خيول تحرير صنعاء.. صهوات للإيجار
- تم النشر بواسطة بشرى الغيلي/ لا ميديا

يجذبني يومياً أثناء مروري وسط ميدان التحرير في العاصمة صنعاء، مشهد يربط كل ملامح الحياة القديمة بالحديثة على اختلاف مجالاتها، والتي تمارس عبر نشاطات ثقافية ومهنية يومية، حيث يستقبل هذا الميدان العتيق كل يوم عدداً كبيراً من المواطنين لتبادل الأحاديث وقضاء نزهتهم فيه، باعتبار هذا الميدان له علاقة تاريخية، وشاهداً على أحداث كثيرة متسلسلة حتى وقتنا الحاضر.
هذا كمشهد عام، لكن المشهد الرئيسي الذي هو محور هذه المادة الصحفية لـ(لا)، له علاقة وطيدة وحميمية وفريدة في ذاكرة الزوار والعابرين بهذا الميدان وهم يلمحون أعداداً قليلة من الخيول المهجنة، كما أكد ذلك أصحابها للصحيفة. لقد ألح زميلي الأستاذ صلاح الدكاك أن أكتب عن هذه الخيول التي التزم أصحابها الحضور بها يومياً إلى الميدان منذ أكثر من 20 عاماً، ولم يتوقف هؤلاء حتى في ظل الحرب والحصار اللذين يعانيهما الوطن.
خيول صامدة في ميدان التحرير
قال أحد مالكي الخيول في الميدان إن أعداد الخيول في الأعوام السابقة كانت أكثر من تلك التي ما زالت موجودة اليوم، فقد بلغت أكثر من 25 خيلاً مهجناً. لكن هذا العدد تضاءل إلى 10 خيول أصر أصحابها على الاستمرار والحضور إلى الميدان كل يوم. وقد تناقصت أعداد الخيول منذ حوالي 4 أعوام، وعدم إحضارها إلى وسط الميدان كما كان في السابق، ليس لأنها ماتت، وإنما فتر العمل الذي كان مزدهراً خلال السنوات السابقة بشكل كبير قبل ثورة الشباب المسروقة مطلع 2011م. لهذا لم يعد أصحابها يفضلون الحضور بها إلى وسط الميدان.
انقطع أصحاب الخيول عن العمل لفترة قاربت السنتين خلال الأحداث، وبعد ذلك عادوا بشكل تدريجي للعمل على الخيول التي يستخدمونها للتصوير.
تمثل الخيول دوراً هاماً في الترفيه، حيث تقضي كثير من الأسر والأطفال أوقاتهم للركوب على ظهورها والتقاط الصور لهم. لقد شاهدت خلال زياراتي الكثيرة أطفالاً تسكنهم البهجة وشعور مكتملة الفرحة أثناء تجول صاحب الخيل بهم والتقاط الصور. شعور مختلف تماماً عن ركوب القارب والسيارة، وعن كل لعبة في الحديقة يشعر به الأطفال.
يعتبر ميدان التحرير أهم مركز في العاصمة صنعاء، ويعد من أكبر وأهم الساحات العامة فيها. ويعد نقطة تقاطع والتقاء اثنتين من المناطق الحضرية هما منطقة القاع ومنطقة صنعاء القديمة. يوجد جواره العديد من المطاعم والمقاهي، وأشهرها مقهى (العدانية)، ومحلات التسوق، كما توجد وسط الميدان نافورة ومكان للشعلة التي توقد في الأعياد الوطنية. ويعتبر هذا الميدان مكان استجمام شعبي لسكان الأحياء المحيطة والبعيدة، بالإضافة إلى ذلك يضم جواره 3 متاحف كبرى، وهي المتحف الحربي والمتحف الوطني ومتحف الموروث الشعبي. وتضم الساحة أيضاً أكشاكاً لبيع الكتب والمطبوعات، ومساحات كمواقف للباصات العامة. يحتشد المواطنون لشراء حاجاتهم من باعة الكتب والدوريات والصحف. يحضر في الميدان أصحاب البسطات لبيع الملابس والمستلزمات اليومية، إلى جانب تواجد الخطاطين وأصحاب الحرف النادرة.
ابتسم أنت في باريس!
