من الباب الخلفي يتصدر اليسار المشهد الأسود بتحالفه مع الجماعات الإرهابية لتدمير تعز.. اليوم، تخوض الحركة اليسارية (اشتراكيين وناصريين) معركة مدمرة ضمن خندق واحد يجمعها مع التيار التكفيري (إخوان وسلفيين) ضد الهوية الجامعة لليمنيين.. لازال الكثيرون يتذكرون تلك المقولات التي كان يتشدق بها بعض من يصفون أنفسهم باليسار، عن الضرورة الحتمية لمواجهة الإمبريالية والصهيونية العالمية ودول الرجعية الخليجية وأذيالها الوهابية التكفيرية، وتخليص اليمن والعالم من شرها القاتل.. والمطاف الأخير لترجمة هذه الأيديولوجية الارتماء بأحضان أعداء الأمس، وتدمير حالمة وحاملة النهضة اليمنية.
أيقونة الموت
منذ عقود طويلة وتعز تحمل إرثاً من التاريخ السياسي، والحضور العروبي والإسلامي والفكر التقدمي, وتعد أيقونة ذاتية لدمج القوى اليمنية في تصورات واضحة لمراحل قادمة تتحد عبر غطاء الوطنية، الذي كان على اليسار أن يُحافظ عليه لوأد أي تشظيات أو انقسامات تشعل الجغرافيا عبر حروب تحبط مشروع الهوية الوطنية الجامعة لليمن.
مدينة نشأت ضد العصبويات والإكراه، وشكلت وعي قيادات الحركة الوطنية، باتجاهاتها اليسارية والقومية، الذين أنتجوا مشروعاً وطنياً، يقوم على المواطنة المتساوية لجميع اليمنيين.
ومع انطلاق ثورة 11 فبراير 2011، انطلقت من تعز شرارة الحراك مع خروج الملايين إلى الشوارع طوال 11 شهراً، للمطالبة بإسقاط النظام.
ومع هذا الحدث بدأت العجلة بالدوران.. تحالفت القوتان المتضادتان (الإسلامية والعلمانية) الممثلتان بحركة الإخوان المسلمين وقيادات الحزبين الاشتراكي والناصري، في مسار واحد جعل تعز آخر لقمة يمكن ابتلاعها.
مهَّد (إخوان اليمن) منذ ما قبل العدوان السعودي لاستدراج المعارك إلى محافظة تعز التي تُعدّ حاضرة للحراك السياسي اليساري تاريخياً في البلاد، لم يمر وقت طويل حتى شهدت المدينة حملة إعلامية خليجية تحريضية، لعلّها أخطر من تلك العسكرية المستمرة بعدوانها الغاشم على اليمن أرضاً وإنساناً.
تُحدث الحروب فظاعاتها، وتشكل يومياتها الكثير من المآسي، وتنتج قواميسها الخراب وتشوهات الإنسان.
وفي العدوان على اليمن والحرب التي يديرها على الأرض مرتزقته وعملاؤه، لا يوجد وصف يرقى إلى رسم معالم واقع لكرة نار تتدحرج، آخذةً في طريقها الذاكرة. 
يكبر جحيم الحرب في تعز، وقد أصبحت شوارعها العتيقة، بأزقتها الحجرية ومقاهيها العبقة وشرفات منازلها ومآثرها التاريخية، أطلال خرائب بسبب العدوان المستمر لتحالف أعداء اليمن المكون من امبرياليي وصهاينة ورجعيي العالم البشع وأذيالهم من العصابات الوهابية وأراذل الاشتراكية الدولية والناصرية السلمانية.
هكذا يبدو القدر على أبناء هذه المدينة وقادة الحركة الوطنية.. مسار في طريق أعوج نحو عالم الدمار والكراهية والموت.. مسار لا يلبث أن يتعثر في كل مفترق تاريخي تعيشه البلاد، لتعود العصبويات والجماعات ما دون الوطنية للتمظهر من جديد في مسميات مختلفة (عصبة الحق ولواء الصعاليك وحماة العقيدة وكتائب القشيبي وكتائب حسم.. إلخ).
لم تتغير فصول الجحيم المستشرس منذ أكثر من 13 شهراً في ذاكرة أبناء تعز وسكانها، فالجحيم نفسه لايزال يفتك بالحياة عبر تحالف يميني ويساري تحت بيارق القاعدة وداعش، استهدفت مليشياتها الأهالي والمنازل والأسواق والمستشفيات التي دمرت معظمها، وعملت هذه العصابات الإجرامية المثخنة بالعمالة ورائحة الدم على إذكاء روح الطائفية، عند شريحة من سكان تعز ذوي الأصول الزيدية الذين قدموا منذ عقود من صنعاء، بدعاوى طائفية، لم تخبرها هذه المدينة التي أذابت الطائفة والقبيلة.
