الجمهورية الأولى.. في مهب الريح
- تم النشر بواسطة صحيفة لا / طلال سفيان

من طرابلس 1972 إلى الكويت 2016
الجمهورية الأولى.. في مهب الريح
مرت اليمن بكل الظروف الصعبة، سواء في الماضي القريب أو البعيد، وسواء في عهد الإمامة أو في عهد الاستعمار البريطاني، أو في ظل التدخلات والاعتداءات الخارجية، مع اختلاف الظروف والأسباب، ولو نظرنا في مسيرة النضال الوحدوي باليمن، لوجدنا أنه أخذ يتعاظم ويزداد تلاحماً منذ أن بدأت مؤامرة الاستعمار تستهدف وحدة اليمنيين وسلب حريتهم واستقلالهم الوطني.
منذ وقت طويل عرفت اليمن قيام وضعين مختلفين على الأرض اليمنية الواحدة، وازداد النشاط البريطاني-العثماني من أجل تكريس تجزئة اليمن بعد توقيع ما عرف باتفاقية تحديد مناطق النفوذ العثماني البريطاني في اليمن، عام 1904، ثم التصديق عليها عام 1914, وبعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، حصل الشمال على استقلاله الوطني عن الأتراك عام 1918، الأمر الذي أدى إلى اشتداد النضال الوطني في الجنوب ضد الاستعمار البريطاني وأعوانه في المنطقة، من أجل تحقيق الوحدة اليمنية أرضاً وشعباً، لكن حكم الإمام يحيى جاء مخيباً لآمال الشعب، فقد قام الإمام بتوقيع اتفاقية صنعاء مع الحكومة البريطانية، اعترف فيها ضمناً بالوجود البريطاني في عدن، من خلال الموافقة على بقاء الوضع القائم بالنسبة إلى الحدود كما هو عليه، وكانت تلك الاتفاقية هي البداية الحقيقية في العمل الجاد لطلائع الشعب اليمني بتصديها لسياسة الإمام التي فرضت حالة من الجمود والعزل على الشطر الشمالي.. وفي الوقت نفسه كان نضال اليمنيين في عدن مرتبطاً بنضال إخوانهم في الشمال، وقد توافق هذا مع ممارسات قمعية حادة قامت بها قوات الاحتلال البريطاني ضد هذه الحركة الشعبية، حماية لمصالحها، ومحافظة على وجود الأمراء والسلاطين، وحين أطلت مرحلة الخمسينيات وتفجرت معها ثورة يوليو/ تموز في مصر عام 1952، بقيادة جمال عبد الناصر، تأثر بها رواد الفكر والتنوير والثورة في اليمن.
وهكذا انتقل المناضلون في الشمال بأفكارهم الجديدة إلى طور أعلى، فأخذوا يناقشون كثيراً من الأفكار والتصورات الجديدة، ولم يعد هدف الإصلاح داخل النظام قائماً كما كان، أي البحث عن إمام آخر يحل محل الإمام الحاكم، بل نوقشت للمرة الأولى طروحات قيام نظام جمهوري ديمقراطي عادل، بدلاً من نظام الإمامة، وتحقيق الوحدة اليمنية على طريق الوحدة العربية.
وفي عدن ارتفعت الأصوات المطالبة بالوحدة اليمنية والنضال على أساس استراتيجية يمنية تؤدي إلى الاستقلال والقضاء على التخلف في اليمن عامة.
وبعد سلسلة من المحاولات النضالية، قامت ثورة 26 سبتمبر 1962، بقيادة تنظيم الضباط الأحرار، وأنقذت اليمن من الحكم الإمامي الذي حكم عليها بالعزلة قروناً طويلة.
وقد شكلت ثورة سبتمبر أهم منعطف في تاريخ اليمن، وأول إنجاز حقيقي نحو توحيد الوطن المجزأ، وبناء الدولة اليمنية الواحدة على كامل ترابه، فقد كانت هذه الثورة وحدوية في آفاقها وأهدافها، وجسدت الترابط الحقيقي بين جماهير الشعب اليمني في الشمال والجنوب، وكان العمال والفلاحون الذين توافدوا من كل أنحاء الوطن، نواة جيشها وحملة علمها، وانطلاقاً من ذلك جعلت الثورة هدف قيام الوحدة اليمنية في مقدمة مبادئها، وبانتصار ثورة أكتوبر 1963 في الجنوب، اعتبرت مسألة قيام اليمن الموحد قابلة للإنجاز أكثر من أي وقت مضى، لا سيما أن الميثاق الوطني -وهو الدليل النظري للجبهة القومية أثناء مرحلة الكفاح المسلح- وضع هدف تحقيق الوحدة اليمنية في مطلع الأهداف التي لابد من إنجازها، واستمر التأكيد على أهمية الوحدة اليمنية في كل الوثائق النظرية منذ الاستقلال في اليمن بشطريها الشمالي والجنوبي.

