تدخل (العروس) برجلها اليسرى وترمي غصن (الشذاب) من خلف رأسها إلى بركةِ الشذروان..!
حمامات صنعاء.. الفردوس الساخن

عادة عريقة ورائعة لا زالت صامدة في وجه الزمن، مقاومة لكلِّ مستجدٍّ في عالمِ البخار وحماماتِ (الساونا) المعاصرة، حيث تعد حمامات البخار الطبيعية لدى قاطني صنعاء القديمة وما يحيط بها من أماكن قريبة، من الأشياء الضرورية والملحة، حتى السياح الأجانب كانوا يقصدونها من جميع أنحاء العالم قبل العدوان الغاشم والحصار الجائر المفروض على بلادنا لأكثر من عامٍ ونيف..، حيث لا تكتمل زيارة صنعاء القديمة إلا بزيارة حماماتها للاستجمام، والاسترخاء فيها، والملاحظ أن معظم زبائن حمامات البخار يأتونها للتخلص من بعضِ الأمراضِ المزمنة، كآلام الظهر، والروماتيزم، وغيرها... والبعض الآخر بغرض الاسترخاء..
حتى تجهيز (العروس) لا بد أن يُخصص لها يوم يسمى (يوم الحمام)، تأتي فيه برفقةِ عائلتها وصديقاتها، وتُستقبل بزفةٍ جميلة حتى تبدأ طقوس الاستحمام.
ولهذه الحمامات من يديرها على مدى عشراتِ السنين، وباتت عادة متوارثة لدى أجيالٍ متعاقبة، ويطلق على من يقوم بخدمة الرجال (الحمامي)، و من تخدم النساء (الحمامية)، وتُعلّق جداول الزيارات فيها على مداخل البواباتِ الرئيسية لها بمواعيد أيام تُخصص للرجال، وأخرى للنساء.. 
عن أهميتها، وفوائدها، وطقوسها، كان لصحيفة (لا) هذه الإطلالة، وزيارة أحد حماماتها الشهيرة، والاطلاع عن قرب للتعرف على هُويةِ المكان..

وصف الحمام ووظيفته
مر الحمام بمراحل كثيرة غير مسجلة، حتى استقر على وضعه الحالي والمتوارث منذ بضعة قرون، سواء من حيث الشكل وهندسة البناء ومواده، أو من حيث الهدف والتقاليد التي ارتبطت به، ولا يستبعد أن الحمام كفكرة يمنية، قد استفاد من الحمام (الطبيعي) الذي يُهبط إليه بسلم، فجرى إنشاء كل الحمامات تحت مستوى الأرض، ولا يظهر منها إلا السقف المبني على شكل قباب، بعدد غرفه (التي تسمى خزائن)، لها فتحات صغيرة يتسرب منها الضوء عبر قمريات استبدلت بالزجاج في العصر الحديث، وبهذا يحافظ الحمام المبني أساسه بالحجر الأسود، على حرارته التي يكتسبها من فرنٍ كبير يبنى تحته في المؤخرة، حيث يعلو الفرن الدّست (خزان عظيم)، من النحاس مبني عليه بالآجر (الطوب الأحمر)، يفضي إلى خزانة (المغطس) الذي يكون مصدراً للمياه الساخنة لكل خزائن الحمام، وإلى جواره (حوض عميق) آخر للمياه الباردة... كما ينزل إلى الحمام من مدخله عبر سلم حجري مريح يفضي بعد عبور ممر له باب إلى ردهةِ الحمام، حيث الاستقبال وغرفة الملابس (المخلع)، وبركة (الشذروان)، يتم من خلال الحمام النزول إلى الفرن عبر درجاتٍ تؤدي إلى غرفة مستطيلة تسمى (الملّلة)، هي مخزن الوقود الذي كان إلى عهدٍ قريب في معظمه من الفضلات البشرية التي يتم تجميعها من أسفل مخرجات حمامات منازل المدينة القديمة.
ويضيف المؤرخ والباحث د. حسين عبدالله العمري، في وصف الحمام الوظيفي والمعماري، بقوله: أما بقية خزائن (غرف) الحمام، وفي رأسها (الصدر) الذي يتوسط خزانتين إحداهما (المغطس)، فتكتسب حرارتها من تسرب لهب الفرن تحتها عبر فوهاتٍ خاصة تمتد إلى تحت الأرضية والجدران المصلولة بالحبَش (الحجر الأسود)... إلخ وصفه المطول للحمام الصنعاني.
باتجاه حمام الميدان
الجو رائع جدًا، يغري بالبحثِ والاطلاعِ عن قربٍ لمعرفةِ واكتشاف المكان، ومعاينته على أرضِ الواقع. حملتُ أوراقي معي، واتجهتُ صوب حمامِ الميدان برفقةِ الزميلةِ نجوى يُسر، كونها من سكانِ صنعاء القديمة، وعلى خلفيةٍ بمواعيد زيارات النساء لذلك اليوم، دلفنا بوابة (حمام الميدان) الذي يتوسط ميداناً كبيراً وسط المدينة، استقبلتنا هناك (الحمامية) القائمة على خدمةِ مرتادات الحمام، أوضحت لها زميلتي أنني أريد الجلوس معها لمعرفة الطقوس التي تُمارس في الحمام، لإعداد مادة عن ذلك، وبعد الترحيب بنا استأذنتها لعمل جولة قصيرة في ردهاتِ الحمام، فأذنت لنا..
صراحة انتابني شعور أعادني لزمنِ العصرِ الجميل، هيبة المكان وروعته، وطريقة بنائه وهندسته تُغري بالتوقف والتأمل في سحره الذي يجعل مرتاديه يشعرون بالراحة النفسية والجسدية، حيثُ قرأتُ في المراجع التاريخية أن هذا الحمام قام ببنائه الأتراك إبان الحكم العثماني الأول في اليمن، وأنهم استخدموا في بنائه الطريقة الإسلامية القديمة الموائمة لذلك العصر في بناءِ الحمامات..
دخلنا أنا وزميلتي نجوى إلى حجراتِ الاستحمام التي تبدأ بالأقل حرارة، ثم المتوسطة، ثم الأشد حرارة.. ابتسمت زميلتي وأنا أتراجع إلى الخلف من شدةِ البخارِ المتصاعد، وقلت لها: ورائي تحرير مادة، ولا يمكن الاستسلام لشدةِ الحرارة التي بدأت تصيبني بدوارٍ لذيذٍ قد يخرجني عن الهدف الأساس الذي تجشمنا مغامرة الدخول من أجله.. فعدتُ إلى (الحمامية) الأخت (روان)، حيثُ قالت: تأتي إلى الحمام الكثير من الزائرات على مدى أيام الأسبوع المخصصة للنساء، ويتزايد ذلك في أيام المناسبات والأعياد، والأعراس، والولادة، وغيرها... والبعض يأتين من دون مناسبة، للاسترخاء، والبعض للتخلص من آلام العمود الفقري، وغيرها.. وكذلك الشابات المقبلات على الزواج، وهؤلاء يأتين بطقوس تكون جزءًا من أيام العرس، ويطلق على ذلك (يوم الحمام)، حيثُ تُستقبل بزفةٍ خاصة تقوم بها قريبات العروس وصديقاتها، وكذلك مناسبة الولادة تأتي إلى (الحمام) المرأة قبل أن تدخل إلى (غرفة الولاد)، وهذه عادة متعارف عليها لدى سكان صنعاء القديمة. انتهى كلام الأخت روان.

