عـدن.. قبلة سلف غير صالح
- تم النشر بواسطة صحيفة لا / عبدالقادر حسين

من كينونة يسارية إلى وكر وهابي
عـدن.. قبلة سلف غير صالح
لطالما اشتهرت المحافظات الجنوبية، وعلى رأسها محافظة عدن، بأنها الأقرب إلى المدنية، ويتصف أبناؤها بنبذ السلاح، غير أن وقوعها بيد قوات الاحتلال الخليجية نسف تاريخها المدني، وسخر أبناءها وقوداً لتنفيذ مشاريع الاحتلال عبر تجنيدهم في صفوف الجماعات الإرهابية، فمنذ وقوع عدن بيد الاحتلال في تموز 2015، صار بوسع التنظيمات الإجرامية أن تتخذها وكراً إرهابياً، بعد أن عملت على طمس معالم المدينة التاريخية والحضارية، وإحلالها بمعسكرات تدريب لتجنيد الشباب، ومراكز تحفيظ يُشرف عليها متطرفون.
استطاعت المجاميع الإجرامية التي تستمد قوتها من تحالف العدوان، أن تبسط نفوذها على معظم المحافظات الجنوبية، ومحافظة عدن على وجه الخصوص، ليتسنى لها أن تقتات على لحوم البشر، وتروي ظمأها من الدم المسفوك يومياً على شوارع المدينة، ومع إعلان تنظيم القاعدة مشروعهم في الجنوب، وإظهار أنفسهم ورفع شعاراتهم، والسيطرة على أجهزة الدولة وتسييرها، كانوا قد عملوا على تجنيد أكبر عدد من الشباب في صفوفهم استعداداً لإنشاء إمارة إسلامية.
لما يزيد عن 20 عاماً اضطلعت الوهابية السعودية بمهمة تكريس نفسها بديلاً لقيم التعايش والسلام التي امتازت بها عدن، وأنفقت في سبيل ذلك أموالاً طائلة، وأسست العديد من المراكز التي تقوم بدور تجريف الثقافة والهوية اليمنية، مما يؤكد أن العدوان على الشعب اليمني لا يعدو عن كونه استكمالاً لمشروع تمكين المجاميع الإجرامية من المحافظات اليمنية، وتوسيع أنشطتها، لتحقيق أهداف العدو السعودي الأمريكي بإدخال اليمن في دوامة صراعات مدمرة تجعل منه بلداً ضعيفاً وفاشلاً يخضع لسطوتها وتبعيتها.
فقد كاد أبناء الجيش واللجان الشعبية أن يستكملوا القضاء على تلك البؤر الإجرامية، لولا تدخل قادة تلك الجماعات بتشكيل تحالف العدوان الذي باشر مهمة الدفاع عن أذرعه في اليمن، في 26 آذار 2015، للحفاظ على ما تبقى من الجماعات الإرهابية، ومساندتها ودعمها تحت غطاء الشرعية المزعومة، وتحت ذات الزعم جرى تمكين العصابات الإجرامية من بسط النفوذ والسيطرة على معظم المحافظات الجنوبية.
وقامت دول العدوان بتسليح وتمويل تنظيم القاعدة من خلال عمليات الإنزال الجوي، وفيما كانت فصائل الحراك الجنوبي تنفي وصول أية شحنات من الأسلحة والأموال إليها عبر الإنزال المظلي لطائرات العدوان، يوضح زعيم تنظيم القاعدة جلال بلعيدي، في شريط فيديو بثته شبكة (الملاحم) التابعة لتنظيم (القاعدة) بتاريخ 30/8/2016، أن الذين نهبوا المعسكرات قبل هروب الرئيس هادي ـ في إشارة منه إلى الحراك الجنوبي ـ هربوا إلى المناطق المجاورة لمدينة عدن، وتركوا من سماهم (أهل السنة) في عدن لمواجهة مصيرهم، الأمر الذي أفسح المجال لتمدد تنظيم (القاعدة) بين أهالي مدينة عدن، وقيام من سماهم (المجاهدين) ـ بحسب قوله ـ بتسليح وتمويل وتدريب من سماهم (أولاد الحارات في عدن).
