في وجه القرصنة الامبريالية
شعوب حاصرت الحصاروحولت التحديات إلى فرص

يمكن تعريف الحصـار من منظور عسكري على أنه أعمال دورية عسكرية على سواحل البلد المستهدف بالسفن الحربية، والطائرات، والقوات البرية، لمنعه من تلقي السلع التي يحتاج إليها لشن الحرب. ويُمكن أن يكون الحصار بإحاطة مدينة أو حصن بهدف الاستيلاء عليه أو استسلامه. ومن أهم عمليات الحصار وأشهرها عبر التاريخ حصار قرطاج الذي قام به الرومان، وحصار الطائف في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وحصار القسطنطينية وستالينجراد وغيرها. ويُمكن للأقطار التي تملك قوات كافية أن تستخدم الحصار لتمنع من تحاصرهم من الحصول على الأسلحة، والذخيرة، والأطعمة، من الأقطار المحايدة، وهو ما ينطبق تماماً على ما تعيشه بلادنا من حصار لقوى العدوان السعودي الأمريكي.
حرب إبادة
حسناً فعل المجلس السياسي الأعلى بتوجيهه، الأسبوع الماضي، لمجلس القائمين بأعمال الوزراء للعمل على تجميد اتفاقية التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري والفني المبرمة بين الجمهورية اليمنية والمملكة العربية السعودية.
فالبضائع السعودية، وإلى جانبها الإماراتية، تغرق الأسواق اليمنية في الوقت الذي لم تستثنِ طائراتها الحربية أي مصنع في اليمن من صواريخها المدمرة.
وضمن حرب الإبادة والحصار الاقتصادي الشامل شرع العدو السعودي في شن حرب اقتصادية خفية على اليمن، من خلال إغراق الأسواق المحلية بالمنتجات السعودية، وذلك بالتزامن مع استهدافه المستمر للمنشآت الاقتصادية، وقصفه لأكثر من 150 مصنعاً تشكل البنية الأساسية للاقتصاد الوطني الذي تكبد خسائر قدرها مختصون بـ750 مليار دولار.
ويسعى العدوان السعودي إلى سحب العملة الصعبة من اليمن مقابل ضخ منتجاته بغية إحداث أزمة اقتصادية، مستغلاً العلاقات التجارية مع عدد من قيادات حزب الإصلاح الموالين للفار هادي.
كما أن العدوان السعودي يفرض حصاراً خانقاً على اليمن منذ بدء العدوان في مارس من العام الماضي، الأمر الذي أدى إلى زيادة حجم التهريب.
مطلع أكتوبر الفائت، أعلن المركز القانوني للحقوق والتنمية عن سقوط أكثر من 10 آلاف و562 شهيداً من المدنيين، بينهم 2397 طفلاً، و1751 امرأة، في حصيلة أولية فقط لـ560 يوماً من العدوان السعودي الأمريكي على اليمن.
وأوضح المركز، في بيان صادر عنه بعنوان (جرائم العدوان السعودي على اليمن بين التوثيق الحقوقي والصمت الدولي)، أن ما لا يقل عن 18 ألفاً و508 مدنيين أصيبوا جراء العدوان، بينهم 2201 طفل، و1809 نساء، مشيراً إلى أنهم لا زالوا يعانون إلى اليوم من قلة الأدوية والمستلزمات الطبية والعلاج النوعي بسبب الحصار، في ظل صمت مخزٍ لمنظمات الطفولة وحقوق الإنسان.
وشمل تدمير طيران العدوان للبنية التحتية لليمن باستهدافه المباشر للمنشآت الحيوية: 15 مطاراً و17 ميناء, و1155 طريقاً وجسراً, و216 خزان وشبكة مياه، و145 محطة كهرباء ومولداً، و245 شبكة اتصالات.
كما دمر العدوان أكثر من 375 ألفاً و468 منزلاً، و670 مسجداً، و700 مدرسة ومركزاً تعليمياً، فيما توقفت 4500 مدرسة عن التدريس، كما قصف طيران العدوان 261 مستشفى ومرفقاً صحياً، و20 مؤسسة إعلامية، وشرّد أكثر من 4 ملايين نازح.
