العائدون من أقبية الموت
- تم النشر بواسطة صحيفة لا / صلاح علي - عمر الزريقي

من عذابات الأسرى والمختطفين في سجون مقاولة التحالف
العائدون من أقبية الموت
عادوا إلى أسرهم بعد أكثر من عام قضوها تحت التعذيب بداخل معتقلات تابعة للمقاولة في مدينة تعز. الأسرى وصفوا هذه المعتقلات التي قبعوا فيها بأنها أسوأ من حظائر الحيوانات ومعتقل غوانتانامو. قبل أسبوع وصل عدد من الأسرى إلى العاصمة، وعلى أجسادهم النحيلة جروح عميقة ما تزال ظاهرة علامتها إثر التعذيب الوحشي، الذي مارسته جماعات وعصابات متطرفة تابعة لحمود المخلافي، قالوا إنها استخدمت شتى أنواع الوسائل الوحشية والقذرة أثناء تعذيبهم. عادوا وذاكرتهم مثقلة بتفاصيل وقصص مؤلمة للضمير الإنساني.. 118 أسيراً تم إطلاقهم بعد مفاوضات استمرت فترة طويلة، أفضت إلى الإفراج عنهم. عمل إنساني جميل لمست مذاقه عدد من الأسر وأمهات الأسرى اللاتي كن يترقبن بقلوب حزينة عودة أبنائهن مجدداً.
لقد تحقق تبادل الأسرى برغم تلاعب وأكاذيب وتملص المقاولة وعدم جديتها في إنجاح هذا التبادل، الذي كان بين اللجان الشعبية والجيش اليمني من جهة، وفصائل المليشيات المتطرفة في تعز، والتي أبدت بعض فصائلها بعد عملية التبادل امتعاضها، بل وانكسارها من هذه العملية، وشعورها بخيبة أمل من نجاحها، وهو ما يكشف حقدهم الدفين. ولكن السؤال المطروح لمن حاول أن يتذوق خبر نجاح تبادل الأسرى بطعم الحنظل: ماذا لو كان ابنك أحد هؤلاء الأسرى؟
صحيفة (لا) التقت عدداً من الأسرى في العاصمة صنعاء، وسردوا قصص تعذيب مؤلمة عاشوها خلال فترة أسرهم في تعز.
عز الدين القليسي، أحد الأسرى الذين أفرج عنهم، يتحدث للصحيفة كيف عاش الأيام الأولى من أسره في مدينة تعز، على يد ميليشيات حمود المخلافي. قال إنه بعد أن تم أسره في منطقة جبل صبر، نقل مع العديد من الأسرى إلى وسط المدينة، وتركوا داخل مدرسة (باكثير) لمدة ستة أشهر. وأضاف أنه في الأيام الأولى كان يجر للتحقيق، ويضرب بأعقاب البنادق، ويعاد لزنزانته في أحد الفصول لينام على البلاط مع زملائه بلا أفرشة أو أغطية. وتابع أنهم كانوا يطالبون المشرفين التابعين للمقاولة بتوفير فرش ولو حتى كراتين. لكنهم كانوا يرفضون، ويردون عليهم بالسب والشتائم، وأحياناً بالضرب. . وأكد القليسي أنه في أول شهر من الأسر كان المشرفون عليهم يقومون بضربهم وتعذيبهم بشكل يومي بالأسلاك والعصي. وبعد انقضاء الشهر الأول من أسرهم استمروا بتعذيبهم بين الفينة والأخرى.
أما الحديث عن الشتائم فقال: استمر مشرفو المقاولة بتهديدنا بالقتل عبر سلاحهم الشخصي كالمعدلات التي يدخلون بها إلى العنبر ليضعوها على رؤوسنا، بالذات عندما يطلب أي أسير منا أي شيء كالماء وغيره... بالإضافة إلى ذلك، فإن الشتائم والسب والإهانات والتجريح والإذلال كانوا يطلقونها بشكل يومي. ويسبون أمهاتنا وعارنا، ويتهموننا أننا أبناء المتعة ومجوس وروافض.. وقد استمروا على هذا الحال حتى تم الإفراج عنا. . وتطرق القليسي إلى أن أغلب الأسرى في العنبر معه، أصيبوا بمرض حمى الضنك، وكان هو أحد المصابين. مشيراً إلى أنه عندما أبلغوا المشرفين عليهم في المعتقل بإصابتهم بالضنك، قال إنهم لم يفعلوا أي شيء حيال ذلك، رغم أن بعض الأسرى المصابين أغمي عليهم، ودخلوا في غيبوبة عدة مرات، وإن دعوهم لإسعافهم يرفضون، فيبقى الأسرى جوار من يغمى عليه حتى يفيق.
