الطريق الى الكينونة الوطنية 
(قراءة مقارنة في تواريخ مفصلية من عمر اليمن)



مقدمة: 
إذا صح أن يؤرخ للوحدة بين الألمانيتين بلحظة هدم (جدار برلين) الشهير، فإن الوحدة بين (جمهورية اليمن الديمقراطية والجمهورية العربية اليمنية)، لا يمكن أن يؤرخ لها بإزاحة (برميل الشريجة) بوصفه (جدار برلين اليمن)، إذ إن هذه اللحظة لم تمثل ـ بطبيعة الحال ـ إلا جولة إضافية أخرى من حرب باردة خمد أوارها بهدم (جدار الشراكة) في 7/7/1994م ليودِّع اليمنيون حقبة (وفاق الفرقاء) المبشرة باجتراح آفاق وطنية بلا حروب داخلية مدلجين في حقبة (فراق النظراء) الباعثة على خيبة أمل وطنية مقرونة بانسداد أفق شديد القتامة..
إن 7 / 7 / 1994م في سياق المخاض الوحدوي، هو تاريخ شديد الشبه بأغسطس 1968م في سياق المخاض الجمهوري شمالاً، فمن تماس هذين التاريخين انـبـثـقــت (وحدة وجمهورية) قائمتان على الغلبة ودحض التعدد المتعاضد على قاعدة المشتركات الوطنية وتمثيل إرادة ومصالح الشعب بمنأى عن الاستحواذ والتبعية العابرة للفضاء الوطني..
لقد أثَّر هذان التاريخان المفصليان على نحو عميق وجلي في سلسلة الأحداث التي أعقبتهما كما في الذاكرة الجمعية لليمنيين سلباً وإيجاباً، بحيث تصعب مقاربة تطورات المشهد السياسي اليمني اللاحقة بإغفال أثرهما فيها..
كاستجابة مباشرة ومناوئة لمنعطف 1968م الذي اعتبر انحرافاً بالجمهورية الغضة وطرية العظم، عن مسارها الوطني، واستفراغها من مضامينها الثورية، نشأت منظمات وفصائل العمل المسلح اليسارية والقومية، المناهضة لسيطرة قوى الإقطاع والانتهازية وأصحاب الولاءات غير الوطنية.
 ففي 1969م تشكلت ـ على سبيل المثال ـ (منظمة طلائع الفلاحين)، وبعدها بزمن وجيز برزت (منظمة المقاومين الثوريين).. كما مثلت حركة 13 يونيو التصحيحية 1974م بقيادة (الشهيد إبراهيم الحمدي)، التي استولت على السلطة بانقلاب أبيض، أبرز ردات الفعل الوطنية المناوئة لانحرافات 1968م والرامية لإعادة دفة الجمهورية إلى مجراها الوطني وخضم آمال الجماهير التواقة لعدالة اجتماعية في ظل سيادة وطنية ناجزة.
 وقد حظيت حركة 13 يونيو وزعيمها بالتفاف وتأييد شعبي واسع لا سابقة له في تاريخ اليمن المعاصر، ولا تزال واقعة اغتيال الشهيد إبراهيم الحمدي من قِبَل أدوات المخابرات السعودية وبإشراف مباشر من ملحقها العسكري في (صنعاء) برهاناً حياً على بشاعة الأدوار والأساليب التي تنتهجها قوى الهيمنة والاستكبار العالمي والرجعية العربية لزنزنة اليمن قراراً وتوجهاً وشعباً وتراباً داخل سياج نفوذها، كما وبرهاناً حياً على طبيعة الأثمان التي يتعين أن يقدمها الشرفاء والوطنيون من أبنائها على مذبح الكفاح الطويل في سبيل الانعتاق من نير الهيمنة وأطواق الوصاية والارتهان..
من السهل كذلك أن تلمس لانحرافات 7 / 7 / 1994م تداعيات شبيهة بتلك التي أعقبت انحرافات 1968م، سحبت نفسها على طول الفترة الزمنية الممتدة من 1994م مروراً بمحطات 2007، 2011، 2014 الساخنة، واستمراراً إلى اللحظة الراهنة والمفتوحة على احتمالات انعتاق وطني باتت مواتية أكثر من ذي قبل بفعل ثورة أيلول التي وضعت البلد والمنطقة على تخوم زمن مغاير هو موضوع تستشرفه هذه الورقة!