ودمر العدوان خلال 560 يوماً، معظم الوحدات الإنتاجية: 1519 منشأة حكومية و620 مخزن أغذية و462 ناقلة مواد غذائية، بالإضافة إلى 506 أسواق ومجمعات تجارية و283 محطة وقود سيارات، و214 ناقلة وقود، إلى جانب 238 مصنعاً، و170 مزرعة دواجن، و200 موقع أثري، و191 منشأة سياحية و98 ملعباً ومنشأة رياضية، مما كلف الاقتصاد الوطني خسائر كبيرة، وخلق أزمات اجتماعية تمثلت بالبطالة والفقر.
بات الحصار البحري والجوي الذي يفرضه الائتلاف السعودي، يفاقم الأزمة الإنسانية في اليمن بشكل غير مسبوق، حيث لم تعد غزة لوحدها هي من تعاني من شح الدواء والغذاء، بل أصبحت اليمن أيضاً تعاني منذ بدء العدوان السعودي الذي دخل شهره الـ19. وهو ما يستدعي رفع الحصار غير القانوني المفروض على الشعب اليمني، والذي نتج عنه نقص الغذاء والدواء وانتشار الأمراض والفقر.

عدوان لتجويع الشعب
بعد فشل عدوانها العسكري علی الیمن، تحاول السعودية من خلال ممارسة الحصار الخانق علی الشعب اليمني، أن تجعله يثور بوجه الجيش اليمني واللجنة الثورية، غير أن الشعب اليمني أدرك أن السعودية ودول تحالف العدوان هي من تفرض الحصار على اليمن، خصوصاً بعد أن كثفت من قصفها للموانئ عن طريق بوارجها في البحر، حيث تم استهداف مخازن الأدوية ومحطات الكهرباء، وشبكات الاتصالات ومراكز الإغاثة الإنسانية في أنحاء اليمن، لخلق المزيد من المعاناة لليمنيين. 
وتقوم المملكة البشعة منذ 26 مارس العام الماضي (تاريخ انطلاق عدوانها البربري على اليمن)، بمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى الموانئ والمطارات، خلافاً لنص القانون الدولي الذي يؤكد علی ضرورة إغاثة المدنيين عندما تتعرض بلادهم للحرب، وذلك بهدف تجويع الیمنیین ورفع عدد القتلی بين صفوف المرضی.
ويترك الحصار البحري والجوي الذي تقوده السعودية ما يقارب 30 مليون يمني في انتظار كارثة إنسانية، وأثر الحظر المفروض على الیمن من قبل الولايات المتحدة والتحالف الذي تقوده السعودية بشكل خطير على الأوضاع المعيشية، وبات يهدد بحدوث مجاعة جماعية في الیمن.
 وعلى الرغم من أن الزراعة توفّر سبل العيش إلى ما يقرب من ثلثي اليمنيين، فإن البلاد تعتمد بشكل كبير على الواردات من المواد الغذائية الأساسية، إذ يتم استيراد 90% من المواد الغذائية. ووفقاً لمنظمة الفاو في نهاية مارس 2015م - أي في بداية العدوان السعودي على اليمن - كانت مخازن الحبوب: القمح والذرة والأرز، تحتوي على 860.000 طن، أي ما يكفي لـ3 أو 4 أشهر ليس أكثر، وبسبب همجية الغارات الجوية فقد تعطّلت زراعة الحبوب في الربيع، وانهارت البنية التحتية للخدمات، وعُلقت كذلك البرامج الرسمية، بما في ذلك الإسعافات الأولية.‏
ويواجه أكثر من 11 مليون يمني خطر المجاعة وانعدام الأمن الغذائي، والقسم الباقي من السكان مهدد بسبب الحرب بعدم القدرة على تأمين حاجاتهم الغذائية الأساسية، وبسبب التدمير الهمجي الممنهج لموارد الرزق، كما يعاني 850 ألف طفل من سوء التغذية الحاد. إن أكثر من نصف عدد سكان اليمن، أي 16 مليوناً من أصل 26 مليوناً، في حاجة إلى مساعدات إنسانية، وليس لديهم الإمكانية للحصول على المياه النظيفة. ومن المفارقات أن حوالي 2.5 مليون من منتجي المواد الغذائية عبر الزراعة وتربية المواشي والصيد والعمال الزراعيين، هم من أولئك الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي.‏
وقبل بدء العدوان السعودي, كان الیمن يستورد حوالي ٩٠% من احتياجاته الرئيسية، منها المواد الغذائية، من الخارج، غير أن العدوان السعودي رفع أسعار السلع في الأسواق إلى مستويات جنونية.