ملامح على الطريق
ظل اسم اليمن موحداً رغم تنوع أسماء الدول والدويلات، وهو الاسم الذي شطره ـ لأول مرة -الإنجليز والأتراك في اتفاقية الحدود بينهم عام 1914م، وحاولوا صياغة شخصية خاصة لجزء من اليمن تباين الأخرى، لذلك لا غرابة في أن يبدو هذا التشطير القصير العمر نسبياً، نشازاً في تاريخ اليمن، وهذا الوضع النشاز هو الذي حافظ على مشاعر اليمنيين تجاه الوحدة كمخزون وطني ضاغط على الحكام الذين لم يستطيعوا تجاوزه، وإن أوهموا أنفسهم بأنهم قادرون، ولذلك كانت الانتكاسة النفسية كبيرة لدى اليمنيين، وهم يرون أن الأجنبي الآخر الذي شارك في التشطير يجبر على الرحيل ولا تتم الوحدة بعد رحيله.
لم تتم الوحدة بعد جلاء الإنجليز بفعل تشابك وتعقد الاتجاهات السياسية وهيمنة الأيديولوجيا على طبيعة أنظمة الحكم العالمي آنذاك، والمؤثرة على مصائر البلدان الصغيرة والضعيفة، وأخذ الشطران تحت تأثير الأيديولوجيات السياسية والوضع العالمي القائم، يبتعدان سياسياً عن بعضهما، فيما أفئدة الجماهير اليمنية في كل اليمن تلتهب شوقاً لإعادة توحيد اليمن، ولم يكتفِ الشطران بالابتعاد عن بعضهما، لكنهما خاضا حربين داميتين في العامين 72 و1979م، وظلت أشواق اليمانيين نحو الوحدة تعبر عن نفسها بأشكال شتى، وفي كل اتفاقية عقب كل حرب أو أزمة في العلاقة بين الشطرين، إلى أن تحققت الآمال بإعلان الوحدة اليمنية وقيام الجمهورية اليمنية، في 22 مايو 1990م.
إن أولى الخطوات العملية في سبيل إعادة تحقيق الوحدة اليمنية، هي التوقيع على اتفاقية القاهرة في 28 أكتوبر 1972، من أجل تسوية الخلافات بين شطري اليمن، بعد حدوث أول اشتباكات بين قواتهما، فقد اتفقت الحكومتان على قيام دولة موحدة تجمع شطري اليمن شماله وجنوبه, وقد وقع الاتفاقية عن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية علي ناصر محمد رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، وعن الجمهورية العربية اليمنية محسن العيني رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية. . وتبعها بيان طرابلس في 28 نوفمبر 1972م، الذي بموجبه تم تشكيل اللجان الفنية المشتركة التي تعد لقيام الوحدة، وقد وقع بيان طرابلس كل من القاضي عبد الرحمن الإرياني عن الجمهورية العربية اليمنية، وسالم ربيع علي عن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
وتضمن بيان طرابلس الأسس التالية:
1- يقيم الشعب العربي في اليمن دولة واحدة تسمى الجمهورية اليمنية.
2- للجمهورية اليمنية علم واحد ذو الألوان الثلاثة الأحمر فالأبيض فالأسود.
3- مدينة صنعاء عاصمة الجمهورية اليمنية.
4- الإسلام دين الدولة، وتؤكد الجمهورية اليمنية على القيم الروحية وتتخذ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع.
5- اللغة العربية هي اللغة الرسمية للجمهورية اليمنية.
6- تهدف الدولة إلى تحقيق الاشتراكية مستلهمة الطراز الإسلامي العربي وقيمه الإنسانية وظروف المجتمع اليمني بتطبيق العدالة الاجتماعية التي تحظر أي شكل من أشكال الاستغلال.. وتعمل الدولة عن طريق إقامة علاقات اشتراكية في المجتمع، على تحقيق كفاية في الإنتاج وعدالة في التوزيع بهدف تذويب الفوارق سلمياً بين الطبقات.