عدوان جماعةٍ جاءت بعقيدتها العصبوية لتضرب السلم الأهلي في هذه المدينة، وتفرض سلطتها بقانون السلاح والذبح والسحل والتدمير والنهب والتهجير. 
لم تعد تعز تنعم بوجهها المشرق الباسم على خارطة اليمن, صار البؤس والنضوب والموت يكتنف ملامحها بعد أن انهالت القوى التدميرية بمعاولها الحاقدة على مدينة المآذن والمدارس والمحاريب والخانقات والأضرحة.
هبت العاصفة برياحها الهوجاء اليوم على كل معالم المدينة التاريخية.. ضرب العدوان السعودي قلعة القاهرة التاريخية، ودمرها بشكل هائل (معلم تعز الرئيسي الذي يعود بناؤه إلى شمس الدولة توران شاه شقيق (صلاح الدين الأيوبي)، الذي اتخذ تعز في القرن الرابع الهجري عاصمة لملكه عام 1173م).
لم تتوانَ الحركة الوهابية منذ انطلاق مسيرتها المدمرة، عن طمس الهوية الحضارية والدينية, فمنذ 150 عاماً طالت ركابهم وسيوفهم ومعاولهم الكثير من المزارات والآثار في اليمن.
اليوم، ومع تدشين الحملة الوهابية الثالثة, تستمر حكاية الغل التاريخي عبر الآلة الداعشية القاتلة لكل المقومات التاريخية\الحضارية، وبذات الشكل كانت الحالة التعزية أرضاً خصبة لهذا السرطان القاتل.
فقد طالت الأيدي القذرة في عمليتها بهدم ضريح شيخ صوفية عصره عبدالهادي السودي (860-932 هجرية)، ونبش قبره بهدف التمثيل برفاته الطاهرة, في حي عبدالهادي السودي الواقع أعلى المدينة القديمة في تعز, كما قامت عصابات العدوان السعودي\ الأمريكي على اليمن, بتفجير ضريح وقبة الشيخ عمر بن مدافع التاريخي، في منطقة صينة غرب مدينة تعز، والذي يعود تاريخه إلى عام 640 هجرية.
 وشهدت المدينة تفجير وتدمير العديد من المعالم الأثرية الدينية، ومن أهمها: الجزء الأثري المتمثل بقبة الشيخ إبراهيم الحُرازي (توفي عام 866 هجرية، وكان من رواد الطريقة الرفاعية)، في منطقة ثعبات, وقبة وضريح الشيخ عبدالله الطفيل في قرية حسنات التابعة لمديرية صالة, ونبش قبر العلامة عبدالله الرميمة (متوفى منذ 18 عاماً)، في قرية حدنان صبر. 
كما قامت عناصر جمعية الحكمة السلفية منذ سنوات، بالاعتداء على قبر الملك عمر بن رسول، مؤسس الدولة الرسولية، وضريح طغتكين بن أيوب (القائد العسكري للدولة الأيوبية في اليمن والمؤسس الفعلي للدولة الرسولية)، والواقع بمنطقة صينة.
لازال الوضع قائماً وقاتماً على صدر تعز, أفرز العدوان القائم من قبل التحالف السعودي الأمريكي ومليشيات تنظيمي داعش والإخوان, قوى قاتلة ومدمرة على الساحة التعزية، مستغلة الدعم الخليجي، ومن هذه القوى الحركة السلفية. 
من توسع حضور الجماعات الإرهابية والعميلة مثل القاعدة وداعش والإخوان، وبمساندة فاعلة من القوى الهزيلة (اشتراكيين وناصريين)، تلوثت الحاضرة تعز بغبار الطائفية المذهبية والمناطقية، وتناثرت أوصالها تحت ركام قوى اليسار التي تراجعت كثيراً عن مفهومها الأيديولوجي، وتموضعت في صف الإخوان المسلمين والقاعدة وداعش، وارتمت في أحضان المملكة الوهابية. 