إجراءات قاتلة
وحمل المشهد اليمني في زمن العدوان السعودي/الأمريكي, حزمة من الإجراءات القاتلة للشعب اليمني, حيث تم منع تصدير الغاز المسال، وبيع مليون برميل نفط خام متوقفة في ميناء الحديدة منذ بداية العدوان، بالإضافة إلى نهب قيمة 3 ملايين برميل من النفط تم بيعها عبر ميناء الضبة، فضلاً عن منع ترحيل العملة من اليمن، واستهداف الموانئ وتحويل السفن إلى ميناء عدن وحركة التجارة إلى منافذ الجنوب.
بالإضافة إلى فصل مأرب ومواردها وبنكها عن الدولة، والتحكم في الغاز المنزلي بصورة أضرت بالمواطن, ومنع وصول الموارد من المحافظات الجنوبية ووضعها في حسابات جارية يتصرف فيها عملاء العدوان.
ومن المنحنى المالي، اتخذ العدوان وعملاؤه الكثير من الوسائل الإجرامية لتقليص موارد البنك، المتمثلة في منع وصول 300 مليون دولار لدى السعودية مستحقة لليمن للاتصالات، ومبالغ مستحقة لليمن على شركات نفطية، وكذا منع وصول الإيرادات من السفارات والقنصليات، وتدفق المساعدات الخارجية، ومنها الضمان الاجتماعي، بمبلغ 900 مليون دولار.
وعملت قوى العدوان وعملاؤها على محاربة العملة الوطنية وإضعاف سعرها ثم سحبها بعد إعاقة طباعتها، كما عملت على إعاقة الاستيراد ووصول الكثير من المواد الأولية اللازمة للصناعة والزراعة، وكذا استهداف المصانع والمعامل العامة والخاصة والقطاعات الإيرادية، وشن الدعايات الكاذبة عليها بكل الوسائل.

عقاب جماعي
خلال مسيرتها العدوانية المدمرة لكل مقومات الحياة، فرضت السعودية وبتوجيهات من أمريكا عبر الفار عبد ربه منصور هادي وزمرته، مزيداً من الحصار والعقاب الجماعي على معظم أبناء الشعب اليمني، والذي تمثل بنقل البنك المركزي اليمني من العاصمة صنعاء إلى مدينة عدن الخاضعة لسطوة الاحتلال ومرتزقته، بهدف إعاقة وصول الموارد إلى البنك المركزي، استكمالاً للحرب العبثية الظالمة والشاملة التي تشن على اليمن منذ أكثر من 18 شهراً, لتتوقف معها موارد البنك المركزي الذي يعتمد على تصدير النفط والغاز وبعض الصادرات الزراعية والسمكية والمساعدات والقروض وتحويلات المغتربين والموارد المحلية كالضرائب والجمارك والزكاة ونحوها، بسبب العدوان، ولم يتبق سوى تحويلات المغتربين والقليل من الضرائب والجمارك.
ومنذ 26 مارس 2015م, وضعت دول العدوان 3 عقبات أمام الريال اليمني كحزمة لمحاربته ضمن خطط لتدمير الاقتصاد الوطني لاستغلال تحرير أسعار المشتقات النفطية، وتوسيع السوق السوداء، وإغراق السوق بالسلع الخليجية التالفة، ولسحب أكبر قدر ممكن من النقد الأجنبي، والمضاربة بالعملة المحلية.
وشنت دول العدوان حرباً على الريال اليمني من ناحيتين: الأولى المضاربة عليه في المناطق التي يتواجدون فيها من خلال عرض الريال وضخه لدعم عملياتهم الحربية الحاقدة، وتسليمه لمرتزقتهم كمجهود حربي، حيث تقدر مصادر اقتصادية أنهم ضخوا أموالاً تصل إلى 100 مليار ريال في الشهر الواحد، والثاني عبر التضييق على الريال اليمني بمحاربته في القيمة من خلال زيادة الطلب على الدولار حتى يتعرض لخفض القيمة عبر إتلافه وسحبه من سوق التداول المحلي.
