من بيروت إلى صنعاء.. حركات المجابهة الثورية
مقاومة غيرت وجهة العالم


شبح جاب العالم، ولم يكن الوحيد، اليسار، الذي مثل طيلة قرنين، العدو اللدود لمنظومة السيطرة الدولية الاستعمارية، من أوروبا إلى آسيا، ووصولاً لكل أرجاء المعمورة. جسد تاريخاً معقداً، متراوحاً على درجات السلم بين السقوط والصعود، بين الانتماء الحقيقي لقضية الإنسان وتحرره سواءً بوعي بجغرافية النضال وقوانينها وبـ(إسقاطات نظرية) و(اغتراب عن الذات) ينتهي بالسقوط أمام جنازير الوحشية الإمبريالية والصهيونية، وبين الخيانة الذاتية أولاً، ثم الخيانات لكل شيء.
ويؤكد التاريخ على لسان أعظم المفكرين، أن أهم ما أبدعه في العالم، كان افتتاح الطريق أمام حركات التحرر الاجتماعي والوطني بصراعها بمواجهة الإمبريالية والصهيونية التي أثخنت شعوب العالم بصنوف القهر والجوع والعبودية، وغيرت بلا شك مساراته حركة التاريخ البشري.
جاءت تسمية اليسار/ اليسارية، أواخر القرن الـ18 في فرنسا، من بين النواب الفرنسيين في اجتماع للتصويت حول الإجراءات الاجتماعية المطلوبة للشعب الفرنسي، ضم ممثلين عن كافة طبقات المجتمع (عموم الشعب، النبلاء، رجال الدين)، فكان النواب (ممثلو عموم الشعب) الذين اصطفوا على اليسار من الملك لويس السادس عشر، صوتوا لإجراءات لصالح الشعب الفرنسي المطالب بعدالة اجتماعية ومساواة، وبذا سميت الاتجاهات المتبنية والمطالبة بـ(العدالة الاجتماعية) يساراً، أو حركات وأحزاباً يسارية، فيما كان المصطفون على يمين الملك (الممثلون عن طبقة النبلاء والكهنوت الفرنسي) أطلق عليهم (اليمين). وغالباً ما كانت الاتجاهات الشيوعية والاشتراكية تدرج تحت مصطلح اليسار، فيما يذهب بعض آخر من المفكرين، إلى أن مصطلح اليسار لا يأخذ بعداً واتجاهاً واحداً، بل يتموضع بحسب الواقع الاجتماعي والوطني الذي يوجد فيه.
كان اليسار تعبيراً عن الاتجاهات السياسية الاجتماعية، المتبنية لقضايا المقهورين من أبناء الشعب، وقائداً لثوراتهم ونضالاتهم، وعُرف بهذا الانحياز الاجتماعي.. إلا أنه، وهو يعبر عن هذه القضايا الاجتماعية والوطنية، وطبقاً لما يقول التاريخ، لم يكن دوماً ثابتاً على انحيازه هذا، فكثير من الحركات اليسارية تأرجحت في مواقفها وانحيازها بين اليسار واليمين، وشهدت تراجعات تاريخية هائلة في برامجها ومواقفها السياسية والوطنية.
هذه الانحرافات ليست فريدة وسط أحزاب وحركات اليسار، إذ شهد العالم تجارب مماثلة، وربما أشد قسوة في انهيارها وانحرافها. المنطقة العربية شهدت حالات مماثلة لانحرافات حركات يسارية (شيوعية واشتراكية)، وانتقالها لموقع (اليمين)، وتراجعات فكرية ونظرية وجماهيرية فارقة، تسببت بانتكاسات قاصمة للقضايا العربية واللحمة الاجتماعية، كان أبرزها، ترك فراغ واسع بين الجماهير العربية التي راحت القوى الظلامية وأباطرة الاستعمار العالمي تفتك بوعيهم وانتمائهم ونضالهم، واتجهت تتوسع عبر أدواتها الوكيلة في الظل، لاستقطاب ما استطاعت منهم تحت يافطات عدة، أكثرها فتكاً، الدعوية الجهادية الطائفية والعرقية والقومية.

