ثمة حلم مزعج، بإمكانه قلب هدأة ليلك إلى جهنم مكتملة الأركان، بحيث يحيل نومك إلى مقصلة حادة وناعمة، وفراشك الوثير إلى مخالب وسكاكين شديدة الشحذ، وأنفاسك إلى فتيل معارك ضارية مصطخبة بصدرك، وبلعومك إلى ماسورة مدافع، وبنادق، وأسلحة قانصة. وما هو أفظع أن يتغول حلمك، فيمضغك كدودة، أو يسقطك في 70 خريفاً في نار نبوءة معلمك القديمة، التي ظل يحشو بها رأسك طوال سنوات طفولتك المبكرة، وربما يتمدد حلمك كوهابي أحمق، يفضي إلى قتلك، إنما بكبسة صحو، يتبدد هلعك، ويتكثف جسدك بعرق بارد، ومثل أنبوبة ترشيح تصير، لتنشغل بعدها بدعك عينيك، وتنظيف مؤامرة اغتيالك. على النقيض، تستعصي بعض الحقائق على المحو، ولا تأبه بخصوصية انتقائك كضحية، بل ينتابها هوس مجنون للإجهاز على كل شيء (بشر، مكان، تاريخ، حياة)، ومن ثم تأخذها نشوة الجلوس فوق ضريح عالم مر من هنا، ولو كانت تعز نفسها.
(لا) ترصد تحولات وملامح تعز بين عصرين (الدولة، والإمارة المسلمة)، وتكشف بعضاً من بكائية الوجع التعزي..
سبية أمراء حرب قادمين من خلف التاريخ!
تعز مدينة السلام والثقافة، أو (عدينة) كما يحبذ تسميتها العاشقون، والعارفون من أبنائها بخبايا سرها، ظلت، ومنذ فتحت ذراعيها للرسوليين، والقادمين الآخرين، مدينة مشغولة بتلقين أهلها والعابرين ثقافة التعايش، وأبجدية الحياة بمنطق القبول، فامتزجت فيها مشارب الأصيل بالتجديد، وأيديولوجيا (النضال، والقومية، ورأس المال، والراديكال، والكادحين)، حتى بدت- متجردة من أثقال الجغرافيا، وأعباء العرق واللون والمذهب- أيقونة المدن، وفسيفساء مشروع الدولة المدنية، وبوابة الولوج للمستقبل، قبل أن يغزوها جراد الموت القادم من الحجاز، وتقع أسيرة فتوحات المسلمين الجدد، وسبية أمراء حرب قادمين من خلف التاريخ.

محو لتاريخ تعز
قبل أن يستفيق الناس من صدمتهم، ويتسنى لهم استيعاب ما يحدث، كانت جحافل الوافدين (المسلمين الجدد) قد باشرت طمس أهم معالم تعز الأثرية، ومحو أبرز شواهد التنوع الثقافي والفكري فيها، بعمل منظم، أخذت طائرات العدوان فيه زمام المبادرة، فمحت قلعة القاهرة عن الأثر، ودمرت منارتي جامع الأشرفية، الشاهدين على تاريخ ثري خلفته الدولة الرسولية (التي تناصبها المملكة السعودية عداءً مذهبياً، رغم الفارق الزمني الفاصل بينهما) كما يقول رمزي محمد- أحد القاطنين بتعز- مؤكداً: لديهم حقد دفين لكل ما له صلة بالتاريخ، كما أنهم يشككون في صحة إسلام الأجيال التي عاشت بتعز منذ فجر الإسلام، ولذا فربما بدأوا تدشين إعادة إسلام تعز بتفجير وإحراق (أصنام الجاهلية) فيها -حسب وصفهم- ومنها تفجير قبة وضريح الإمام عبدالهادي السودي، وتفجير مسجدين أثريين بصبر، ونبش قبور الصوفية في بعض المساجد القديمة، إضافة لإحراق مكتبة السعيد التابعة لمؤسسة السعيد للثقافة والعلوم، والتي تعد إحدى واجهات تعز الفكرية الحديثة.