انحسار النقيض اليساري والقومي
وبقاء الحاجة الشعبية لنقيض
 بمقدورنا القول : إن تاريخ اليمن المعاصر، هو تاريخ العثرات ومحاولات النهوض من العثرات.. تاريخ خفوت جذوة الحلم في كينونة وطنية برافعتي السيادة والعدالة الاجتماعية ومركزية الإنسان الفاعل، ثم اتقاد جذوة هذا الحلم بالتناوب في خضم متغيرات موضوعية وذاتية داخلية وخارجية تعيق في الغالب تحقق تلك الكينونة، لكنها لا تجعلها مستحيلة، ولا تنفي الحاجة إليها والحاجة لاستمرار النضال في سبيل تحققه..
أنجز اليمنيون الاستقلال السياسي من نير الاحتلال العثماني، بيد أنهم وقعوا تحت نير الانكفاء القُـطري والاستبداد، ثم كسروا جدران العزلة باحثين عن الضوء والعدالة الاجتماعية، فوقعوا تحت نير التبعية والحكم بالوكالة وإقطاع مراكز القوى، ثم كافحوا ضد هذه فانحسرت الظروف الإقليمية والدولية المواتية للكفاح وتكسرت أجنحة التجربة الوطنية الاشتراكية المحاصرة في جنوب اليمن (الذي كان قد انتزع استقلاله من أيدي الاحتلال البريطاني في 1967م)، وهرب المناضلون شمالاً وجنوباً في 22 مايو 1990م إلى فخ وحدة اندماجية بلا أفق واضح، أفضت في نهاية المطاف إلى طيِّ صفحة الحركات والأحزاب اليسارية والقومية نهائياً، ووقوف قوى الإقطاع والكمبرادورية على أنقاض قرابة أربعة عقود من النضال، لتشرب نخب انتصارها في 7 / 7 / 1994م كقوى محلية وكيلة للقطب المنتصر عالمياً..
لقد كان الصراع ـ من حيث طبيعته وأطرافه - صراعاً بين نقيضين يريد أحدهما لليمن أن تتطور وطنياً وقومياً في سياق تحرري سيادي مقرون بعدالة اجتماعية، تتيح للدولة القُطرية التفاعل إيجاباً مع القضايا المركزية العربية والقضايا الإنسانية العادلة على المصاف الأممي، دون أن تثلم استقلاليتها وتتحول كينونتها الوطنية إلى مجرد كيان وظيفي يحارب ويسالم ويصادق ويعادي بالوكالة عن طرف إقليمي أو دولي.. كما ويتيح لها داخلياً إدارة عملية تنموية متوازنة ضامنة لتكافؤ فرص الحياة ونمو قوى الإنتاج في كنف اقتصاد موجَّه يوفّر لرأس المال الوطني فرص شراكة وحماية مقيدة بالمسؤولية الاجتماعية بمنأى عن الاستغلال والاحتكار..
وعلى أساس هذه المحددات يلتئم البناء الفوقي السياسي ويحظى بالمشروعية.. 
وعلى هذه الضفة من الصراع كانت معظم الحركات اليسارية والقومية والوطنية شمالاً وجنوباً تقف، حتى مع كون بعض فصائل اليسار الماركسي قد انتهج خطاً اعتسافياً للواقع الموضوعي حين ذهب بطموح بناء المجتمع الاشتراكي حد التأميم في بلد غير صناعي وخراجي الاقتصاد. 
في المقابل فقد التأمت على الضفة الأخرى من الصراع كل قوى الإقطاع القبلي والديني وقوى الموالاة للاستعمار والرجعية العربية، وباتت (سلطة صنعاء) عقب 1968م إطاراً طبقياً ينتظم شمل هذه القوى سواء تلك التي ثبتت سيطرتها في الشمال على مقاليد الحكم الجمهوري بعد إفراغ الثورة من مضامينها التحررية، أو تلك التي فقدت مصالحها في الجنوب عقب الاستقلال والجلاء، ونظراؤها من انتهازيين ورجعية مقنعة تقاطرت في فترات لاحقة تباعاً لتنضوي في سلطة صنعاء...