وصعد الفار المطلوب للعدالة عبد ربه منصور هادي ورئيس حكومته العميلة أحمد عبيد بن دغر ومحافظ البنك المركزي منصر صالح القعيطي المعين من العميل (هادي)، من حربهم الاقتصادية على اليمنيين بخطوات بالغة الخطوة تصدرتها رسائل وجهها القعيطي وهادي والمخلافي إلى البنوك التجارية، دعوهم فيها إلى وقف أي تعاملات مالية مع البنك المركزي بصنعاء وحصر تعاملاتهم مع البنك المركزي في عدن.
هذه الخطوات التي قام بها رأس حربة العمالة والخيانة (هادي) وفريقه المعين، فشلت كلياً خلال الفترة الماضية بإدارة العملية المالية، وأدت إلى إرباكات مصرفية، وشلت صرف مرتبات نحو 1.2 مليون موظف يعيلون نحو ثلث سكان اليمن.. وذلك في إطار التصعيد الإجرامي والبالغ الخطورة لعملاء النظام السعودي الذي اتجه إلى تصعيد الضغوط التي تمارسها في إطار حربه الاقتصادية على اليمن.

صمود شعبي أسطوري
لم يكن الهدف الرئيسي من الحصار إلا فرض اA275;ختناق اA275;قتصادي واA275;جتماعي على الشعب اليمني، وذلك بحرمانه من وسائله الرئيسية للبقاء.. فقد فاقم العدوان من وسائله القبيحة في محاصرة الشعب اليمني، حتى من المساعدات والإغاثات الإنسانية، فاستمر في تدمير البنية التحتية وضرب الموانئ والمطارات والدفع بمرتزقته للاستيلاء على حقول النفط، منتظراً نضوب مخزون العملة النقدية في البنك المركزي، غير أن صمود الشعب اليمني الأسطوري، فاجأ العدوان من جديد.
لقد فوجئ العدوان السعودي الأمريكي بالصبر الأسطوري الذي تحلى به اليمنيون، ولا يزالون، وهم يواجهون العدوان والحصار وتبعاتهما، وفيما كانوا ينتظرون انهيار العملة وتهاوي الاقتصاد، كانت الهبة الشعبية لدعم البنك المركزي ترتفع وتيرتها، فيما كانت الإدارة الحكيمة للاقتصاد وللبنك المركزي حريصة طوال الوقت على ضمان دفع رواتب الموظفين، رغم تناقص الإيرادات يوماً بعد آخر.
ومع استمرار العدوان على اليمن يستمر العطاء السخي من السعوديين لكل من يشارك بالعدوان إلى جانبهم, فأمراء آل سعود وزعوا المكافآت والسيارات الفخمة لكل طيار يساهم في قصف اليمن وفي حصار شعبه جواً وبحراً, هذا الحصار الذي أدى إلى شل حركة التجارة في الموانئ، حيث أوقفت العديد من الشركات صفقاتها لتزويد اليمن بأطنان من المواد الغذائية، نظراً للحصار الخانق الذي تفرضه البوارج السعودية والأمريكية المتواجدة في مياه البحر الأحمر وبحر العرب.
هنا الوضع كارثي.. علينا أن نتوقف قليلاً ونسأل أنفسنا: لماذا هذا الإصرار والصمت العالمي على جرائم الإبادة والتجويع التي يرتكبها أحفاد محمد بن عبدالوهاب بحق اليمنيين..؟ إذا كانت الحاجة الی البترول السعودي هي ما تغلق أفواه هذه الدول من أن تصرخ بوجه الرياض وواشنطن لتوقفا جرائمهما ضد الیمنيين، فإن الشعوب ليس لديها ما يمنعها من القيام بذلك، وفي حال استمرت بصمتها، فإنها سرعان ما ستخجل من الأرواح التي أزهقتها صواريخ الطائرات والبوارج الحربية السعودية في الیمن.