ويحكي الذاري، وهو أسير آخر كان مصاباً بحمى الضنك، وقد تفاقمت حالته، وبعد أن شاهد الموت قاموا بإسعافه إلى أحد المستشفيات في المدينة، وأعطوه (حبات فوار) و(شريط حبوب) فقط، ثم أعادوه مرة أخرى إلى السجن. ويذكر قصة أحد الأسرى، وهو عسكري كان معهم بالعنبر، قال إنه أصيب بحمى الضنك، ودخل بغيبوبة طويلة، وتم نقله إلى الدور الثاني، حيث يوجد أسرى آخرون من أنصار الله وأسرى من المقاولة ومجانين، وبعد أن نقل ذلك اليوم لم يعلموا عنه أي شيء، وربما إنه مات والله أعلم، حسب قوله. . واستدرك الذاري بقوله إن المقاولة أسرته من أحد شوارع تعز، وهو عسكري من أبناء محافظة المحويت. وأكد أنه ليس من أنصار الله، وإنما قدم الى مدينة تعز ليستلم راتبه فقط، وتم أسره بتهمة أنه حوثي جاء تعز للقتال.
أما عبد المجيد الذاري فيسرد إحدى قصص التعذيب الوحشية التي شاهدها هو وزملاؤه الأسرى داخل معتقلهم، والتي نفذها عناصر من المقاولة بحق جريح وكسير تم أسره وهو جريح، ويدعى علي راجح قطران، وكانت قدماه مكسورتين، ويتألم بشدة، وبدلاً من أن يقوموا بإسعافه، قاموا بتعذيبه بقفزهم على مكان الكسور في ساقيه. وكان الأسرى يسمعون صراخه من شدة الألم، ولم يكتفوا بالقفز على كسوره، بل كانوا يضربونه بأرجل الطاولات الحديدية في مكان الكسور. وأشار إلى أنهم عذبوه بشكل بشع ومؤلم، من أجل إرغامه على أن (يباعي) كما (تباعي الأغنام والكباش)، حد تعبيره، واستمروا في تعذيبه لمدة شهر حتى حضور إحدى المنظمات الإنسانية، حينها توقفوا عن ذلك التعذيب.
ويواصل حديثه بقصة أخرى مماثلة حدثت خلال فترة أسرهم بمدرسة باكثير في تعز، وهي جريمة تعذيب بحق طفل عمره لا يتجاوز الـ14 عاماً، ويدعى صلاح العياني، وهو أسير من أبناء صعدة. قال إن أفراداً تابعين لحمود المخلافي استمروا في تعذيبه أثناء التحقيق، وضربه بسلك على ظهره أكثر من شهر. قال إنه من شدة التعذيب والضرب على ظهره: إن السلك (حنب) في ظهر صلاح. ضربوه بوحشية، ويسألونه أين السيد حقك يا...؟ وهو يرد أنه في السماء، ويستمرون في ضربه حتى الإغماء.
قصص وحشية بحق الأسرى في مدينة تعز وفي أماكن عدة، بعض الأسرى توفوا من شدة التعذيب، وآخرون أصبحوا معاقين عن الحركة ومصابين بحالات نفسية.