إن حرب صيف 1994م هي (أم المعارك) وملحمة الملاحم في سياق الاشتباك الأيديولوجي التاريخي بين النقيضين الآنفين، وخاتمة حقبة ستشهد تحولاً في المسمَّيات على مصاف الصراع لكن جوهر الصراع وطبيعته ستبقى ذاتها: النضال المحفوز بالحاجة المصيرية الملحة إلى كينونة وطنية مستقلة ومقرونة بعدالة اجتماعية، لم تتحقق بعد..
 لقد اعتقدت القوى المنتصرة في 1994م، خطأً، أنها أجهزت على هذه الحاجة وعلى هذا المطلب الموضوعي، وأنه صار بوسعها أن تنعم بحقبة مديدة من السيطرة بلا منغصات...
تبعاً لذلك ستعيد رسم الأدوار السياسية وتسمية المكونات التي تضطلع بها، وستتولى فرز المشهد تحت سطوة حقيقة سيطرتها الانفرادية الناجزة، إلى ما هو شرعي وما هو غير شرعي، ومن هو الحاكم ومن هو المعارض، وستنجم عن ذلك مشهدية سياسية ديكورية هي خليط متعدد من حيث المسميات والأدوار، لكنه أحادي متجانس من حيث تعبيره حصراً وبالجملة عن مصالح (كارتيل السلطة الكمبرادورية المنتصرة) ومصالح مركز الهيمنة القطبية، وفي خضم هذه المشهدية الزائفة لن يحضر (الشعب ومصالحه) بوصفه أساساً للعبة الحكم والمعارضة، إنما مجالاً حيوياً لسجالاتها المفضية في جلِّـها إلى تسويات لا تخصه ولا تـثـمِّـن وجوده... تسويات هي حصيلة احتكام أطراف السجال كوكلاء لطاولة (الأصيل الدولي) بتبعية كاملة، تتهافت خلالها هذه الأطراف للظفر بانحيازه إلى صفها ودرجات مرتفعة نسبياً من الحظوة لديه في مقابل خصومها.. وتتسلح في سبيل ذلك بقابلية فذة لتقديم التنازلات أياً كانت.. 
ـ يقول (الشيخ عبد الله بن حسين) في معرض وصفه لأطراف الصراع الناشب في أغسطس 1968م: (لقد أصبح الصراع بين الجمهوريين من جهة واليساريين من جهة أخرى..) (المذكرات)..
ويعترف في جزء آخر من مذكراته بأن (التجمع اليمني للإصلاح (الحزب الذي رأسه حتى وفاته) تأسس بإيعاز من علي صالح مطلع الفترة الانتقالية 1990م، لينهض بوظيفة المعيق والمشوش على كل اتفاق يضطر صالح للالتزام به صورياً أمام شريكه في إنجاز الوحدة الاندماجية الحزب الاشتراكي)..
إبان تلك الفترة كان (تجمُّع الإصلاح ورئيسه الأحمر) لاعباً سياسياً مناهضاً بشدة لــ( الوحدة ) مع من يصفهم بـ(الشيوعيين الملاحدة)، كما ولــ( دستور 1990م العلماني ) حد موقف (الإصلاح) منه..
وفقط عندما أجهزت (سلطة صنعاء بزعامة الإخوان والأفغان اليمنيين) على مؤسسات الدولة الجنوبية والحزب الاشتراكي في 1994م، باتت (الوحدة مقدسة وشرعية) لدى (الأحمر وحزبه)..
وفي 2002م بلغت درجة رضا (الإصلاح) حد مباركة الاقتران بخصمه اللدود (الاشتراكي) في (تحالف المشترك)... فماذا حدث ليسوغ هذه التحولات (الدراماتيكية) في الموقف من (شيوعيي 1990م الملاحدة وشركاء الوحدة)...؟!
(لقد تابوا وراجعوا موقفهم من الدين..) هكذا يفسر (الأحمر) تبدُّل موقفهم من (الاشتراكي)، في رده على سؤال (الجزيرة) عام 2006م حول (مفارقة انضواء الحزبين في ائتلاف واحد)..
بتجاوز تأويل الصراع بالدين إلى ما هو عليه في سياقه المادي، نجد أن (الحزب الاشتراكي) كان قد تخلَّى عن (راديكاليته الأيديولوجية) في وقت مبكر منتصف ثمانينيات القرن الفائت، لذا فإن سخط خصومه إبان الفترة الانتقالية للوحدة، لم تكن تستهدفه على مصاف (الأيديولوجيا).. 