بخور المُـــر لطرد الأرواح الشريرة...!
 وعن طقوس العروس التي تأتي إلى الحمام، أوضحتها الخالة (حظية) بقولها: عندما تخرج العروس من بيت (والدها) وتذهب للحمام، يأخذون معها (المبخرة)، وتدخل الحمام برجلها اليسرى، ويكون بخور (المُر) معهن، وذلك لطرد الأرواح الشريرة كما يعتقد الجميع في ذلك.
وأضافت الخالة (حظية): أيضاً تتمشقر بـ(الشذاب)، وتلبس عقد المرجان، وعند وصولها للحمام ترمي بغصنِ (الشذاب) إلى حوضِ الشذروان... ثم تدخل خلوة (لحالها) تخصص للعروس، وتكون معها أمها وأخواتها وأفراد عائلتها، وعند خروجها تخرج بزفة صنعانية شجية، وعند خروجها يكسرون بيضة، وتمد برجلها اليمنى، وتعود لمنزل (والدها) لإتمام مراسيم يوم (الحمام).

التطيّر نهى عنه الإسلام
تحدثت أم الفاروق المطري بوجهة نظر قائلة: رغم أن بعض العادات التي تُمارس ككسرِ البيض قبل العروس، والتبخير بالمُر، وشرط دخولها برجل وخروجها بأخرى.. وغيرها من طقوس فيها جانب جمالي ظاهرياً، إلا أن ذلك في حقيقةِ الأمر نهى ديننا عنه كالتطير بشكل عام، وهنا يحتاج الناس إلى مزيدٍ من الوعي أن تلك العادات غير محببة، وبحاجة إلى تكثيف الجهود لإيصال رسائل الوعي لدى الناس، وممارسة الطقوس دون أي جانبٍ فيه من المبالغة غير المبررة.

فوائد صحية 
وللحمامِ فوائد صحية كبيرة جداً، حيثُ أثبتت دراسات طبية قام بها مهتمون، وعملوا مقارنة بين حمامات البخار (القديمة) وحمامات (الساونا) الحديثة، فوجدوا أن الفرق كبير جداً، حيث إن حمامات (الساونا) الحديثة حرارتها المرتفعة تسبب جفافاً، مما يؤثر على الجهاز التنفسي، بينما حمامات البخار القديمة أكثر صحةً للجسم، كذلك فإنها تعمل على تحفيز الدورة الدموية لدرجة أنها تسبب إفرازات عرقية، كما أنها تخلص الجسم من العناصر السامة، بالإضافة إلى معالجتها لمشاكل الشد العضلي، وتخفف من آلام أسفل الظهر والروماتيزم، وغير ذلك من الفوائد الصحية الكثيرة.