اليوم الذي يتذكره الأسرى بحزن وألم شديدين
ذكرى أخرى يتذكرها الأسرى بدقة، ولم تبرح ذاكرتهم. إنه يوم عيد الأضحى المبارك من العام الماضي، لم ينسوا التعذيب والشتائم والتهديدات، لكنهم تركوا لهذا اليوم حيزاً كبيراً في ذاكرتهم، وشرحوا تفاصيله بألم. قالوا إن عصابات تابعة للمخلافي زاروا المعتقل يوم عيد الأضحى، ومعهم اثنان من (الأثوار) وقناة (يمن شباب) التابعة لحزب الإصلاح، على أساس أنهم سيذبحون (الأثوار) وسيقدمونها للأسرى في مدرسة باكثير، وقد حدث ذلك فقط للتصوير. جميع الأسرى في ذلك اليوم ملأتهم الفرحة بهذه المبادرة، وكانوا على انتظار موعد الغداء. لكنها كانت أكذوبة بعد أن انتظر جميع الأسرى غداءهم حتى وقت العصر. وفي الأخير أدخلت لهم عصابات المخلافي غداءهم اليومي، وهو ستة أكياس طبيخ وستة أكياس رز لـ26 أسيراً، وإعطاء كل أسير رغيف خبز واحداً فقط. الأسرى قالوا لـ(لا) إنهم في ذلك اليوم لم يشبعوا، وظلوا جوعى، مما دعا بعضهم إلى أكل الخبز المتبقي في النافذة منذ أيام طويلة، والتهموه مع الماء رغم أنه يابس.
أسير آخر يدعى محمد، قارن بين معاملة الأسرى الذين لدى عناصر المقاولة، ومعاملة أسرى المقاولة الذين هم بحوزة أنصار الله، وقال: إن جميع أسرى المقاولة، وبشكل عام، مرتاحون شابعون مخزنون، ويوفر لهم كل شيء حتى على مستوى الناموسية. أما نحن فقد عشنا كل أيام الأسر ونحن نتمنى أن نأكل وجبة واحدة لا بأس بها، ونتمنى أن نشرب ماء غير مالح، ونظيفاً، ونلبس ثياباً نظيفة، وندخل حماماً نظيفاً فيه ماء، لكن للأسف كانوا يعاملوننا كالحيوانات وأبشع من ذلك.

وتطرق محمد لموضوع آخر، وقال إن المشرفين على معتقلهم كانوا يقومون بالتواصل مع أُسرهم من أجل أن ترسل لهم حوالات مالية، وعندما ترسل المبالغ يقوم شخص من المقاولة باستلامها وأخذ نصف المبلغ له. وأشار إلى أنهم عندما يعطونهم فلوساً كي يشتروا لهم (بسكويت) بألف ريال، يشترون بالألف الريال باكتين بسكويت فقط، ويأخذون الباقي لهم.
وعن الوجبات اليومية تحدث بقوله إن الوجبات التي كانت تقدم للأسرى في تعز يعطى كل أسير في الصباح ثلاثة أقراص روتي، ووقت الظهر زوجين من الخبز، وفي وقت العشاء يعطى كل أسير ثلاثة روتي. وقال: كنا نأكلها مع ماء مالح من حق المطر.
وتطرق عز الدين بقوله إن المسؤول عليهم أثناء الأسر كان يتواصل مع أهالي الأسرى من أجل أن يرسلوا له فلوساً بذريعة أن الماء في تعز غالٍ وقيمة الوايت الماء بـ20 ألف ريال. قال: وقد كان أنصار الله يرسلون له مليون ريال شهرياً لكي يوفروا لنا الماء، ويحسنوا معاملتنا. ويوضح أن الوضع تغير شيئاً بسيطاً، وأن المسؤول عليهم كان يصرف مبلغاً بسيطاً من المليون الريال لهم، والباقي يصرفها هو. . بعد أن قضى الأسرى أكثر من ستة أشهر في مدرسة باكثير، ذاقوا فيها كل ويلات العذاب والموت المحقق، يقول عز الدين: نقلونا من المدرسة الى عمارة تقع في جولة الكهرباء تقاطع عصيفرة مع الروضة، جمعوا فيها 26 أسيراً عند شيخ مشرف عليهم، ويدعى نبيل الكدهي.