إن استمرار الحصار الخانق والعقاب الجماعي الذي تفرضه عائلة العصور الوسطى في السعودية على الشعب اليمني، أصبح وصمة عار على جبين المجتمع الدولي.
كل الدول الغربية تبيع الأسلحة إلى السعودية، كما أن عقود الخدمات الضخمة التي تقدمها لإبقاء كل شيء يعمل, كل هذا يجعل الدول الغربية تقوم بتوفير الغطاء اللازم لجرائم السعودية بحق اليمن أرضاً وشعباً في مجلس الأمن الدولي.
بالفعل أصبحت المنظومة الدولية عوناً للمجرمين على الضحايا.. وباتت (القيم الغربية)، خاصة الحرية والديمقراطية، هراء، ولا تعدو عن كونها مجرد شعارات رخيصة تستخدمها الأنظمة الاستعمارية الجديدة للابتزاز.. وبات علينا أن ندرك أن النصر على البغاة المعتدين لن يكون إلا على أيدي أبطال اليمن.. وعلينا ألا نعول على أي نظام في عالم شمال الكرة الأرضية، طالما وأن أنظمتها لا تتورع عن القيام بأي شيء لتحقيق الربح.. فقد تمكن هؤلاء الاستعماريون من الوصول إلى القمة، وسحبوا البقية وراءهم في فعل ما يريدون على المستوى الدولي.

صمود لينينغرادي
وتطفو على السطح قصص عدة عن العدوان والحصار ومواجهة الأنظمة والشعوب لها.. ومن أشهر تلك الأحداث قصة حصار مدينة لينينغراد الروسية (سان بطرسبورغ حالياً)، الذي فرضته الجيوش النازية بقيادة هتلر، إبان الحرب العالمية الثانية.
كانت المدينة مهد الثورة، وأحد أهم المواقع الاقتصادية السوفييتية. بدأت العملية على لينينغراد في 9 سبتمبر 1941، بقيادة قوات من ألمانيا النازية والجيش الفنلندي، واستمرت حتى 18 يناير 1943، بعدما تمكنت القوات السوفييتية من فتح معبر بري إلى المدينة، قبل أن تنجح في فك الحصار بشكل كامل في 27 يناير 1944، أي 872 يوماً، مخلفة حوالي 125 ألف قتيل من جيوش المحور و350 ألف قتيل تقريباً من الجيش الأحمر السوفييتي، معلنة بذلك فشل حملة (بارباروسا) التي كانت في البداية على مشارف موسكو، قبل أن تصبح نقطة تحول في سير معارك الحرب العالمية الثانية، أدت إلى بداية تفوق الجيش السوفيتي، وتدمير الجيش الألماني السادس قبل الزحف نحو برلين.
بقيت لينينغراد 872 يوماً تحت الحصار، وعانى من الحصار مليونان و544 ألف شخص من أهالي المدينة، بمن فيهم 400 ألف طفل، و343 ألف شخص من أهالي ضواحي لينينغراد الذين دافعوا عن المدينة. وكانت احتياطيات الأغذية والوقود كافية لبضعة أشهر فقط.
حاصرت القوات الألمانية المدينة من اليابسة.. لكن بحيرة (لادوغا) كانت الطريق المائي الوحيد الذي ربط المدينة بالبلاد، وأطلق عليه (طريق الحياة) الذي مرت به إمدادات من الأغذية والوقود رغم القصف الألماني المستمر. وكانت البحيرة تتجمد في وقت الشتاء، مما سمح بإجلاء الأطفال والنساء والمرضى والجرحى من المدينة.

نصف قرن من الحصار
ومن قصة صمود لينينغراد إلى قصة حصار أطول امتدت فيه أيدي الأخطبوط الأمريكي على شعب بأكمله لمدة نصف قرن.
إنها قصة كوبا هذا البلد المتفرد الذي تعد براءة الحياة هي العلامة الفارقة في الأمكنة فيه.