وعندما قارب أبطال الجيش واللجان الشعبية على دحر عناصر تنظيم القاعدة من معسكراتهم في مدينة عدن، وتدخل العدوان السعودي الأمريكي، التحق - بشكل علني - آلاف الشباب بالمعسكرات التي تقودها التنظيمات الإرهابية للحصول على التدريب والسلاح، وكان معسكر القاعدة في البريقة يستقبل عشرات الشباب بشكل يومي، وتتخرج منه دفعات يتراوح قوامها بين الـ70 والـ200 متدرب.
مراكز التحفيظ مصدر رئيسي للقاعدة
تنتهج العناصر الإجرامية طرقاً مختلفة لإقناع الشباب بالالتحاق في صفوفهم، وتمثل حلقات تحفيظ القرآن المصدر الأساسي الذي يقوم برفد التنظيمات الإرهابية بالعنصر البشري، ويفيد شباب ناجون من الانخراط في التنظيم بأنهم يستخدمون مراكز التحفيظ لترغيب الشباب وإقناعهم بمفهومهم عن الجهاد وإثارة مشاعر الشاب ضد ما يزعمون بأنه (تغيير للمنكر)، ومن خلال ملاحظة ردة الفعل لدى الشاب ومدى استجابته لتقبل المفاهيم التي يروج لها التنظيم، وفي ضوء ذلك تبدأ مرحلة انتزاع الشاب من أصدقائه وعالمه الذي يعيش فيه، وتزويده بمعلومات زائفة عن أصدقائه المقربين من خلال اتهامهم أنهم ليسوا على الدين القويم، وأنهم يرتكبون المعاصي، ويخافون عليه منهم. وأثناء هذه الفترة تعقد لقاءات سرية، وتعرض عليه بعض الفيديوهات الجهادية، حتى يصبح العرض شبه يومي، وفي كل لقاء يزداد الحماس، وفي كل مرة تزداد الرغبة بالقتل، حتى ينعزل الشاب تماماً عن العالم المحيط به، ووقتها يكون جاهزاً لتلقي الأوامر وتنفيذ العمليات الإجرامية.
بعد استقطاب الشباب واختيار المستجيبين لأفكارهم، يتم نقلهم إلى معسكرات تدريب خاصة، وهي عبارة عن وسيلة تأثير عالية الأهمية بالنسبة للقائمين على الاستقطاب، بمثابة غسيل الدماغ، حيث تبدأ أولاً بمنح ألقاب للشباب يختارونها، مثل (أبو القعقاع وأبو معاذ، وهكذا)، ثم تفرض عليهم عزلة عن العالم الخارجي، ويضعون لهم جدولاً يومياً يقتصر على (تدريب قتالي، محاضرات، مشاهدة فيديوهات لعمليات التنظيم).
وهكذا ينفصل الشاب بشكل تدريجي عن حياته السابقة، وأول درس يتعلمه هو السمع والطاعة، ويستمر تلقينه في محاضرات تلو أخرى، مع إلزامه بحفظ الأحاديث المكرسة لهذا الأمر، وبمجرد الانتهاء من هذه المرحلة يخضع الشاب لبرنامج تدريب على مهارات القتال وعلى أنواع الأسلحة والمتفجرات، مع التركيز أكثر على قتال الشوارع.
أثناء التدريب يتم فرز الشباب كل بحسب قدراته وحماسه، فمن يمتلك بنية قوية ويُظهر ولاءه الأعمى، فإن التنظيم يحرص على عدم التضحية بهم أبداً، بل على العكس يقوم بالاحتفاظ بهم وإخضاعهم لبرامج تدريب خاصة، أو يُنقلون لمعسكرات أخرى، فيما البقية وقبل نقلهم للمعارك تُلقى عليهم محاضرات لأفضلية الشهادة، وما سيناله الشهيد في الجنة من جزاء، والتخويف بالعذاب الذي ينتظر المتخاذلين، ويتم إرسالهم للقتال، ولا يسمح لهم بالزيارات العائلية خلال هذه الفترة.