وأشار إلى أن نقل الأسرى الى هذه العمارة التي كانت تقع على خط المواجهة، هو من أجل استخدامهم كدروع بشرية، وكان على سطح العمارة عدد من القناصة، وجوارها دبابة تابعة لعصابات المقاولة. العمارة في خط الاشتباكات، لكن أنصار الله والجيش كانوا ـ حسب ما قاله عز الدين ـ يعرفون أننا متواجدون داخل العمارة، لهذا لم يردوا على إطلاق النار من العمارة التي كنا فيها. والغرض الآخر لنقلنا كان من أجل حماية الشيخ نبيل نفسه، لأن العمارة كانت مقراً وموقعاً له. وأضاف: عندما كنا داخل العمارة أحضروا الى جوارنا في العنبر حوالي 17 مجنوناً، كانوا مجانين بكل معاني الجنون. وقد أتعبونا كثيراً لأنهم كانوا يتبرزون في المكان الذي ننام فيه، ونشاهدهم بعض الأوقات يأكلون من مخلفاتهم. بالإضافة الى ذلك، كانوا يقذفون بالقمامة والأحجار الى وسط مرحاض الحمام، ويتسببون في انسداده، ونحن نقوم بإخراجها عدة مرات. منوهاً الى تعاطفهم مع المجانين الذين كانوا يقطنون معهم بنفس العنبر، وقيامهم بتنظيف أماكنهم وترتيب بقعهم التي ينامون فيها. وأكد أن مشرفي المقاولة تعمدوا إحضار المجانين الى العنبر بهدف إخراج الأسرى.
ويتذكر القليسي أن هذه المعاناة في عنبرهم الأخير داخل العمارة، عاشوها في المعتقل السابق داخل مدرسة باكثير، عندما كان ينسد مرحاض الحمام بشكل مستمر، لتعود كل هذه القذارة الى وسط العنبر الذي ينامون فيه. وأرجع حدوث هذه المشكلة إلى انعدام الماء. وأوضح أن المشرفين عليهم كانوا يحضرون لهم الماء كل خمسة أيام، ولا يكفيهم.
ومن ضمن المعاناة التي تحدث عنها، معاناة الأسرى من (القمل) الذي كان منتشراً داخل عنبر الأسرى بكثافة، وقد سبب لهم هذا القمل (الجرب الليلي)، وهو مرض يخلس الجلد، حسب قوله. وشبه مكان اعتقالهم السابق ـ يقصد مدرسة باكثير ـ بأنه يشبه معتقل (غوانتانامو)، حيث قال إنهم يسمعون فيه ضرب وتعذيب وصياح الأسرى في كل وقت.
في صبيحة الـ14 من أغسطس 2015م، حوصر عدد من مقاتلينا في قرية (الجحف) من قبل مرتزقة العدوان الذين قدموا في المواجهة نساءهم وأطفالهم كدروع بشرية، ما اضطر المقاتلين إلى وقف المواجهة. قرابة 6 أشخاص، بسلاحهم الشخصي كانوا آخر المتبقين من أمنيات القرية المشؤومة. جاء إليهم وسيط من أبناء القرية، عرض عليهم الاستسلام ووقف المواجهة من أجل سلامة المدنيين، مقابل خروجهم الآمن من المكان. قبل مقاتلينا العرض، لكنهم سريعاً ما تفاجأوا بأن الأمر محض خدعة، حيث حوصروا، ثم اقتيدوا إلى غرف التعذيب، وليسوا وحدهم، بل مع العشرات من المدنيين. هنا تبدأ الرحلة المأساوية.
بحسب إفادات الأسرى المحررين، فقد تم اقتيادهم أولاً إلى قرية (ذي عنقب) المجاورة لقرية (الجحف)، وإلى مجمع السعيد الدراسي التابع لحدنان، ثم جمعوا في مدرسة الشهيد عون بقرية (الميهال) معقل المرتزق (محمد عبد الله المحمودي)، شيخ القرية، ورئيس ما يسمى (المجلس العسكري لمقاومة صبر). وبعد مرور قرابة 18 يوماً نقلوا إلى مدرسة باكثير بمدينة تعز، التي مكثوا فيها نحو 6 أشهر، ثم نقلوا مجدداً إلى مبنى سكني في جبهة نارية بمنطقة عصيفرة.