كوبا المزيج من الثورة والأيديولوجيا مع النكهة اللاتينية. تلك الجزيرة في الكاريبي عند مدخل خليج المكسيك، ارتبطت بالنضال الثوري والإنساني، وأنتجت رموزاً تاريخية للإنسانية (أرنستو تشي غيفارا) رمز النضال الأممي الذي أعدمته وكالة الاستخبارات الأمريكية في بوليفيا، بعد قيادته ثورة فشلت هناك, ورفيقه الكومندانتي (فيديل كاسترو) - الأب الروحي والملهم للشعب الكوبي والشعوب الحرة. 
عندما قام فيدل كاسترو بمحاولته الأولى غير الناجحة عام 1935م، لتحرير الشعب الكوبي من طغمته العميلة والفاسدة، ودخل السجن على إثرها هو وأخوه راؤول وبقية الناجين من رفاقه، كان من المحتمل أن يعدل عن مشروعه الثوري, ولكن الفرسان لا يتراجعون بسهولة.. فأعاد المحاولة مرة ثانية عام 1956م، وإلى جانبه القائد الفذّ تشي غيفارا, وعندما تعرضت المجموعة التي كانا يقودانها إلى ما يشبه الإبادة، على أيدي جلاوزة نظام باتيستا عميل الاستخبارات الأميركية، كان من المنتظر أن ينتصر اليأس هذه المرة، ولكن الذي انتصر هو الثقة بالشعب والإرادة الفولاذية, فأصرّ فيدل وتشي على تنفيذ مشروعهما الثوري بعزيمة لا تلين، فانسحبا مع رفاقهما الناجين إلى جبال سييرا، وواصلا من هناك الكفاح المسلح الذي تكلل بالنجاح ليلة رأس سنة 1959م التي شهدت الهجوم المظفّر للثوار الكوبيين على العاصمة هافانا, لحظتها لم تتحمل الولايات المتحدة خسارة نظامها الدمية، فباشرت الإعداد للرد بالاعتماد على بعض أنصار النظام السابق، شركاء المافيات الأميركية في نهب الشعب الكوبي, ففي ليل الـ17 من أبريل نظمت الاستخبارات الأمريكية هجوماً على كوبا انطلاقاً من خليج الخنازير، ولكن القوات المسلحة الكوبية استطاعت بدعم الشعب صدّ العدوان وأسر المهاجمين بعد أن وقعت قوات المرتزقة المعروفة بـ(لواء 2506) في المستنقع, ومنذ ذلك التاريخ وحتى الأمس القريب، واصلت الولايات المتحدة حصارها الاقتصادي لكوبا، من أجل استبدال نظامها الوطني والثوري، بنظام يشبه أنظمة جمهوريات الموز التابعة لها, ولكن عبثاً تحاول.
لقد أثبت الشعب الكوبي أنه قادر على حماية ثورته والانتصار لها, فـ57 سنة ليست فترة طويلة في عمر الشعوب, فثورة كوبا لا تزال شابة تزداد كل يوم قوة ومنعة ورسوخاً، فمن استطاع الصمود نصف قرن في وجه جبروت الإمبريالية الأميركية التي تبعد عنه بمسافة 140 كم، يستطيع الانتصار أكثر.