أثناء صياغة المادة تذكرت صديقي نائف، وهو عامل كان في الـ14 من عمره، كان يصرف المبلغ الذي يحصل عليه نهاية كل أسبوع من عمله في سبيل أن يلتقط له صوراً وهو راكب على ظهر الحصان في ميدان التحرير. سوف أسرد قصة نائف تأكيداً للحب الجنوني لركوب الخيول، والحيلة التي يستخدمها مالكو الخيول على الأطفال القادمين من الريف لقضاء الإجازة. كان نائف بعد أن يحصل على المبلغ نهاية كل أسبوع، ينطلق مباشرة متجهاً إلى ميدان التحرير، من أجل أن يلتقط لنفسه صورة وهو على ظهر الحصان. وفي كل صورة كان صديقي يبدي حركة معينة، لكنها لا تخلو من النشوة والفرحة. وهذه الحركات فعلها نائف بعد أن شجعه صاحب الخيل. كان يقول له ابتسم أنت في باريس، ونائف يبتسم ويرفع ساعده الأيمن مصدقاً ذلك. لم يدرك نائف هذه الحيلة إلا بعد أن التقط له صاحب الخيل عدداً كبيراً من الصور وفي دول مختلفة، ليدفع مقابلها كل المبلغ الذي في حوزته. ومن ثم يعود نائف حاملاً صوره إلى مسكنه ليعرضها على أصحابه العمال، وجميعهم من القرية، ويقول لهم إن صوره التي التقطها له صاحب الخيل في باريس، مصدقاً ذلك. وبعد أسبوع أرسلها إلى أمه في القرية، وكان يكتب خلف كل صورة الدولة التي التقطت فيها، بينما هي في الحقيقة في ميدان التحرير. أم نائف كانت تفهم هذه الحيلة أكثر من ابنها الذي ما زال مصدقاً نفسه أنه تصور في باريس. وترد بعد مشاهدتها لصور ابنها بعبارة (هذا يحتالوا عليه ويصرف زلطه من أجل الصور). علقت عبارة (ابتسم أنت في باريس) على صديقي نائف حتى الآن، ويطلقها عليه كل من يصادفه من المعروفين، مع ضحكة.
الدخل يتضاءل
كان يحصل أصحاب الخيول في ميدان التحرير، خلال السنوات الماضية، على دخل كبير، وبالذات في المواسم كأيام الأعياد وأيام الإجازات. قال وليد الريمي إن الوضع تدهور منذ بداية الحرب والحصار على اليمن، وقد وصل الوضع أنهم يحاصرون خيولهم وسط ميدان التحرير بسبب شحة الدخل اليومي وقلة الصرفة التي لا تغطي شراء متطلبات حصانه اليومية.
وأضاف الريمي بقوله إن الدخل الذي يحصل عليه يومياً لا يتجاوز 2000 ريال، وأرجع ذلك إلى الوضع الحالي والأزمة التي يمر بها البلد. وأردف قائلاً إن دخله يوم عيد الأضحى المبارك الأخير لم يتعد 20.000 ريال فقط، وقد ربط هذا الدخل بالمبالغ التي كان يحصل عليها خلال السنوات الماضية أيام الأعياد، وقال إنها كانت تصل خلال أيام العيد فقط إلى أكثر من مليون ريال.
وتطرق إلى أن الوضع الذي يمر به البلد قد أثر على البشر والحيوانات. مشيراً إلى أنه في الأعوام السابقة كان يشتري لخيله الزبيب واللوز والشعير، ويهتم به كثيراً. أما الآن حسب ما قاله وليد فإنه لا يستطيع إلا شراء 12 ربطة قضب فقط لخيله في اليوم الواحد. مشيراً إلى أن الخيول بحاجة إلى الرعاية والاهتمام، لكن للأسف (أصبحنا اليوم نعجز عن شراء أعلاف الشعير باعتباره وجبة مهمة للحصان، أما اللوز والزبيب فلم نعد نأكله نحن أنفسنا، وأصبح طعام الخيول اليومي هو القضب والماء فقط). وعزا ذلك إلى شحة الدخل اليومي وقلة العمل فوق الخيل وانقطاع الزوار، ولم يعد الكثير يفضل ركوب الخيول والتقاط الصور.
أما مروان فإنه يمتلك خيلاً يبلغ عمره 9 أعوام، ويعتبر الخيل في هذه السن في خيرة شبابه، حسب معرفة مروان. قبل عام قال إنه اشترى خيله من مزرعة صغيرة في منطقة تهامة، تتم تربية الخيول فيها. واستطرد بقوله إنه اشترى خيله المهجن وهو صغير، وقام بتربيته بنفسه، وبدأ العمل هذا العام وسط ميدان التحرير.
وأوضح مروان أن عمر الخيل يصل إلى الـ40 والـ50 عاماً، وهذا أقصى حد للحياة، ثم يتوفى. وعن أسعار الخيول في اليمن قال إن كل خيل له سعره الخاص، هناك خيل سعره 500 ألف ريال، وآخر بمليون ونصف، وخيل يصل سعره أكثر من مليونين، وكل بحسب نوع الخيل.
وتطرق إلى أن الدخل الذي يجنيه يومياً لا يساوي شيئاً مقابل التعب والانتظار الذي يقضيه مع أصدقائه تحت حرارة الشمس في ميدان التحرير. دخل متفاوت ما بين 1000 و1500 ريال. وأشار إلى أن هذا المبلغ لا يكفي (أن نشبع به الخيل، ولا نشبع به حتى أنفسنا)، وقال إنهم وخيولهم تأقلموا على حسب الدخل البسيط الذي يحصل عليه كل يوم.
وأشار مروان إلى أن هناك خيولاً أخرى يتجول بها أصحابها في الشوارع والحارات، وفي أماكن أخرى مثل حديقة السبعين وحديقة الثورة، يمارسون فيها نفس العمل. وقد انتقلوا بعد أن تراجع العمل في ميدان التحرير. وأكد أنه يفيدهم ويعد أفضل لهم من البقاء في التحرير، لأن الزوار والأطفال لم يعودوا يفضلون المجيء إلى الميدان كما السابق.
المصدر بشرى الغيلي/ لا ميديا