الأسير عبد الرحمن علي عبد القوي الرميمة (21 عاماً)، كشفت ملامح وتعابير وجهه وهو يسرد تفاصيل عذابه، أكثر مما نطقت به لسانه، وكأنه يقول: كدنا نندمج مع جدران المكان، كدنا نتلاشى في تفاصيل القسوة التي عاقرت أجسادنا.
منذ الوهلة الأولى، اقتيد عبد الرحمن وزملاؤه على طول الطريق إلى (الميهال)، تحت سطوة أعقاب البنادق، والأيدي التي كانت منهالة عليهم بالضرب المبرح والصفعات المتتالية على الوجه والعنق، بأشد حالات اللؤم والكراهية.
قام المرتزقة بتفتيشهم، ووجدوا في جيوب بعضهم مصاحف للقرآن، قاموا بأخذها ورميها، وقالوا لهم: (لماذا تحملون القرآن؟ أأنتم مسلمون؟!).
في قرية الميهال، كانت يدا عبد الرحمن معقودتين إلى الخلف، وقدماه مقيدتين. ثبت وجهه على الأرض رجل ضخم يلبس زياً عسكرياً، وأخذ ببيادته العسكرية يدوس عليه، ثم باشره بالركل مرة تلو الأخرى، تكسر أنفه وفكه، وتهشم وجهه إلى درجة أن زملاءه لم يتمكنوا من تمييز صورته الأصلية، وما زالت آثار تلك الجروح تشي بذلك.
في التحقيق، جلب عبد الرحمن وهو معصوب العينين - برغم عدم مقدرته على الرؤية بتلك الحالة- إلى غرفة التحقيق، اتهمه المحقق، بعدة أشياء. يقول عبد الرحمن: (لم يكن بمقدوري إلا أن أستجيب لما يكمن في رأس المحقق، وإلا فإن الرد سيكون قاسياً)، وهو الأمر الذي حدث مع عبد الرحمن. فعندما حاول عدم استجابته لما يردد المحقق، أحس بقرصات شديدة الإيلام على ظهره، فأدرك حينها أنهم يستخدمون كماشة على جلد الظهر، كما يقوم باستخدام القلم بوخز الأيدي بقوة، وإطفاء أعقاب السجائر على جسده، وبعد عناء التحقيق وما يتخلله من ضرب وإهانات وشتائم مقذعة، وافق عبد الرحمن على ما يختلقه المحقق في مخيلته المهووسة، حد وصف الأسير.
كان فهد علي أحمد سعيد، وهو بعمر 32 عاماً، مؤذناً في قريته، حين اعتقل، قال له السجان هل تريد أن تكون أطول عنقاً في النار بين الكفار؟ السجان كان مغتاظاً من ترديده (حي على الفلاح)، أو حين يأتي الله على لسانه، ويقوم بضربه.
يوضح فهد بمرارة: (أكثر ما حز في قلبي، رؤيتي لبعض من الأصدقاء الذين تمتد صداقتي بهم ما يقارب 20 عاماً، وتلاشت بين ليلة وضحاها، وانقلبوا عليها، حينما كنت أشاهدهم يأتون للمدرسة التي فيها المعتقلون والأسرى، ويشمتون بهم، أو يشاركون أحياناً بعملية التعذيب لنا). واعتبر ذلك أسوأ أنواع العذاب النفسي.
كان المقرر لكل فرد من الغذاء، 4 قضمات من الخبز في كل وجبة لا أكثر، في أحسن الأحوال، والدماء والألم على أفواههم. إذ كان المرتزقة يقدمون الماء في علب معدنية يقومون بتسنين فوهتها حتى تصبح شبيهة بالمنشار، ولأن المعذبين مقيدة أيديهم وأرجلهم، يقوم أحد المرتزقة بتقديم الماء لهم، وحين تلتصق الشفاه العطشى والمرتعشة، بالفوهة، يقوم المرتزق بسحب العلبة متسبباً بجروح بليغة.