7- الملكية العامة للشعب أساس تطوير المجتمع وتنمية وتحقيق كفاية الإنتاج، والملكية الخاصة غير المستغلة مصونة ولا تنزع إلا وفقاً للقانون وبتعويض عادل.
8- نظام الحكم في الجمهورية اليمنية وطني ديمقراطي.
9- ينشأ تنظيم سياسي موحد يضم جميع فئات الشعب المنتجة صاحبة المصلحة في الثورة، للعمل ضد التخلف ومخلفات العهدين الإمامي والاستعماري وضد الاستعمار القديم والجديد والصهيونية.. وتشكل لجنة مشتركة لوضع النظام الأساسي للتنظيم السياسي ولوائحه ومناقشته من قبل فئات الشعب.
10- يعين دستور الجمهورية اليمنية حدودها. . وفي الـ15 من فبراير 1977, عقد لقاء قعطبة بين الرئيسين الشهيدين إبراهيم الحمدي وسالم ربيع، وتم فيه الاتفاق على تشكيل مجلس يتكون من الرئيسين، ومسؤولي الدفاع والاقتصاد والتجارة والتخطيط والخارجية، يجتمع مرة كل ستة أشهر بالتناوب في كل من صنعاء وعدن، لبحث ومتابعة القضايا التي تهم الشعب اليمني، وسير أعمال اللجان المشتركة في مختلف المجالات، وتشكيل لجنة فرعية من الاقتصاد والتخطيط والتجارة في الشطرين، مهمتها دراسة ومتابعة المشاريع الإنمائية والاقتصادية في الشطرين، ورفع التقارير عنها إلى الرئيسين، مع الاقتراحات بشأنها.. كما تم الاتفاق على أن يمثل أحد الشطرين الشطر الآخر في البلدان التي لا توجد له فيها سفارات.. لتتوقف بعدها اللقاءات نتيجة توتر الأجواء بين الشطرين إثر الاغتيالات التي طالت الحمدي وسالمين ومن ثم الغشمي, ليتم بعدها بعامين انعقاد قمة في الكويت بين علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية العربية اليمنية (سابقاً)، وعبد الفتاح إسماعيل أمين عام اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي ورئيس هيئة رئاسة مجلس الشعب الأعلى في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (سابقاً)، بعد اشتباكات بين الأطراف حينذاك، مما أدى إلى وساطة الجامعة العربية التي عقد مجلسها جلسة طارئة في الكويت في الفترة (4-6) مارس 1979، وأوصى بعقد قمة لرئيسي الشطرين. وقد صدر في ختام القمة بيان وقعه الطرفان، نص على أن تقوم اللجنة الدستورية بإعداد مشروع دستور دولة الوحدة خلال فترة أربعة أشهر، ثم تقر الصيغة النهائية له من قبل الرئاسة في الشطرين، فيتم الاستفتاء على الدستور وانتخاب سلطة تشريعية موحدة للدولة الجديدة. وكان هذا البيان بداية للعمل الجاد نحو إنجاز الخطوات المؤدية إلى تحقيق الوحدة، وقد استمر بعده عقد اللقاءات بين المسؤولين في الشطرين على مختلف المستويات، كما استمرت أعمال اللجان المشتركة.