الرعب سيد المكان
تشير الحقوقية (أفراح) إلى رعب الوقائع اليومية، التي (باتت سمة سائدة، تبث الرعب في المواطنين، وتتعارض مع كل القوانين والدساتير الإنسانية، والشرائع السماوية). واستطردت: أضحت شوارع وأزقة المدينة مسرحاً لكل أعمال القتل والنهب والسلب، ولا نجرؤ على الاعتراض على شيء، وهناك من يتم إعدامهم بعد محاكمات صورية قصيرة، لاتتعدى الساعة، يقوم بها أمراء الفصائل والكتائب، يلعبون خلالها دور الخصم والحكم!
وبررت أفراح بقاءها وأسرتها (كثيرون غادروا مدينة تعز، واستقروا في مناطق الأطراف؛ كالحوبان، ومفرق ماوية، ودمنة خدير، والراهدة، والقاعدة شرقاً، أو في هجدة، والبرح غرباً، وأغلبية فضلوا النزوح بعيداً إلى محافظات أخرى مثل: إب، وصنعاء، لكننا فضلنا البقاء خشية نهب محتويات المنزل، التي أنفقنا فيها كل ما نملك، أو الاستيلاء على المنزل من قبل بعض المحسوبين على تلك الفصائل).

فصائل جهاد وكتائب قتل
يتحسر معاذ الصبري على الانقلاب المجتمعي لسكان تعز، قائلاً: بعدما انفردت تعز بأنها حاضنة وطنية لليمنيين، بغض النظر عن المذهب، أو الجغرافيا، أو العرق، نجدها تنقلب على تلك الخصوصية خلال فترة وجيزة، وتحتضن، هذه المرة، فصائل الجهاد، وكتائب الموت، باختلاف مسمياتها (داعش، القاعدة، أنصار الشريعة، إخوان مسلمين، حسم، الصعاليك، الزناقل، ...)، بالإضافة إلى المتساقطين من القوميين واليسار، ممن رهنوا رؤوسهم لسادة النفط في الخليج، وأتوا حالمين بالمال، وحاملين الموت للناس، ومبشرين بإمارة إسلامية، بمواصفات وهابية، قبل انفراط حلم الإمارة الواحدة إلى إمارات وطوائف متصارعة، بسبب تجاذبات سادتهم في الرياض وأبوظبي، وخيانات الإخوان المتكررة.

تطهير عرقي
(لم يعد يشفع لأحد كونه تعزي الولادة، أو حمل أجيال متتالية من أسرته لهوية تعز، التي لاذت بها ذات زمن، وذابت فيها، فلمجرد وسم الأسرة بلقب يرتبط بجغرافيا الهضبة، أو معرفة محسوبين على أحد فصائل (المقاومة العرقية) بأصوله، فذلك يعني أنه ليس بمأمن).. هكذا بدأ (عصام الذماري) سرد تفاصيل معايشته لحالة الفرز الطائفي التي اكتوى بها في مدينته التي ولد فيها، وأحبها.
وأضاف الذماري: اضطررت وأفراد أسرتي لمغادرة منزلنا، الذي يقع بحارة النسيرية، بعد فترة قصيرة من سيطرة الفصائل المسلحة على أحياء المدينة القديمة، واتجهنا لمحافظة ذمار، مسقط رأس الوالد، وبعد أشهر أصر والدي على العودة إليها، لأنه لم يحتمل مفارقة المدينة التي شهدت كل تفاصيل حياته، وقررت مرافقته إليها، فتعرضت للاحتجاز من قبل بعض الفصائل لأكثر من شهر، خضعت خلالها للتحقيق، بسبب أصولي التي ليس لي ذنب فيها، مع أني من مواليد تعز، وخلال التحقيق تعرضت للاتهام المباشر بالجاسوسية لصالح (الشيعة المجوس)، ولولا معرفة أحد أفراد إحدى هذه الكتائب بي، وضمانته إياي، لظل مصيري رهيناً بما سيقرره أمير الجماعة.