أما بالنسبة للشيخ المسن عبد القوي عبد الوراث الرميمة، ذي الـ70 عاماً، فقد اعتقله المرتزقة بعد إطلاق وابل من الرصاص على المنزل، واقتادوه حتى قرية (ذي عنقب)، المنطقة التي اعتدى عليه مجموعة كبيرة من المرتزقة والدواعش المتواجدين فيها بأبشع الطرق، منهالين عليه بالضرب في كل أنحاء جسده بأعقاب البنادق والأدوات الحادة، ومنها (السواطير). وبحسبما أفاد الشيخ فقد أغمي عليه ساعتها، ولم يفق إلا عصر ذلك اليوم، وهو على سرير وفي يده قربة محلول مائي.. لقد ملأت الكدمات والرضوض جسده بالكامل، تهشم وجهه هو الآخر، وكان مليئاً بالبقع السوداء والتورمات (تخثر الدم تحت الجلد)، ولم تشفع له تجاعيد جبهته وملامح وجهه القارسة. قال إنه لم يكن يستطع النوم على جانبيه بسبب ضراوة الألم الذي أثخن جسده.
بعد 18 يوماً من العذاب في قرية الميهال، نقل الأسرى والمعتقلون إلى مدرسة باكثير في مدينة تعز. استقبلهم مسؤول التحقيقات المدعو عيسى الكامل، وآخر يدعى عمار، بأساليب وحشية أعادوا التحقيق مع كل واحد منهم، باستخدام السكاكين والكماشات والضرب بالعصي والسواطير والأسلاك، ودفع متواصلة من الشتائم والإهانات المقذعة.
كل من لا يقبل التهم الموجهة إليه أو الإفادة ضد أشخاص ليس لهم علاقة بأي نشاط عسكري أو سياسي، يتم إرساله إلى مكان يدعوه المرتزقة بـ(الضغاطة)، وهي غرفة لا يتجاوز عرضها مترين وطولها 4 أمتار، مليئة بالكتب والكآبة. ليس فيها فتحة للتهوية، ولا مجال للنور أن ينفذ بين تلك الحيطان المظلمة. قال المسن عبد القوي النهاري، إنه وضع فيها لمدة تتراوح بين 5 و6 أيام، وقد رمي إلى جانبه شخصان لم يكن بهما قدرة على الحراك من هول العذاب والألم اللذين لقياهما.
أما عبد الرحمن، فقد ظل فيها قرابة 3 أيام، دون أن يتناول شيئاً أو يرى بصيص نور، كان يشعر بالوحدة القاتلة تنخر جسده، خاصة وأن المكان مكتوم تماماً وحار.
المعتقل محمد أحمد عبد الرحمن (23 عاماً)، ذكر في شهادته، أنه فور وصولهم لمدرسة باكثير بتعز، فصل المرتزقة أربعة معتقلين، وهم عبد الرحمن، ونشوان، والفندم حمزة، والشيخ عبد القوي، عن بقية المعتقلين من (بيت الرميمة) الذين تم وضعهم في مجموعة لوحدهم، بينما بقية المعتقلين من همدان وإب ومحافظات أخرى، تم عزلهم في مكان آخر.
نشوان، كان مصاباً بطلق ناري في قدمه، لم تتم مداواته، بل كان يتم تعذيبه عبره، وهو مقيد، بإدخال أصابعهم في موضع الطلقة، حتى إنهم استخدموا حديداً لذلك، تماماً كما في المشاهد السادية المصورة بالأفلام السينمائية.
محمد، كان يسمع صراخ نشوان بعد أن أخذوه من جانبهم، موضحاً أنها كانت تلك المرة الأخيرة التي يراه فيها، وجسده مليء بالحروق الناجمة عن إطفاء أعقاب السجائر عليه. يسمع بحرقة صرخات المعذبين وأناتهم الزاخرة بأقدس عبارات المظلومية، فيما محمد والآخرون تكتظ حلوقهم بغصة لا تزول.
يعتبر محمد أن هذا كان بمثابة عذاب نفسي شديد، علاوة على التهديدات بالسواطير والسكاكين، والتهديد الكلامي، والحرمان من النوم، ومنع التحدث في ما بين الأسرى.