وفي 2 ديسمبر 1981 تم تشكيل المجلس اليمني الأعلى من الرئيسين علي عبدالله صالح، وعلي ناصر محمد، لمتابعة سير تنفيذ اتفاقيات الوحدة بين شطري الوطن، وللإشراف على لجان الوحدة، حتى جاءت أحداث الـ13 من يناير 1986 في عدن، وخروج الرئيس علي ناصر محمد من الشطر الجنوبي، ومعه عدد كبير من قيادات الحزب ورجال الدولة. في ما بعد تم استئناف الحوار الوحدوي مع الجناح المنتصر في قيادة الحزب الاشتراكي، الذي استلم السلطة في عدن، وجاء انعقاد قمة تعز في 16 أبريل 1988م، بين الجانبين، حيث تم التأكيد في الاتفاق الذي تم خلال القمة على الالتزام الكامل والتنفيذ بما سبق أن توصل إليه الشطران في العمل الوحدوي قبل أحداث يناير 1986، في كافة المجالات، وعلى أهمية تنشيط أعمال الهيئات واللجان الوحدوية القائمة بينهما، وفي نفس الوقت تم تكليف سكرتارية المجلس اليمني الأعلى بإعداد برنامج زمني لإحالة مشروع دستور الوحدة إلى مجلسي الشورى والشعب في الشطرين، ومن ثم الاستفتاء عليه، كما نصت على ذلك اتفاقية القاهرة وبيان طرابلس. ومن أهم ما اتفق عليه التأكيد على أهمية قيام مشروعات استثمارية مشتركة للثروات الطبيعية.. وقد بدأت الخطوات العملية المبشرة بإعادة تحقيق الوحدة في 4 مايو 1988, عندما تم عقد اتفاق بشأن تسهيل حركة تنقل المواطنين بين الشطرين، وكان ذلك بمثابة إذابة الجليد النفسي، وتفتيت التراكمات والحواجز الشطرية، وتم أيضاً الاتفاق على الاستثمار النفطي المشترك بين محافظتي مأرب وشبوة، وقد تم فعلاً إلغاء النقاط العسكرية التي كانت متمركزة على الأطراف والممرات بين الشطرين، وبدأ تنقل المواطنين بالبطاقة الشخصية من تاريخ 1 يوليو 1988، حيث ألغيت كل الإجراءات المعيقة لحرية التنقل في عموم الوطن اليمني، وكان ذلك إسهاماً فعالاً وخطوة واثقة على طريق إعادة تحقيق الوحدة، من خلال إزالة التعبئة النفسية والإعلامية الخاطئة لدى أبناء الوطن الواحد في الشطرين.
وتوجت الجهود الوحدوية في اتفاق عدن التاريخي يوم 30 نوفمبر 1989، بين قيادتي شطري اليمن، حيث تم فيه الإعلان عن اتفاقية وحدوية جديدة تضمنت تأسيس دولة يمنية واحدة على أساس مشروع دستور الوحدة الذي تم إنجازه عام 1981.
التئام واقتحام
لا يختلف اثنان في أن إعادة تحقيق الوحدة بين ما كان يسمى شطري اليمن، في 22 مايو 1990، هي من أهم المنجزات والمكاسب الوطنية التي توجت النضالات والتضحيات الكبيرة التي قدمها أبناء الشعب اليمني على مر العصور، فلقد مرت اليمن بظروف صعبة وشاقة، وهي تسعى لإنجاز هذا الهدف العظيم، والتأكيد على ضرورة إعادة تحقيق الوحدة وإنهاء التشطير الذي كان مصدراً للنزاعات والصراعات بين الشطرين، وسبباً لإهدار الإمكانيات، ومعوقاً للتنمية والبناء، وظل يعمل على إزالة العوائق والمصاعب التي تقف حجر عثرة في طريق إعادة تحقيقها.
إن ما حدث يوم 22 مايو 1990، هو الإعلان عن تأسيس جديد لوحدة بين يمنين سياسيين تفصل بينهما قرون من التشظي، وليس إعادة تحقيق وحدة يمن سياسي واحد، انشطر في لحظة زمنية منظورة إلى شطرين أحدهما أصل متبوع والآخر فرع تابع.. و(الإعلان عن التأسيس) هو لحظة التدشين في عملية التوحيد التي تحتاج بالضرورة إلى وقت، وإلى رعاية وتفاهم وتوافق من كل الأطراف.. أما (إعادة التحقيق) فهو تعبير مخادع يوحي بأن ما حدث في 22 مايو 1990، هو لحظة التتويج في عملية توحيدية بدأت في وقت ما، وانتهت في هذا اليوم.
الوحدة لم تكن بين حزبين ولا بين سلطتين؛ وإنما كانت بين دولتين لصالح دولة ثالثة بحقائق عسكرية وأمنية وسياسية وإدارية مختلفة، لا هي حقائق دولة الشمال، ولا هي حقائق دولة الجنوب.. وهذه الدولة الثالثة ذات نظام سياسي ديمقراطي يتضمن إدانة صريحة للنظامين السياسيين السابقين، ويعطيها وحدها دون أي من الدولتين السابقتين، حق التمدد وممارسة السيادة على كامل جغرافية اليمن الحضاري الثقافي الواحد.. ومن غير هذه الدولة الثالثة ذات الحقائق المختلفة والنظام السياسي الديمقراطي المغاير، تكون الوحدة باطلةً وغير مؤهلةٍ للبقاء والاستمرار.