فشلت قوى اليسار التي كانت دومًا وجه تعز.. فشلت في استثمار الظرف القائم لتسجيل حضور وطني قوي, واكتفت بتسجيل رقم ضعيف ومخز على ميدان تدمير وقتل اليمن، والفتك أولاً بتعز؛ بعد أن سحبت البساط اليمني من تحتها، وقدمت الوطن بثمن حقير لمذبح التنظيمات الإرهابية وحلفاء عاصفة الموت السعودية الأمريكية.

ملامح محورية
في سنة 356 هجرية (5521 ميلادية)، نقل الملك الرسولي المظفر يوسف بن عمر، عاصمة الدولة من الجند الى مدينة تعز، وسمى النواحي والجهات، وأقام التقسيمات الإدارية، وأعاد بسط نفوذ الدولة كأقوى دولة مركزية في اليمن، وبسط حكمه من شرقي ظفار في عمان حتى المدينة المنورة، ويعتبر هذا الملك أكبر ملوك الدول التي حكمت اليمن، وثاني موحد سياسي لبلاد اليمن الطبيعية.
يعتبر العصر الرسولي (حكمت اليمن في الفترة 626-858هـ / 1229-1454م، وأسسها الملك المنصور عمر بن رسول، بعد أن أعلن الاستقلال عن الأيوبيين في مصر), واحداً من أزهى الفترات في تاريخ الدول الإسلامية، فقد أقروا الحرية المذهبية والدينية، حتى الرحالة ماركو بولو أشاد باليمن خلال هذه الفترة، ونشاطها التجاري والعمراني وكثرة القلاع والحصون بالبلاد، فكان عهد دولة الرسوليين من أفضل العصور التي مرت على اليمن بعد الإسلام، وهي من أطول الدول اليمنية عمراً طيلة تاريخ البلاد بعد الإسلام.
بنى الرسوليون جامعي ومدرستي المظفر والأشرفية، والعديد من المدارس كـ: السيفية والشمسية والأسدية والجبرتية والمعتبية والياقوتية والمؤيدية والغرابية والوزيرية وغيرها. وكان ملوك بنو رسول رجالاً متعلمين، فلم يكتفوا بإثراء المكتبات بالكتب، بل لعدد من ملوكهم مؤلفات في الطب والفلك والزراعة والصناعة, فتحولت تعز أيام الرسوليين، إلى مراكز مهمة تتبوأ موقعها بين المدن العربية والإسلامية في تلك الحقبة وما تلاها.
لا تقتصر أهمية تعز في كونها من أكبر مدن اليمن سكاناً، ولا بأنها محافظة معظم رجال المال والثقافة، لكنها تكمن في أنها تمثل محور الحركة الاجتماعية والسياسية لليمن تاريخياً، كما يميزها موقعها الوطني المتوسط بين الشمال والجنوب عند التقاء البحر الأحمر مع خليج عدن.
وشهدت المحافظة، التي اتخذتها الحركة الوطنية في اليمن قاعدة لأنشطتها منذ الخمسينيات، ولادة التنظيمات السياسية بكافة توجهاتها.
احتفى الإمام أحمد بقدوم الطلاب الشيوعيين باعتبارهم خصوماً لعبد الناصر؛ إذ كانت العلاقات بين الرجلين قد توترت. وقام الأول بإعادة توزيعهم على الدول الاشتراكية لاستئناف دراساتهم، وشكلوا في ما بعد، إضافة إلى عناصر طلابية أخرى ظلت في القاهرة، وآخرين في اليمن، النواة الحركية للتنظيم الماركسي في اليمن. 
ووجد هؤلاء الطلاب القادمين إلى دولة الإمام أحمد، أمامهم مؤسس التيار الماركسي عبد الله باذيب، يعمل معارضاً في مدينة تعز بعد فراره من عدن، على إثر مقالات كتبها ضد الاحتلال البريطاني. ومن العوامل الكثيرة التي تضافرت لتسهم في تأسيس أول تنظيم ماركسي يمني، انصراف المجموعة المنشقة عن الاتحاد اليمني لتكوين إطار سياسي لهم، وأقاموا نوعاً من التنسيق والتعاون التحالفي مع المجموعة الماركسية في تعز وعدن، وكان أهم جامع يربط بين المجموعة المنشقة عن الاتحاد، والماركسيين، هو العداء والخصومة الحادة لخط محمد محمود الزبيري وزميله أحمد محمد النعمان.