إعدام بالفتوى
لم تعد عدن التي تغزَّل بها الشعراء وكتبَ عن مدنيتها المفكرون، موجودة، ولم يعد بها متسع للشباب الذين يرفضون الإرهاب والتكفير، فهي اليوم تضيق بكل ما هو جميل بهي، قتلت عمر باطويل الذي كتب منشوراً على صفحته في (فيسبوك): (أنا أرى الله في الزهور، وأنتم ترونه في القبور)، وفتحت ذراعيها لقاتل مدجج بالعبوات الناسفة والفتوى الوهابية، ليس ذلك وحسب، بل ظهرت في الأوساط العدنية العديد من ردود الفعل المشجعة لهذه الجريمة البشعة التي تبيح القتل في مجابهة الفكر والاعتقاد.
ولعل ظهور مشجعين لتلك الجريمة يعود إلى انتشار العديد من مراكز التحفيظ، وإحكام الجماعات الإجرامية سيطرتها على المساجد، مما يجعل عدن وكراً للتنظيمات الإجرامية، وأحد مصادرها الرئيسية للتزود بالشباب؛ إذ صارت خطب المساجد في عدن لا تناقش غير قضية الإلحاد والردة بحسب المفهوم الوهابي، الوافد إلى المدينة على مجنزرات الاحتلال الخليجي وعباءات الوهابيين.
نخب مهترئة
في ظل السعي الدؤوب إلى تجيش الشباب في صفوف الإرهاب، واغتيال المعارضين وذوي المواقف المعارضة لأنشطة القاعدة التي تعمل على نخر المجتمع الجنوبي، وتجريف الهوية الوطنية والخصوصية الثقافية للعدنيين، تغيب النخب الأكاديمية والسياسية والثقافية عن المشهد، وأفسحت المجال للتنظيمات الإجرامية، وتماهت معها لدرجة تجعل (داعش) و(القاعدة) تتسيد المشهد في الجنوب، فضلاً عن انخراط بعض النخب في صفوفها والدفاع عنها، وهي التي تنطعت بالتقدمية والاشتراكية طويلاً.
ويصف أكاديميون النخب الجنوبية بأنها تعيش وضع المهزوم، إذ تكتسحهم كل الأفكار العدمية، وتتمكن منهم، حيث إنه لم يعد هناك قوى أو نخب اجتماعية تتعامل مع وضع ما بعد الهزيمة وفق رؤى تقلل من تأثيراتها، مما يجعل تاريخ عدن الحضاري يندثر ويهرول نحو العودة لما قبل 100 عام تقريباً، مؤكدين أن مراكز التحفيظ والعناصر الإجرامية احتلت مكانة النخب الثقافية والاجتماعية، فعندما يجتمع المال والفكر الظلامي يغدو صعباً مواجهته بالثقافة، فالثقافة لا تتكرس مع البطون الجائعة، فضلاً عن مواجهة تحديات إمكانيات البترودولار التي تدعم هذه العصابات الإجرامية.
تهجير المسيحيين
لقد شكلت مدينة عدن حالة فريدة في التعايش والتنوع، ضم كيانات إنسانية متعددة، رغم اختلاف معتقداتهم، فقد اجتمعت في أحياء المدينة منازل المسلمين والمسيحيين واليهود والطوائف والملل الأخرى، احتضنت شوارعها الجميع خلال القرنين الماضيين، لكن ذلك لم يعد موجوداً اليوم، ومؤخراً شهدت المدينة أحداثاً استهدفت الكنائس عقب سيطرة قوات الاحتلال الخليجية؛ إذ أقدمت عناصر مسلحة في 31 تموز 2015، على اقتحام كنيسة البنجسار الكاثوليكية، والتي يعود تاريخ بنائها إلى منتصف القرن الماضي، حيث حطم المسلحون الصليب ورأس البابا.
وتكرر المشهد مرة ثانية باستهداف كنائس عدن، وكان الدور على مدينة كريتر في 16 أيلول 2015، حيث أحرق مسلحون كنيسة القديس يوسف الكاثوليكية الواقعة في حي البادري بالمدينة القديمة، وفي الثامن من كانون أول من العام ذاته أقدم مسلحون على تفجير كنيسة كاثوليكية مهجورة في حي (حافون) بمنطقة المعلا، ما أدى إلى انهيار سقفها وتصدع الجدران فيها.