نيران صيف 94
لم تمر الدولة الموحدة منذ ولادتها الأولى بمراحل هادئة, بل على العكس, فقد كانت طرقها مليئة بالكثير من المنعطفات (أزمات سياسية واغتيالات طالت العديد من الكوادر الحزبية والعسكرية، وبالذات الجنوبية, وأدى مطافها إلى اشتعال نيران صيف 1994 الحارق), فقد استثمر التحالف (العسكري القبلي الديني) الذي أشعل حرب 1994, الوحدة كحالة عاطفية شعبوية لتدميرها كمشروع سياسي وطني نخبوي.. فبدلاً من تجييش عاطفة الوحدة لدى الجماهير لصالح بناء (الدولة الثالثة)، جرى تجييشها لصالح حرب 1994... وبالحرب تحولت عاطفة الوحدة إلى دماء وجراح أشاعت الكراهية، ونقلت براميل التشطير من الجغرافيا إلى النفوس.. فبعد أن أثمرت حوارات القوى السياسية بتوقيع ما سمي وثيقة العهد والاتفاق، في 21 فبراير 1994م، في عمان بالأردن، تفادياً لإراقة الدماء اليمنية، انفجر بعدها الوضع في 27 أبريل 1994، عسكرياً في منطقة عمران، وأشعلوا نار الحرب ابتداء من يوم 4 مايو 1994م، لتستمر 64 يوماً، وانتهت في 7 يوليو 1994.
لم يندلع الصراع المسلح في اليمن دفعة واحدة، وإنما ظلت درجة التصعيد، تتزايد بمعدلات متسارعة. وبدأت عملية التصعيد، تأخذ شكلاً شديد الخطورة.
ففي يوم الـ21 من مايو 1994، شهد الصراع بين شطري اليمن، تحولاً نوعياً، بالغ الأهمية، مع إعلان علي سالم البيض، إقامة دولة اليمن الديموقراطية في الجنوب. كما ترافق هذا الإعلان، مع قيام البيض، بنقل مقر القيادة إلى حضرموت، في شرق البلاد، فيما استهدف إقامة خط دفاعي جديد، علاوة على أن حضرموت كانت تمثل قاعدة ملائمة لإقامة حكومة انفصالية جديدة عن الجمهورية اليمنية.. وأمام هذا المنعطف الخطير، ظهرت الكثير من المواقف الوطنية الشجاعة لبعض الساسة والبرلمانيين، ومعهم الأصوات الرافضة لإشعال أرض اليمن بنيران الفتن، والتي تجلت بالموقف المبدئي لسيد المظلومين الشهيد حسين بدر الدين الحوثي، منذ بداية الأزمة في العام 1993, وعبر عنها وقتها تحت قبة البرلمان، عبر مواقف رافضة للحرب, وبشكل واضح لا لبس فيه, مع أن الأجواء وقتها كانت مشحونة جداً في صنعاء، والرأي العام مجيش ضد من يعارض الحرب, بل إنه كان يُتَّهم بالخيانة للوطن وللوحدة, لكن السيد لم يعر كل ذلك اهتماماً, بل إن الأمور وصلت الى أن قامت السلطة وقتها بقصف منزل علي مانع شافعة (المتعاطف مع الحزب الاشتراكي) في منطقة همدان، بالأسلحة الثقيلة، أثناء تواجد السيد حسين بدر الدين الحوثي هناك, واتهمت السلطة السيد وشافعة بأنهما يدعمان الحزب الاشتراكي والجنوبيين, وفي الوقت الذي صفق فيه الغالبية لقرار الحرب, كان صوت السيد حسين مع أصوات أعضاء الحزب الاشتراكي في البرلمان، والقلائل من عقلاء هذا الوطن، يقفون صفاً واحداً ضد الصوت الداعي للحرب.. ومنذ اشتعال عود الثقاب الأول على مساحة اليمن, ظل الطرف المنتصر في حرب 94 يستخدم عاطفة الوحدة لشرعنة نهب واستباحة الجنوب، الأمر الذي دمر هذه العاطفة عند أغلب سكان المحافظات الجنوبية، وأشاع الخوف عليها عند سكان محافظات الشمال.. وبهذا انقسم اليمنيون جغرافياً بين كاره للوحدة جنوباً وخائف عليها شمالاً.. ومع أن سبب الكراهية والخوف في الحالتين واحد، وهو حرب 1994 التي دمرت الوحدة كمشروع سياسي وطني، إلا أن نخباً في الجهتين تتهرب من الاعتراف بهذه الحقيقة.. فالتي في الجنوب تعمق الكراهية، وتعطيها بعداً جهوياً صريحاً.. والتي في الشمال توسع مساحة الخوف، وتحرضه بشعارات وطنية ودينية للتستر على جهويتها وعصبويتها الضيقة.. الأولى تستشهد بنتائج الحرب لشرعنة فك الارتباط، وتستعدي الكارهين ضد الخائفين.. والثانية تتمسك بالضم والإلحاق تحت شعار الوحدة لشرعنة ما تقدر على شرعنته من نتائج الحرب، وتستعدي الخائفين ضد الكارهين.. والحقيقة متوارية في المسافة الواقعة بين هذين القطبين، مع أنه يجب علينا التمييز بين الفعل وردة الفعل، وبين الجلاد والضحية.