أزمة النخبة
جملة من الأسباب كانت وراء هذه المعضلات التي يكابدها الوطن العربي ويساره ومعظم حركاته الوطنية التحررية، ويوضح المفكر الشيوعي المُغتال مهدي عامل، في كتاباته، أن أزمة جلية تعيق الوطن العربي وقواه الاجتماعية من التقدم نحو الهدف المنشود، هي أزمة النخبة العربية -بالأخص اليسار العربي- الفكرية والنظرية، لاسيما المتصاعدة منذ السبعينيات، في عدم قدرتهم على فهم واقعهم الاجتماعي العربي والإسلامي، بتراثه وتراكمه التاريخي وتركيبته وطبيعة علاقاته وأزمته (البنيوية) المرتبطة بالاستعمار الكوني الإمبريالي واقتصاداته وحركته التاريخية، وفي أن يعي ماهية قضيته بين كونها (حضارية) وصراعاً صرفاً مع (التخلف) الذي يرجعونه للتراث العربي والإسلامي، وبين كونها تحررية وطنية وقومية، من السيطرة الاستعمارية العسكرية والاقتصادية والسياسية والأيديولوجية والثقافية. وهذه الأزمة أعاقت بدورها بلورة رؤية شاملة للقضايا العربية وطبيعة النضال المتوجب، لدى أحزابها وحركاتها وقاعدتها الشعبية، وإنزالها للجماهير لتصبح مشروعاً وبرنامجاً نضالياً ينهجه الشارع، لتبقى تنظيرات النخبة العربية محصورة على (المستوى الفوقي) حبيسة (الأقفاص العاجية) لتنظيرات النخبة، فيما يعيش الشارع العربي عزلة عن قضاياه، ومنكشفاً على المد الاستعماري بكافة أوجهه.

الانبهار بسحر الغرب
 إن الانبهار (الحضاري) الغربي لدى نخب اليسار، نجم عنه استسلامهم لمغرياته وسحره، و(الاغتراب) عن الواقع المُعاش بمختلف نواحيه، وغرقهم بأنماط التفكير الجاهزة وقوالبها النظرية -التي برغم تمسكهم بها لم يفهموها -كما يؤكد المفكر الماركسي سمير أمين- بعيداً عن الإبداع الفكري المنسجم مع الواقع المتخلق عنه والرافض لقسره، الناظر بعين النظرية والفكر والتجريب والغوص في أعماق الواقع والتاريخ ومواصلة التجديد النظري، والوقوع في جمود سحيق لا يكون به أي تجديد لأدوات الفكر والنضال. وكان أسوأ ما نجم عن هذه الأزمة، عزلة رهيبة بين الجماهير ونخبها وطليعتها، وبين هذه النخب وأحزابها على عدة مستويات فكرية وتنظيمية وسياسية.

عن شظف اليسار إلى فردوس اليمين
بدخول اليسار العربي، في حالة من (الانسحاق) و(الانفراط) الداخلي، اتجهت قياداته للانتقال نحو (الليبرالية)، والتصالح مع العدو المتربص، والانفتاح عليه وعلى قيمه وفكره، وبحالة من السأم من مواصلة الكفاح، وطمعاً في (الفردوس) ونعيم الحياة والاستهلاك؛ أوقفت مدارسها الحزبية الفكرية والمعرفية التي كانت الحلقة الأقوى في صمود قواعدها، وضاقت بكوادرها ومفكريها الذين لم يحيدوا عن موقفهم.
هذا كله، بجانب عوامل أخرى، جعل من يسارنا العربي بمستوييه الفوقي والتحتي، منكشفاً على مؤامرات العدو الإمبريالي والصهيوني، وعلى اختراقاته التنظيمية والفكرية والقيمية، مجرداً من أدوات صموده، ومن ارتباطه بالجماهير، وتدريجياً بدأ يتجرد من أسباب بقائه واستمراه، ووصوله لمرحلة (التدمير الذاتي) (باستثناء يسار الجزائر وسوريا اللذين ظلا متماسكين ومحافظين على رؤية وطنية وبرنامج نضالي).
في العراق، ظل اليسار يتآكل من داخله، بصراع دموي نشب بين البعث العراقي والحزب الشيوعي، وانتهى الحال بالأممية والقومية العربية والوطنية، بتشرنقات اجتماعية جهوية عشائرية وطائفية وعرقية، لتقع آخر الأمر من يدي الاحتلال الأمريكي تحت رحمة مذبح داعش الكبير، يوحد الانتماءات بتوحيد دماء أصحابها.
في لبنان، وقبيل أن ينهض مجدداً وينضوي في مشروع التحرر الوطني مع حزب الله برؤية جديدة، غرق الحزب الشيوعي اللبناني، في مثالية الأفكار وتقديمها قبيل نضوج ظروفها المواتية، خاصة عدم الاعتراف بواقع الطوائف الإسلامية والمسيحية، والتعامل معه بواقعية مطلوبة، وحقاً تجاوز الحزب هذا الواقع الاجتماعي اللبناني؛ لكن على مستوى الحزب فقط، الذي دخل في سبات مؤقت ليصحو على واقع راح يتجاوزه، خاصة بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 82م، وذهاب معظم الحركات اليسارية الأخرى للتطبيع مع العدو بشكل أو بآخر.