تصاعد العداء للامبريالية
بعدها تابعت كوبا طريق البناء والتقدم، وسط ظروف سياسية واقتصادية صعبة، خفف الدعم السوفياتي، قبل الانهيار، من آثارها السلبية، ولكن لم يعطل تلك الآثار كلياً, ولم تكتفِ الثورة الكوبية، رغم الصعوبات المشار إليها، بتحقيق الكثير من النجاحات على صعيد بناء جهاز عسكري قادر على الدفاع عن الثورة وعن الوطن، وبناء جهاز طبي يشهد له عالمياً، وجهاز تعليمي لا يقل كفاءة، وغيرها من الأجهزة الخدمية التي سمحت للشعب الكوبي بتوفير حاجاته في هذه المجالات كافة، وساهمت مرات عديدة في دعم شعوب أخرى، وتواصل نهجها الذي اختارته، بل توسع نشاطها فيه خارج حدودها، متحدية جارتها المتغطرسة، فتقدم المساعدات الاقتصادية والخبرات لكثير من الدول، ولا تتردد في تقديم المعونة العسكرية مثلما فعلت في أنجولا. لقد ساهم المتطوعون الكوبيون في تقديم العون لعدد من حركات التحرير الوطني التي كانت تواجه تدخلات عدوانية، سواء من القوى الأطلسية مباشرة، أو من عملائها وأتباعها, ولم تكن مبادرات التضامن الأممي التي رافقت تاريخ الثورة الكوبية بعيدة عن العالم الحر, فقد تميزت السياسة الكوبية بنهج تضامني ثابت متعدد الأشكال مع نضال كل الشعوب, كان كل ذلك في مرحلة النهوض الثوري التقدمي الذي شمل العالم بأسره، ولكنه لم يتوقف بعد الانهيار السوفياتي، رغم ازدياد الصعوبات التي كانت تواجهها منذ انطلاقتها, فقد راهن الأميركيون وأتباعهم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، على إضعاف الدولة الكوبية وإنهاك ثورتها من خلال تشديد الحصار وزيادة الضغوط المختلفة عليها، ولكنهم أصيبوا بخيبة أمل شديدة، فبدل تراجع وهج الثورة الكوبية ومواقعها، حصل العكس تماماً، حيث شهدت القارة الأميركية اللاتينية بأسرها، بفعل النموذج الكوبي، وبفعل تراكم التجارب الثورية لشعوبها، تصاعداً شديداً في العداء للإمبريالية الأميركية وللأنظمة الخاضعة لها، وترجم هذا المشهد بسقوط عدد من الأنظمة العميلة، وانتصار قوى وطنية ديموقراطية ذات توجه إصلاحي واشتراكي، فإذا كان هذا الحصار قد فشل في ليّ ذراع الثورة الكوبية طوال تلك المدة، وقد كانت أقل رسوخاً، وأقل احتضاناً من محيطها الإقليمي والدولي، فإنه فشل اليوم في إرغامها على التراجع عن أهدافها وحقوقها المشروعة، فقد باتت محاطة بحلفاء أقوياء في أميركا اللاتينية وفي العالم, ناهيك عن وصمود كوبا على عتبة الإمبريالية الأميركية، وبقاء الثورة الكوبية ثابتة بتحديها في وجه الغطرسة الأمريكية ونهجها العدواني. 

دروس في الكفاح الوطني
وعلى الرغم من قيود وإجراءات الحصار، فإنه A275; يفتقر أي مريض للدواء، لأن الحكومة تبحث عن خيارات، وفي نفس الوقت إعطاء العلماء الكوبيين درساً من الكفاح والإنسانية من خلال إنتاج اللقاحات والأدوية، والتي تسلط الضوء على الجهود التي تبذلها الجزيرة الكاريبية من أجل تعزيز الخدمات الطبية المجانية.
صمود أسطوري امتد لـ6 عقود, لم تعد كوبا قاعدة محتملة أو مركز انطلاق لمهاجمة الولايات المتحدة, الكوبيون يكرهون الحصار، ولكنهم لا يشغلون أنفسهم كثيراً به، فقد رتبوا حياتهم على أساس أن الحصار حقيقة قائمة ومستمرة, فقد نشأت نشاطات اقتصادية عديدة في هذه الجزيرة الصغيرة بسبب الحصار.
فبعد نجاح الثورة الكوبية عام 1959، حاولت الولايات المتحدة الانتقام والتوقف عن شراء السكر الكوبي، إلا أن الاتحاد السوفييتي حل محل الولايات المتحدة في اليوم التالي، وقام بشراء المحصول الكوبي.
(غذاؤنا من الحدائق.. تناولوا طعاماً محلياً).. شعار رفعته كوبا قبل غيرها.. فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991م، قامت كوبا بزراعة آلاف الحدائق التعاونية في الحضر لمواجهة الخفض في حصص الأغذية المستوردة.
لقد نجحت ثورة فيدل كاسترو في تأسيس أفضل نظام تعليمي وصحي بين دول أمريكا اللاتينية والعالم الثالث, وتقلصت الأمية إلى أقل من 1% منذ عام 1961، عندما بدأت حملة محو الأمية بجميع أنحاء البلاد، والتي شارك بها فرقة من أكثر من 100 ألف مدرس متطوع.