الحراك والأقلمة - مؤامرة هادي
كثيراً ما عانت اليمن من انقسامات تاريخية ودينية وقبلية وجهوية وجغرافية، ونادراً ما ترسخت في داخلها الاعتبارات الوحدوية، ولعل هذه الخصوصية المجتمعية قد ألقت بظلالها على الأحداث الأخيرة التي مرت بها اليمن، والتي تزامنت مع أربعة أنواع من التحديات الجسام، التحدي الأول يبرز في حروب صعدة الست, والثاني في الحراك الجنوبي الذي تطرف في مطالبه الى حد القول بأن الانفصال عن الشمال وعودة الوضع الى ما كان عليه قبل الوحدة، هو الحل الوحيد لأزمة الجنوب واليمن ككل، بعد أن توفر لهذا الحراك عامل الضغط المضاد, والثالث مشروع تقسيم اليمن إلى ستة أقاليم من قبل أصحاب مشروع تمزيق اليمن ونسف نسيجه الاجتماعي, والرابع المتمثل بالعدوان العسكري على اليمن من قبل دول البترو/ دولار وأمريكا وإسرائيل وبريطانيا.. فمع مطلع العام 2007, أسس الحراك الجنوبي, ليؤطر ويجمع عدداً من الحركات والقوى والشخصيات المطالبة بالانفصال.. وقد رفع الحراك في بداية أمره شعارات مناوئة للنظام الحاكم، وداعية لإصلاح مسار الوحدة، لكنه لم يلبث أن تطور من حركة احتجاجية ضد التهميش والإقصاء الذي يعانيه الجنوبيون بشكل أكبر من الشماليين، إلى حركة تمرد مدنية متعاظمة ليس فقط ضد حكم علي عبد الله صالح، وإنما أيضاً ضد استمرار الوحدة بين شطري اليمن.
بدأ التذمر من الأوضاع التي لحقت بالجنوب والجنوبيين، بعد الحرب، نتيجة للسياسات الإقصائية والتهميش الذي تعرضوا له، منها فصل عشرات الآلاف من الجنوبيين من السلكين المدني والعسكري من وظائفهم (حوالي 70 ألف شخص)، إضافة إلى عمليات نهب تتم خصوصاً للأراضي في الجنوب، حيث إن مساحته تمثل حوالي 65% من أراضي اليمن، لكن عدد سكانه يقدر بحوالي 25-30% فقط، وعدم حصول على عوائد للسكان المحليين، خصوصاً من النفط الذي يُستخرج أغلبه (حوالي 80%) من الجنوب، في حضرموت وشبوة خصوصاً, بالإضافة لتفشي الفقر والبطالة والفساد باليمن بصفة عامة، بدأت بصورة كبيرة بالمظاهرة الحاشدة في ذكرى سقوط عدن في 7/7/2007، في مدينة عدن، ومنذ ذاك الحين والمظاهرات لا تتوقف في الجنوب، وهو ما اصطلح على تسميته الحراك السلمي الجنوبي، لإجماع منظمي المظاهرات على عدم استخدام القوة، واللجوء للمظاهرات والاعتصامات السلمية فقط.
بدأ الحراك بمطالبات للحصول على العودة إلى الاتفاقيات المبرمة ما قبل حرب عام 1994، أو حتى دعوات لعودة الجنوب اليمني منفصلاً عن شمال اليمن. هذه الحركة التي بدأها أعضاء مفصولون من الجيش اليمني الجنوبي السابق، التحق بها العديد من الجنوبيين بعد ذلك، تطالب بعودة الدولة المستقلة للجنوب أو قيام إصلاحات لجوهر دولة الوحدة..