لم يكتفِ العدوان بالاعتماد على عناصره الإجرامية في الأرض في تجريف تاريخ عدن، بل طال قصف طيران العدوان العديد من المعالم التي تثبت عراقة المدينة وتعايش أهلها، إذ أفادت وكالة (فيديس) الفاتيكانية، أن كنيسة (الحبل بلا دنس) الكاثوليكية الواقعة في منطقة التواهي، سبق أن تعرضت لقصف من قبل طائرات العدوان السعودي الأمريكي، ما ألحق بها أضراراً جسيمة.
وبتهمة (التبشير)، وبتحريض مسبق، اقتحم مسلحون دار المسنين في محافظة عدن، في السابع من آذار الفائت، وقاموا بإعدام ما يزيد عن 16 شخصاً، بشكل وحشي. وتأتي هذه الأعمال استمراراً للمشروع الوهابي الذي بدأ منذ نحو عقدين، بتضييق الخناق على المسيحيين المقيمين في عدن، سواء ممن يحملون الجنسية اليمنية أو من الجاليات الأجنبية، وعدم السماح لهم بإقامة الشعائر الدينية بحرية في ما تبقى من كنائس مؤهلة لاستقبالهم وتأدية الصلوات فيها.
كل هذه الممارسات والمضايقات عكرت حياة الأقلية المسيحية في عدن، وجعلت العديد منهم يغادرون المدينة، فيما بات معتنقو المسيحية من اليمنيين يتكتمون على دينهم، ويمارسون صلواتهم في المنزل خوفاً على حياتهم.
فصل الطلاب عن الطالبات
وسيراً على منهج (القاعدة) و(داعش) المستمد من الفكر الوهابي الذي يحظى بدعم وتمويل سعودي، يجري تطبيع المجتمع العدني على أفكار ومعتقدات تلك الجماعات، وتفرض عناصر الإرهاب التابعة للقاعدة قوانينها في عدن، وبموجب سلطة القاعدة، منع عناصرها الاختلاط في الجامعات بعد اقتحامها إحدى الكليات وتنفيذ قوانينها بالقوة.
وقد قام عناصر تنظيم القاعدة باقتحام جامعة العلوم، وإرغامها على فصل الطلاب عن الطالبات أثناء التدريس، الأمر الذي دفع جامعة العلوم والتكنولوجيا فرع عدن لإعلان استئناف الدراسة بالنظام الجديد، الذي يتمثل في أسبوع مخصص للطلاب وأسبوع آخر مخصص للطالبات.
هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
عقب انسحاب قوات الجيش واللجان الشعبية، وسيطرة قوات الاحتلال الخليجية على عدن، نشطت التنظيمات الإرهابية بشكل كبير، وصارت تُلزم المجتمع العدني بأنماط حياة متشددة، ويأتي ذلك استكمالاً لمشروع الزنداني في العام 2008 بإقامة (هيئة الفضلية) التي تعد نسخة عن (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) السعودية، ولم يُكتب لها النجاح آنذاك.
وفيما يخصص تنظيم القاعدة عناصر راجلة لفرض نفسها وآرائها على المجتمع في عدن، بشكل غير رسمي، فإن القاعدة في المكلا ومناطق ساحل حضرموت أنشأت وحدة أمنية خاصة تسمى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تسير دوريات راجلة من أفرادها مدججين بالأسلحة الآلية في الشوارع والأسواق العامة والمتاجر، من أجل ما سموها محاربة المنكرات، حسب زعمهم، بالإضافة إلى توجيه الناس للصلاة وإغلاق المحلات والمعارض التجارية أثناء إقامتها.
سيطرة تحالف العدوان على عدن وتسليمها لعصابات (القاعدة) و(داعش) شركائه في مواجهة الجيش واللجان الشعبية، أحال عدن إلى مدينة أشباح لا يحضر فيها سوى القتل والاغتيالات والتفجيرات التي ينفذها عناصر تلك العصابات، بشكل شبه يومي، إذ تصاعدت التفجيرات والاغتيالات، كما تنوعت عمليات ووسائل الإرهاب، وصارت دماء الجنوبيين رقماً في شيك مفتوح أصدره تحالف العدوان للعصابات الإجرامية.
المصدر صحيفة لا / عبدالقادر حسين