وأضاف أن الأمنيات المتناوبة على حراسات، كانت تتناوب على ضربهم من قبيل التسلية، بين الفينة والأخرى، وفي إحدى الليالي العجاف، وتحت وطأة الضرب، أصيب محمد بالتهاب حاد بالأمعاء نتيجة إصابته بالبرد، إذ كانوا ينامون على البلاط الذي يصبح شديد البرودة ليلاً. وقال إنه حين قدموا إليه بعلاج لم يثق به ويتناوله، لأنه كان خارج شريطه الأصلي، واكتفى بمحلول مائي (مغذية). ولا يزال متعجباً كيف نجا حتى الآن. إنه مزيج الكراهية والإصرار والحزن، بلا شك.
ويحكي وليد عبده عبد العزيز (22 عاماً)، أن المرتزقة قيدوا يديه وقدميه، بينما قام أحدهم بتنفيذ حركة عسكرية بقدميه حتى ارتطم رأسه أرضاً، وتحديداً على أذنه اليمنى التي أصيبت بالصمم. بينما قاموا بعد ذلك بسحبه من يده اليمنى بعنف حتى خُلعت كتفه.
ويتابع: لقد كنا في كثير من المرات نعجز لأيام عن قضاء حاجتنا، لأننا مقيدون من أيدينا وأرجلنا، ولا يسمح لنا بالحراك.
في تلك المدرسة، كانت إحدى الغرف تجمع أكثر من 28 سجيناً، مليئة بالمجانين، ومتسخة تماماً، إذ لا مكان لقضاء الحاجة.. قال لنا المحررون، إن الماء الذي كان يقدم لهم، ملوث، وتسبب بالمرض للكثيرين.
في ظل تلك الأوضاع المزرية، وبجانب عدم تعرضهم للشمس مطلقاً، أصيب السجناء بمرض (الجرب)، وانتشر بينهم سريعاً، لكن، وبالمقابل، لم يقم السجانون بأية خطوة مضادة، بل تركوهم هناك، يقاسون ويلات المرض الخبيث. وكان المرتزقة يقولون لهم إن ذلك عذاب من الله، ولاحقاً – بعد عدة أشهر – أصبح على كل سجين أن يدفع 500 ريال مقابل أن يخرج برهة من الزمن للتعرض للشمس.
يقول المسن عبد القوي، إنه أصيب بالمرض أولاً، وبعد فترة أصيب بالتهابات حادة بالدم، وكاد يلقى الموت، لولا قدوم أحد المشرفين من المرتزقة، ورأى حالته الموشكة على الهلاك، قام بإطلاق أعيرة نارية على الباب لإخراجه بسبب أن المرتزقة رفضوا إعطاءه مفتاح البوابة.
ويضيف أنه في أحد الأيام، وهم في أشد المعاناة من المرض (الجرب)، أتت امرأة، عرفوا لاحقاً من أقاربهم أنها من الصليب الأحمر، التي أبلغوها، ظلت تقوم بمتابعتهم في المعتقل، وتأتي لهم بالعلاجات والمساعدات الطبية، وكانت باستمرار تتشاجر مع المرتزقة حولهم لإخراجهم إلى الشمس ومساعدتهم.
بعد حوالي ستة أشهر، نقلوا من المدرسة (باكثير) التي كان يشرف عليها يشخص يدعى (الدهمي)، إلى مبنى تم اقتحامه في منطقة عصيفرة، وهو مطل على مواقع الجيش واللجان الشعبية، وقد تم استخدامهم كدروع بشرية أمام قوات الجيش واللجان، كيلا تضرب على مواقع المرتزقة.
نشوان عبد الرحمن الرميمة، أنس علي عبد الله الرميمة، عبد الله أحمد عبد العزيز الرميمة، علي عبد الله الرميمة ، لا يزال مصيرهم مجهولاً حتى ساعة كتابة التقرير، بعد أن اقتادهم السجانون من جوار زملائهم إلى أماكن مجهولة.
المصدر صحيفة لا / صلاح علي - عمر الزريقي