ولكن ما لبثت أن تجاوزت مطالب الحراك عودة من فقدوا وظائفهم بسبب الحرب، إلى الدعوة إلى ما يسمى (حق تقرير المصير)، والمطالبة بانفصال الجنوب عن الشمال والعودة باليمن إلى دولتين كما كانت قبل قيام الوحدة اليمنية عام 1990. ورغم أن المظالم الاجتماعية والسياسية تشمل جميع المحافظات، إلا أن البعض يرى أن الجنوب يتعرض يومياً لانتهاكات منظمة طالت أملاك الناس وبيوتهم وسياراتهم وحقولهم التي يجري نهبها بقوة السلاح على يد موالين للسلطة من أبناء الجنوب والشمال على السواء.. ومن الحراك إلى ثورة الـ11 من فبراير 2011، إلى توقيع المبادرة الخليجية في نوفمبر 2011, وتسلم عبد ربه هادي سلطة انتقالية في ظل مؤتمر حوار وطني كان الأحرى به أن يفضي إلى ردم هوة مشاكل ومظلومية الكثير من القضايا الوطنية كالقضيتين (الجنوبية وصعدة)، وإنجاز مشروع الدولة, سار الحوار بمنعرج آخر، وهو مشروع تقسيم وتمزيق اليمن وفق رغبة خارجية، إلى ستة أقاليم جرى تقسيمها وفق رؤية مذهبية وطائفية وأغنياء وفقراء ومحرومين من البحر والهواء، في ظل أوضاع يلفها الانقسام السياسي والتشظي المجتمعي والفراغ الأمني.
عاصفة الجيران
تأتي الوحدة اليمنية اليوم في ظل حرب عدوانية هي الأكثر خسة ونذالة وتجريفاً للوعي وللحقائق، في محاولة لإكراه شعب اليمن على أن يذعن لمزاعم أرادت اختزاله ودولته ووحدته في قائمة من العملاء النزلاء في فنادق الرياض.. فمع الذكرى الـ26 للجمهورية الأولى, يتعرض الشعب اليمني لأكبر عملية تخريب استهدفت اليمن، الحياة والإنسان والدولة والوحدة والثورة، في واحدة من أكثر الحروب العدوانية الانتقامية خسة ونذالة ووحشية، وفي أكبر عملية تجريف للوعي والمشاعر والحقائق والمفاهيم، لإكراه الشعب اليمني على الإذعان لأغرب إرجاف في التاريخ اتخذت من مزعوم الشرعية مشروعاً لتدمير الدولة وتهديد الوحدة، واختزلت الشعب اليمني والإرادة الشعبية في قائمة نزلاء فنادق الرياض من عملائهم اليمنيين، وصار في عرفهم الاحتلال تحريراً، والعمالة مقاومة، والارتزاق وطنية، والدفاع عن الوطن تمرداً، وانقلاباً.. لقد مثلت الوحدة دائماً وأبداً قضية اليمن الأولى، ومعضلتها الكبرى، وعبر التاريخ كان حلم اليمن الكبرى يشكل عاطفة وجدانية محفورة في ضمير كل اليمنيين في شماله وجنوبه وشرقه وغربه، وكانت القوى السياسية والوطنية تستمد شرعيتها من تبنيها لمشروع الوحدة، ونضالها من أجل تحقيقها، ومرت مسيرة النضال الوطني لتحقيق هذا المطلب الشعبي، بمراحل من الشد والجذب، إلى أن توجت بتوقيع اتفاقية الوحدة في الـ22 من مايو المجيد.
لكن، وفي ذات الوقت، وفي حين تؤكد الكثير من الحقائق التاريخية مدى صعوبة وألم فك الارتباط بين الأرض والمجتمع ذي الأصل الواحد, فإنه لابد من إدراك حجم التعقيدات التي تحيط بقضية الوحدة اليمنية، والمضاعفات السياسية والنفسية والاجتماعية في انحرافها عن مسارها، وصار من نافل القول أن النظام السياسي لدولة الوحدة آنذاك فشل في تحويل مشروع الوحدة من حالة شعبية عاطفية ووطنية، إلى مشروع سياسي، يتجسد في دولة تتجاوز النظامين السابقين إلى نظام سياسي ديمقراطي يعبر عن الكيان الحضاري والجغرافي في كل شبر من أرض اليمن، بعيداً عن مفاهيم الضم والإلحاق والغلبة، أو تحميل الوحدة مسؤولية الفشل.