داخل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، برز صراع، بين تيار يقول بالذهاب نحو الماركسية، وتطرف برأيه، وآخر أصر على البقاء على الخط العروبي التحرري والحفاظ على القومية بتداخلاتها الاشتراكية العلمية، الأول بقيادة نايف حواتمة، والثاني بقيادة جورج حبش، هنا انقسمت الجبهة الشعبية، لكن اللافت كان أن تطرف الأول انتهى به ينظر لليبرالية والديمقراطية المعولمة ونهج الإصلاحات السياسية.
أما عن يسار إيران، شيوعيين وقوميين، فكان الخلل الواضح يتجسد في عاملين؛ الأول عدم امتلاك الشجاعة الكاملة والوضوح الكامل للسلطة، ووجود الرخاوة السياسية والثورية في الاستيلاء على السلطة والإبقاء على دستور الشاه، الأمر الذي مكن الشاه مطلع الخمسينيات من الانقلاب على حكومة مصدق وقرارات التأميم بعد عام من الثورة التي قادوها، والثاني كان عدم استيعاب الواقع الإيراني الديني، حيث الغالبية الشيعية والمتأثرة بالمرجعيات الدينية، وهو ما استوعبته (الثورة الإسلامية في إيران) التي استطاعت أن تطيح بالشاه عام 79م، بديلاً عما كان ينبغي أن يقوم به اليسار الذي انتهج بعضه في ما بعد عملاً مضاداً وإرهابياً ضد الثورة، لاسيما ما يسمى (المنظمات الماركسية)، وبالتنسيق مع المخابرات الأمريكية.
بالنسبة لليمن، يقترب الحال كثيراً من الحال العراقي، وربما بضراوة أشد تجسدت في التصفيات بين أجنحة اليسار نفسه، التي طالت الآلاف من كوادره، علاوة على التآمر والقمع المتبادل، والتهجير، لينتهي الحال باليسار اليمني، رافعاً لشعارات الاستعمار وحاملاً لمشاريعه، واختتمت تاريخه قيادتها بحجها المتواصل إلى الكيان السعودي، تعلن له الولاء والمساندة في عدوانه الكوني على الوطن.
كانت هذه الأحزاب، هي الرافعة السياسية والاقتصادية والنضالية، والأداة الكفاحية للجماهير في أكثر من بلد عربي، وبانحرافها وتخليها واندثارها تركت فراغاً مرعباً يهدد وجود المنطقة برمتها، في ظل تآمر عالمي عليها؛ لكن (الحتمية التاريخية) القائلة باستمرار الحركة والتحول في المجتمعات، ومع استمرار الكفاح الوطني، وجدت حوامل اجتماعية أخرى، تمكنت من الإمساك بزمام المبادرة والنهوض بالمشروع الوطني التحرري.
حزب الله في لبنان، الثورة الإسلامية في إيران، أنصار الله في اليمن أخيراً، بالإضافة إلى اليسار السوري بمقدمته البعث السوري. وبوجود هذه القوى، التي رفضت التخلي عن سلاحها وقضية أوطانها، تم توحيد جبهة ممانعة ومقاومة شديدة التماسك، استطاعت مد تحالفاتها لجغرافيات أخرى في العالم كروسيا والصين وعدة دول في أمريكا اللاتينية وأفريقيا، في ما يشابه جبهة عالمية متصدية للسياسات الاستعمارية، حققت تقدماً فارقاً لصالح شعوبها.

حزب الله
تمكنت الحركات المقاومة الوطنية الجديدة المتخلقة من لج المشروع والنضال الوطني والاجتماعي المديد طيلة عقود، من النهوض مجدداً بالمشروع الوطني بمواجهة (الامبريالية) و(الصهيونية) و(الرجعية العربية) التي تنخر في الجسد العربي، وإنقاذ المنطقة من السقوط التام والأبدي بأيدي العدو، فتمكن حزب الله في لبنان من مواجهة الاحتلال الإسرائيلي منذ العام 1982م حتى طرده من لبنان عام 2000م، مروراً بحرب تموز 2006م، ووصولاً لحرب 2009م وحتى اللحظة، مشكلاً تاريخاً فارقاً في حياة المقاومة العربية، ومشعلاً موجهاً لنضالاتها.