ومثلت تعز النواة الأولى المؤسسة للفكر الإخواني عبر الطلاب المبتعثين للدراسة في القاهرة (عبده محمد المخلافي وعبدالمجيد الزنداني)، وبدعم من الفضيل الورتلاني, ونشاط هذه الجماعات المتزايد منذ السبعينيات المتمثل بقطاع التعليم والجمعيات الخيرية على مفاصل الحياة بتعز.
وبسبب قدرتها على التأثير في شتى مناحي الحياة السياسية والاقتصادية المحركة للمجتمع, حضرت تعز بقوة أثناء الصراع والمواجهة بين شطري اليمن، إذ تبوأ عدد من المتحدرين من المحافظة مناصب عليا في الجنوب، كان أبرزهم عبد الفتاح إسماعيل الأمين العام للحزب الاشتراكي، وكانت حاضرة في الشمال من خلال تولي عدد من سكانها مواقع مهمة في الدولة وفي قيادة الأحزاب السياسية، واستمرت كذلك بعد قيام الجمهورية. فيما اتخذها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر مركزاً لقيادة القوات العربية، وأصبحت منطلقاً للثورة في جنوب اليمن على الاستعمار البريطاني حتى رحيله.
كانت تعز المرتع الأول للثقافة.. مراكز وصحافة, ومنها ولدت صحيفة (النصر) الحكومية و(سبأ) الأهلية، مطلع عام 1949, والأخيرة كانت تهدف للوقوف ضد الاستعمار البريطاني لجنوب الوطن وضد الجمعية اليمانية الكبرى وأنصارها، وفي الـ14 من أكتوبر 1959 صدرت صحيفة (الطليعة) ذات الاتجاه اليساري، لصاحبها ورئيس تحريرها عبد الله عبد الرزاق باذيب، وبعد يومين من قيام ثورة 26 سبتمبر 1962 صدرت صحيفة (الثورة) تحت إشراف القيادة العسكرية للثورة. وصدرت صحيفة (الجمهورية) الرسمية بعد 25 يوماً من قيام الثورة.
قصة عشق أبدي
تعود الإغفاءة مع الحالمة، لكنها (تعز) يعز عليها البوح بأسرارها، تسفر عن عاشقيها، دون الكشف عن سر عشقهم لها.
تاريخ طويل وتجلٍّ يمتد من توشيحات شهاب الدين بن فليتة الرسولي، إلى ترنيمات أيوب طارش الوجدانية.
ومن ثورة ابن علوان على الظلم.. إلى ثورة حميد الدين الخزفاري الاشتراكية في المقاطرة.. لتعز فلسفة صوفية.
في لوحة هاشم علي والفتيح رسمت (تعز) كلماتها على ترانيم الفضول وهادي سبيت وقصص محمد عبدالولي.
ومن حنجرة (جيفارا الحالمة) انبعثت صرخة الثورة والخبز والحب.
في عرينها.. مكث الجاوي وباذيب ومحمد عبده الحكيمي والجحافل الصاعدة لفك حصار صنعاء.
أعلام كثيرة ورموز كبيرة كان لهم قصة حب مع الفتاة الحالمة، فهذا أبرز أئمة اليمن (أحمد بن يحيى حميد الدين) يعلن عن حبه صراحة، ويتخذ من تعز مقراً لإقامته وعاصمة لدولته بعد ثورة 1948، وبنى بها قصوره وقلاعه، وأدار شؤون دولته منها.
وبلغ الأمر مبلغه مع الروائي المصري الشهير نجيب محفوظ، فاشتد وثاق الحب عليه وصرخ ملء وجدانه قائلاً: (لو خيرت بمدينة من مدن العالم أقضي بها ما تبقى من عمري، لاخترت مدينة تعز في اليمن).
هذا الانبهار والعشق المحفوظ في الجنة, انبعث على واقع منظر دخول جمال عبد الناصر إلى مدينة تعز، في مايو 1964، بلوحة تاريخية لتلال مدينة تستقبل قديساً عائداً إليها على واقع دق الطبول وابتهالات قرون طويلة مضت، زحفت بلوحة التاريخ العظيمة عند دخول هذا الزعيم العربي الخالد إلى مدينة (تعز) وإلقائه عبارته الشهيرة: (على العجوز الشمطاء- بريطانيا- أن تضع عصاها على عاتقها وترحل عن جنوب اليمن)، التي كان يتأوه بها أبناء تعز كلما رأوا الانكسارات العربية تتوالى.
كانت هذه الصورة الباقية، التي سوف تبقى إلى زمان طويل في الذاكرة من مشاهد رحلة لمدينة كانت جارة للقمر.