فكما كانت فكرة فك الوحدة أو حمايتها بالحرب خطأً، فإن تحميل الوحدة مسؤولية أزمة اليمن وأزمة الجنوب خطأٌ لا يقل عن الخطأ الأول، فأزمة الوحدة اليمنية تأتي في سياق الأزمة اليمنية الشاملة، ولذلك حلها ليس بالانتقام من الوحدة، ولا تحميلها كل الأوزار والأزمات، حلها يجب أن يكون في إطار الأزمة اليمنية الشاملة، وإصلاح مسار الوحدة من خلال حوار وطني جاد ومسؤول، وبمشاركة جنوبية حقيقية تتجاوز سياسة التمثيل الجنوبي غير الناضج.
كما لابد أن ندرك أن القضية الملحة والعاجلة تستدعي من الجميع اليقظة العالية، والتحلي بالمسؤولية الوطنية، وهي التنبه لمساعي ومخططات الأعداء التي تستهدف وحدة اليمن، وتحركاتهم المشبوهة التي تهدف إلى إثارة النزاعات وزعزعة الاستقرار، وهو الأمر الذي لاح عبر أفق قاتم في عمليات الترحيل القسري لمواطنين يمنيين من مدينة عدن، والتي تعيد إلى الأذهان عمليات مشابهة من التطهير والتصفيات القائمة على أسس جهوية وجغرافية ومناطقية وطائفية.
وهو ما تتحمله أفعال تحالف العدوان السعودي الأمريكي، وما له من تداعيات تستهدف وحدة الكيان اليمني السياسية، واستنهاض كل التناقضات الاجتماعية لخلق شروخ وجدانية واجتماعية يصعب ترميمها.
لم تكن القوى المشاركة في العدوان السعودي الأمريكي جمعيات خيرية، ولا تملك فائضاً من المقاتلين المتطوعين نذروا أنفسهم لخدمة المستضعفين في الأرض. هذه القوى العدوانية جاءت لخدمة مصالحها فحسب، لا يهمها بعدها أن تتمزق اليمن إلى مقاطعات طائفية وسلطنات مشائخية، ولا يهمها أن يبقى الجنوب منطقة مفتوحة للقاعدة وداعش بغير أفق زمني لتبرير التواجد الأجنبي في بره وبحره وجوه، وهو ما نشاهده اليوم من تغاضٍ ودعم لسيطرة هذه الجماعات على مناطق واسعة، وعمليات المد والجزر مع الأمريكيين، حيث تنكمش وتتمدد هذه الجماعات حيثما أشارت الأصابع الأمريكية التي جاءت بعدتها وعتادها لتسيطر على أماكن استراتيجية في اليمن، لخنق اليمن واحتلالها، وفي سبيل مصالحهم لا يهمهم أن تبقى القضية الجنوبية قضية مفتوحة من غير أفق كأداة قابلة للتوظيف، والتحريك في أي وقت لابتزاز اليمن وإنهاكها واستنزاف مواردها. ولو كانت هذه القوى حريصة على حل القضية الجنوبية، لكان ظهر هذا الحرص في مؤتمر الحوار الوطني عندما كانت تتآمر لاستبعاد أي ممثلين معتبرين للقضية الجنوبية، فمطامع الأعداء ليست من الغموض بحيث تخفى على أي أحد، فالإمارات تخشى من تأهيل ميناء عدن على وضع ميناء دبي، وكذلك الأمر بالنسبة لنوايا السعودية في إقامة مشروع مدينة النور لنقل النفط الخليجي بشق قناة من الخليج العربي مروراً بحضرموت إلى البحر العربي، وكذلك جعل اليمن ساحة للفوضى لتصبح بيئة حاضنة لآلاف من عناصر القاعدة وداعش الذين قد يدفعهم أي استقرار أمني واقتصادي في اليمن للعودة إلى أصلهم ومنبعهم ومربيهم في السعودية، كنماذج بسيطة لأهداف هذه القوى التي لا تعود على اليمن إلا بالخراب والدمار.
إن الوحدة اليمنية اليوم بحاجة أكثر من أي وقت مضى، إلى تقييم التجربة بعد أكثر من ربع قرن من تحقيقها، وتشخيص العلل والأمراض التي أنهكتها، وأياً كانت المعالجات التي تحتاج إليها لتتعافى وتستمر، فإن ما يجب أن يؤخذ في الحسبان هو أن تتم هذه المعالجات بين اليمنيين فقط، في حوار يمني يمني، بعيداً عن تدخلات المعتدين وأطماع الغزاة المحتلين.
المصدر صحيفة لا / طلال سفيان