استطاع حزب الله استنهاض كامل طاقاتها، وتجييره لصالح المشروع المقاوم، وتقديم برنامج كفاحي وطني شامل للناس، يتمحور حول مقاومة الصهيونية والاستعمار، وكذا خطاباً وطنياً مقاوماً عاماً، والتمكن من صنع وحدة وطنية حوله من كافة الانتماءات السياسية والدينية. وقد جسد حزب الله هذه (الوحدة الوطنية) بمواجهة العدو الوطني، في ضمه لعدة فصائل مقاومة مسلحة وغير مسلحة، شيعية وسنية ومسيحية وغير متدينة، ضمن مشروع المقاومة الوطنية، في كتائب مختلفة تحت قيادته، إضافة لتنسيق عدة نشاطات مسلحة مع فصائل مقاومة مستقلة، كالفصائل التابعة للحزب الشيوعي اللبناني.
الثورة الإسلامية
تمكنت الثورة الإسلامية في إيران، من انتشال بلدها من مستنقع الشركات الإمبريالية والتبعية الكاملة للاستعمار، التي مثلها نظام الشاه في حربه على شعبه وعلى شعوب المنطقة بمساندة العدو الإسرائيلي والكيان السعودي، وخوض حرب 8 سنوات باطشة أمام دولة جسورة كـ(العراق) تملك ترسانة عسكرية هائلة ودعماً خليجياً أمريكياً بريطانياً للحرب على إيران، أفضت بالعراق محاصراً بسلسلة أزمات متتالية فتاكة، على العكس من إيران التي حققت نهوضاً وطنياً شاملاً في كافة المجالات، ونجت من المؤامرة المحيقة بها.

أنصار الله
وفي اليمن، تمكنت حركة أنصار الله، من استلام زمام المبادرة، والإمساك بدفة الصراع الوطني في لحظات حرجة كان البلد فيها على شفا التطبيع الكامل مع الاستعمار، والتحول لمعسكرات (ناتوية) وممرات (نفطية)، في تطبيع قادته قوى اليسار بجانب قوى اليمين، وحين فشل راح تكالب دولي يشن عدوانه على اليمن، كان لأنصار الله الدور الأول والرئيسي لمقاومته وتوحيد الصفوف الوطنية عليه.
وطبقاً لدراسات عدة مفكرين يساريين ووطنيين وقوميين، عن أسباب صمود حركات المقاومة القديمة والناشئة، وجدت أن من أهم الأسباب، هو اتضاح الرؤية حول القضية الوطنية التحررية والعدو الذي تواجهه، وترتيب الأولويات النضالية في سياق هذه القضية، وتفعيل الغالبية الدينية في مشروع ثوري وطني عروبي تحرري. وهذا ما تجسده الآن حركة أنصار الله في مواقفها الثورية من قوى الهيمنة والاستعمار، وفي مشروعها الوطني التحرري.
بحسب ما يقدم علم الاجتماع الثوري، لا جدل أن هذه الحركات المقاومة الوليدة على امتداد الرقعة العربية، ورثت تاريخ المقاومة الأسبق منها ونضالها الوطني، وتمخضت عنه في ولادة جديدة لأشكال جديدة حوت فيها الأشكال القديمة، في عملية تحويل و(نفي) (ديالكتيكي) ـ حد التعبير العلمي لليسار ـ حوى الأشكال القديمة، واكتسب خصائص المتغيرات الجديدة (الموضوعية) و(الذاتية) في الواقع الاجتماعي، وتقديم شكل وطني جديد حامل للمشروع الوطني بأدوات جديدة وفكر وقيم جديدة وخطاب حديث منسجم مع الواقع الاجتماعي وتراثه الشعبي، أفضى بهذه المجتمعات إلى انتقال ثوري (صيرورة) تاريخي وطور أعلى من البناء الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية والنضال والوطني نحو التحرر والاستقلال.
ومن الجدير بالذكر، أن حركات شيوعية واشتراكية حول العالم أبرزها في أمريكا اللاتينية، لا تزال صامدة ومقاومة حتى اللحظة، وفي حال نهوض متواصل، لأنها وعت واقعها الديني، واستطاعت بناء فكر مقاوم امتزج بين الاشتراكية العلمية والدين الثوري والتراث الشعبي المقاوم، امتداداً من بوليفار إلى كاسترو إلى تشافيز فنزويلا.
هذه هي حكمة التاريخ والصراع، في أن يصير اليسار أشد يمينية من اليمين، إذ للتاريخ قوانينه وحركته، والتي مكنت من نشوء حركات واتجاهات فكرية وسياسية خارجة عن فكر اليسار ونظرياته، أرقت أعداءنا وأرعبتهم، تمسك دفة المبادرة، مرتبطة بواقعها وبقضيتها، واعية به وبمتغيراته وأولوياته النضالية، وممتلكة له، من صلبه قدمت، بفكرها وثقافتها ومعاناتها ونظرياتها، فالواقع صانع الفكر ومحركه، والنظرية وأهلها، والثورة وقادتها وحاملها الاجتماعي والوطني.