سلَّم الاشتراكي بالديمقراطية التعددية وبالحلول والمفاهيم الرأسمالية للاقتصاد وما ينبغي أن يكون عليه، وتقدمت حكومته بمشروع (إصلاحات اقتصادية) ملتزمة رأسمالياً بمحددات (صناديق الإقراض الدولية)؛ وفي 1993م ، وجه مذكرة رسمية تتضمن (طلب العضوية في مؤتمر الاشتراكية الدولية)..
إلا أنه رغم كل ذلك ظل موضع مؤامرات وسخط الخصوم، إذ كان إلى حينها لا يزال (شريكا  يتمتع بالسلطة على ترسانة عسكرية وإدارية تنتظمها مؤسسات الدولة الجنوبية)، وكان ذلك سبباً كافياً لاستمرار مخاوف خصومه منه ومكائدهم له... وفي حقيقة الأمر، فإن هذه المكائد لم تكن تعمل محلياً بمعزل عن كنف رغبة قطبية ورعاية من قبل دوائر (واشنطن) الدبلوماسية والاستخباراتية على الأرض.. فبالنسبة لقطب منتصر؛ شرع منذ 1991م في هندسة نظام عالمي جديد ؛ فإن مؤسسات الدولة الجنوبية كانت تعني أكثر من مجرد هياكل إدارية جامدة ومحايدة.. إنها ـ رغم تواضع التجربة الاشتراكية وعثراتها ـ بناء أيديولوجي عقائدي، يتحتم تقويضه حجراً وبشراً...
يقول (ديفيد نيوتن)، وهو ديبلوماسي أمريكي مخضرم كان يعمل سفيراً لدى اليمن إبان ثورة سبتمبر 1962م ولاحقاً نائب سفير مطلع السبعينيات: (وقفنا إلى جانب اليمن خلال منعطفين مهمين؛ مرة عبر اعترافنا بالجمهورية الوليدة، وأخرى بتوفير غطاء سياسي مكَّن (صالح) من خرق القرارين الأمميين (924 ؛ 931) بوقف إطلاق النار في حرب 1994م ، حماية للوحدة..). جاء ذلك في سياق حديث صحفي أدرته معه في (واشنطن 2011م))..
نتيجةً لهذا العون الأمريكي الذي يقرُّ به (نيوتن) انتهى الحال بعشرات الآلاف من الكوادر والكفاءات الجنوبية، وتحديداً العسكرية والأمنية منها، خارج نطاق الفاعلية مشردين على أرصفة الداخل والخارج، وخسرت (اليمن) تجربة مؤسسية فارقة في متناول اليد كان يمكن البناء عليها بيسر وتعويض افتقار الشطر الشمالي شبه التام الى بناء مؤسسي حديث يلبي حاجته لدولة نظام وقانون، لم تبرح حبراً على ورق.. 
تتيح لنا إضاءة مرتجعة على مشهد ما بعد أغسطس 1968م رصد تداعيات مماثلة للآنفة، فقد استُهدفت الألوية والوحدات العسكرية التي هي حصيلة مؤازرة مصر الناصرية لدولة اليمن الغضة، بالتجريف وتسريح واغتيال كوادرها بوصفهم رافداً اجتماعياً محدثاً تمخضت عنه الثورة شذوذاً على تراتبية سيطرة تقليدية سرعان ما استعادت قواها العافية إثر نكسة حزيران وانحسار المؤازرة المصرية، وبفعل مدد (سعودي) بالغ السخاء، جعل من اليمن منطقة نفوذ متواتر للمملكة منذ ذلك الحين.. 
لقد كانت تصفية النقيض الحامل لبذرة المشروع الوطني الملتحم بالشعب ـ إذن ـ هدفاً لا إمكانية لتكريس سيطرة قوى الهيمنة وأدواتها المحلية في (اليمن) بغير إنجازه.. إلا أن نجاح هذه القوى في الإطاحة بالأدوات السياسية والثورية الحاملة لهذه البذرة، لم يكن يعني بأية حال نجاحاً في الإطاحة بالعوامل الموضوعية التي تمد هذه البذرة بالحياة وتخصب حوامل ثورية بديلة لها أكثر التحاماً بشعبها وترابها، وأوفر إرادة وقدرة على قضّ مضاجع قوى السيطرة بالوكالة المطمئنة لهوان الشعب وجبروت الهيمنة القطبية السرمدي.