواء السعودية مرورا بخليج العقبة وسيناء، وأوضحت المشاهد المصورة أنها وصلت إلى البحر المتوسط ثم عادت لتستقر في الهدف الذي انفجرت فيه وهو مبنى قريب من القنصلية الأمريكية.
الهدف: لم يفصح البيان العسكري الذي تلاه العميد سريع عن ماهية الهدف، لكن المشاهد التي وثقت الضربة تعطي احتمالا أن القنصلية الأمريكية قد تكون الهدف المرسوم.. فهل نحن أمام رسالة مزدوجة لـ«الإسرائيلي» والأمريكي؟
البيان الذي افتتح نطاقاً عملياتياً جديداً وأعلن "تل أبيب" منطقة غير آمنة، جاء بعد إعلان السيد القائد أن البحر المتوسط بات تحت السيطرة، لكنه لم يعلن الدخول في مرحلة خامسة من التصعيد كما هو متوقع، الأمر الذي يعني أن العملية لاتزال في سياق المرحلة الرابعة، وهذا يترك الباب مفتوحا للتوقعات بخصوص حجم التصعيد الذي ستأتي به المرحلة الخامسة.
ولاحقاً، قال الناطق باسم القوات المسلحة اليمنية العميد يحيى سريع إن "مفاجآت المرحلة الرابعة من التصعيد اليمني المساند لغزة تتسارع بما لن يجد الصهاينة وعملاؤهم وقتا للتفكير في ما بعدها"، الأمر الذي يعزز الاعتقاد الذي طرحناه آنفا.
وفي توصيف لا يخلو من الاعتراف بالدهشة والإقرار بحجم الذهول، أكدت "الجارديان" البريطانية أن الضربة التي استهدفت أكبر مدينة في "إسرائيل" كانت صادمة، وعللت ذلك بالقول: "الطائرة بدون طيار بدا أنها عَبَرت مساحة كبيرة من البلاد عبر الدفاعات الجوية متعددة الطبقات".
وفي ذات الدهشة، فإن العملية التي حققت نجاحاً استراتيجيا، نُفّذت بحسب البيان بطائرة مسيرة واحدة، وهذا يجعل مستوى الدهشة عاليا أمام تساؤلات عن مستوى النجاح الذي قد يتحقق فيما لو كانت العملية بحجم وكثافة الوعد الصادق مثلا، وهل هي مجرد تجربة أولى لسلاح يمني جديد؟ وماذا بعد؟ وهل تمت بالتنسيق مع حزب الله واستفادت من بنك الأهداف الذي جمعه هدهد حزب الله؟
لن نكرر الحديث عن فشل القبة الحديدية والدفاعات العربية التي تتبرع عادة باعتراض المسيّرات والصواريخ الذاهبة إلى الأراضي المحتلة، وإنما نود على ذكر "هدهد" حزب الله، أن نتساءل هل المسيرة اليمنية "يافا" من نفس فصيلة المسيرة الهدهد التي لم تكتشفها الرادارات "الإسرائيلية"؟
وفي المحصلة، قد تظلّ هذه التساؤلات مطروحة على طاولة التحليلات لحين تكشفها دهاليز القرار العسكري اليمني واللبناني. لكنها في الواقع ستترك الكيان وداعميه أمام مجهول يؤرقهم وتهديد وخطر يتفاقم يوما بعد آخر دون الوصول إلى مجرد فهمه وقراءته بشكل يمكن أن يهدي لتفاديه والحد منه.

التوقيت.. أمـام سلـوك الأحــداث المـوازيــة
يقول مراقبون إن العملية اليمنية تمثل موقفاً تاريخياً أعاد الاعتبار للأمة العربية والإسلامية، ونعتقد أن العملية تأتي في سياق معركة أعادت القضية الفلسطينية إلى موقعها في الذهنية الجماهيرية أولا بعد عقود من المحو والتغييب الممنهج لعقود لتذهب كل تلك الجهود التي بذلت في سبيل تطبيع الوعي العربي هباء منثورا.
الموقف اليمني والعملية الاستراتيجية التي تقف على رأسه اليوم أنتج واقعا مختلفا لم يكن محسوبا داخل المنظومة الصهيونية وأدواتها في المنطقة وهذا الواقع المختلف الجديد أكد ضعف أمريكا وهشاشة محور الشر الذي تتزعمه أمريكا وأثبت إمكانية التحرر من هيمنتها، والأهم هو إمكانية تحرير فلسطين
ومن هذه الزاوية يمكن قراءة توقيت الحدث التاريخي أمام أحداث موازية ومدى إمكانية تأثيره على سلوكها أهمها قرار "الكنيست" الصهيوني عدم السماح بإقامة دولة فلسطينية وتصعيد العدو بالمجازر في غزة، وتصعيد العدو بالقصف على جنوب لبنان، وتصعيد الأمريكي بالقصف على المقاومة العراقية، وبالنظر إلى هذا السلوك المتغطرس للجانب الصهيوني، فإن العملية اليمنية على "يافا" تجعل الكيان والأمريكي من ورائه يعيدان النظر في قراراتهما وسلوكهما بذلك الاتجاه.
وفي ما يتعلق بالتهديد اليمني القائم للنظام السعودي وتحذيره من مغبة التورط في مواجهة اليمن دفاعا عن الكيان بتوجيهات أمريكية، فإن العملية تحمل درسا إضافيا واضحا للسعودي القريب من اليمن والذي بات بنك الأهداف في مملكته أكثر سهولة لليمن وقواته من بنك الأهداف داخل الأراضي المحتلة، وهو ما يعني أن العملية ستترك أثرا بالغا رادعا للنظام السعودي ربما يؤتي ثماره قريبا.
وأمام التردد الأمريكي بخصوص إرسال حاملة الطائرات روزفلت إلى البحر الأحمر وبقائها في المحيط الهندي خوفا من أن تتعرض لما هو أكثر مما تعرضت له آيزنهاور، فإن الضربة على "تل أبيب" من شأنها أن ترفع من منسوب الهلع والخوف على الحاملة الأمريكية ومن ثم على ما تبقى من الهيبة الأمريكية أمام الأطراف الدولية التي ترقب ارتجافها وهي تقف على خارطة النفوذ الجيوسياسي الذاهبة باتجاه تحولات استراتيجية، ولعل ذلك ما يفسر القلق الأمريكي من الاتصالات الروسية اليمنية، وحديثها عن تحركات للضغط على روسيا لعدم بيع أسلحة للقوات اليمنية التابعة لصنعاء.
ختاماً: إنّ حدثاً تاريخياً استراتيجياً خالداً كهذا، يحتاج إلى قراءات تحليلية وتوثيق يليق به ويليق بالتاريخ الذي نحن بصدد صناعته للأجيال، وأتمنى أنني قد وُفقت في قراءة وتحليل هذه اللحظة الفارقة وهذا الحدث الاستثنائي التاريخي، وتمكنت من رصد الأهم من تداعيات الزلزال الذي أحدثته مسيرة "يافا" اليمنية داخل الكيان وعلى امتداد خارطة المنطقة والعالم.. ولله عاقبة الأمور.

أترك تعليقاً

التعليقات