وتغطي شبكة الخدمات الصحية جميع أنحاء البلاد، وهي مجانية لكل الكوبيين، حيث تعطي الدولة أهمية خاصة للطب الوقائي.
ويصل عدد الأطباء بكوبا إلى 70 ألف طبيب، بالإضافة إلى 150 ألف ممرض وممرضة وفني يعملون في مجال الصحة. وتمتلك كوبا أكبر عدد أطباء بالنسبة لعدد السكان بالعالم.

انتصار على أقوى دولة في العالم
هكذا الثورة.. تدخل مرحلة جديدة، ومعها تولد أحلام جديدة، ففي عام 2000م قام مجموعة من الشبان الكوبيين باستحداث برنامج حاسوبي، كان هذا البرنامج قائماً منذ أكثر من 13 عاماً عبر الاستخبارات العلمية الكوبية، لتدشن معه كوبا مرحلة جديدة من البرامج الحديثة وتطويرها، بعد أن كان الحصار اA275;قتصادي والتجاري والمالي المفروض عليها يعرقل حصولها على التكنولوجيات الحديثة.
وهكذا تبدع الشعوب عندما تتعرض للتحدي، وتتوفر لها القيادة التاريخية، وكوبا نموذج لشعوب العالم الثالث التي استطاعت الصمود ومن ثم النهوض بالرغم من كل الصعوبات.
اليوم كوبا أكثر ثورية لأن لديها خبرة أكبر، وقد تكونت لديها ثقافة ومعرفة أوسع وروح أكبر، وهذا نتاج نضال دام أكثر من 50 عامًا ضد عدو هو أقوى دولة في العالم، وقد اجتازت كافة الاختبارات بنجاح، فواجهت المخططات الإرهابية، وغزو المحاربين المرتزقة، وخطر الحرب وخطر الهجومات المباشرة. 
هناك تنطلق الدولة من واقع (شمولية) المواطنة والحقوق التي تمس الحياة بشكل مباشر، فحق التعليم هو حق شامل، وحقوق العلاج والسكن والغذاء كذلك، تعمل الدولة بشكل حثيث على تقديم هذه الحقوق لمواطنيها، كحقوق لا كخدمات.
كانت كوبا جزيرة يقصدها المواطنون الأميركيون بكثرة، للسياحة وللاستثمار والتجارة، إلى حد أنها كانت توصف بالولاية الـ53، بعد الاتفاقية الشهيرة بين الولايات المتحدة الأميركية وإسبانيا، في العام 1898م، حيث تخلت إسبانيا عن سيادتها على الجزيرة لصالح النفوذ الأميركي. ومن حالة العداء إلى حالة الاستكانة، كسرت أسلاك العزلة, فبعد مفاوضات سرية جرت بين مسؤولي البلدين، أسفرت عن إطلاق سراح 5 من السجناء الكوبيين في الولايات المتحدة الأميركية، مقابل تحرير الجاسوس الأميركي آلان غروس، المحكوم بالسجن 15 عاماً من القضاء الكوبي, أعلنت الإدارة الأمريكية مع نهاية 2014 انتهاء القطيعة مع سلطات هافانا، ليسدل الستار عن فصول حقبة مليئة بالتوتر والصراع الذي وصل لحد التصادم العسكري مع كوبا الثورة، بالإضافة للكثير من مؤامرات الاغتيالات الأمريكية الفاشلة للقائد كاسترو.
في منتصف أبريل الماضي، ألقى فيدل كاسترو خطابه الذي وصفه بـ(الأخير)، أمام مؤتمر الحزب الشيوعي الكوبي. الزعيم الذي حاولت الولايات المتحدة اغتيال شخصه ونظامه وثورته أكثر من مرة على مدى عقود، أعلن أنه سيموت قريبًا ككل الناس، إلا أنه أكد أن الحزب وقيم الشيوعية الكوبية ستبقى دليلًا على قدرة البشر على إنتاج كل ما يحتاجونه من منتجات ثقافية ومادية إذا تعاونوا، على حد قوله. واختتم كاسترو خطابه قائلاً: (لسنا بحاجة أن تهدينا الإمبراطورية شيئاً)، متباهياً بذلك باستقلال بلده عن الهيمنة الخارجية.