موتى في هواتف أحياء..!
- تم النشر بواسطة بشرى الغيلي/ لا ميديا

غادروا الحياة وبقيت أرقامهم ورسائلهم الصامتة ذكريات وجع
موتى في هواتف أحياء..!
في ظل عدوانٍ متوحشٍ لعامين دون توقف من القصف الهستيري الذي طال حياة المواطنين مباشرة، بات الموت يغيّب يومياً عن عالمنا أقارب، أصدقاء، أعزاء، وزملاء، سواءً بالقصف، أو في جبهاتِ الصمود والكرامة، ولا شك أن معظمنا بات يحتفظ بما لا يقل عن رقم أو أكثر في قائمةِ الأسماء بهاتفه المحمول، وفي هكذا حال البعض يحتفظ بتلك الأرقام من بابِ الوفاء والذكرى لمن رحلوا، والبعض الآخر ما إن يصله خبر الوفاة حتى يقوم بحذف الرقم، لأنه يذكره بذكرى أليمة، أو من باب الخوف وعدم الرغبة في الاحتفاظ بأرقام من غادروا الحياة إلى الرفيق الأعلى... وللاقترابِ أكثر صوب طرقِ هذه الفكرة لدى قراء صحيفة (لا)، تباينت الردود حول ذلك، وكل شخص برر من زاوية ما رأى... كونوا مع سياق الموضوع الذي لا يخلو من إثارة..
يعيشون في وجداني
نسيبة القباطي (إعلامية) تقول: أحتفظ بأرقامهم لأنهم لا يزالون موجودين في الوجدان، ولم أستطع تصديق موتهم، ولم أحذف أرقامهم.
على عكس نسيبة تماماً، يقول عمر الغيلي: للأسف الشديد لا أحتفظ في جوالي بأي رقمٍ لموتى غادروا الحياة، وحذفتها لأن أصحابها توفاهم الله، أو لأنها انتقلت لأناس آخرين، أو ألغيت من قبل الشركة، أو توقفت عن الخدمة.
انتصار مطر (طالبة ماجستير) تقول: أحتفظ برقم عمي الشهيد (رحمة الله عليه)، وسر احتفاظي برقمه لأنه آخر ذكرى تربطني به، كونه توفي نتيجة قصفٍ استهدف منزلهم بمدينةِ حجة، ولذلك صعب عليَّ أن أحذفه.
سارة العزاني (موظفة) تقول: احتفظت لفترةٍ برقم (جدتي) الوحيدة، وبعد فترةٍ قصيرة من وفاتها حذفته، لأنني لم أستطع الاستمرار بحفظه في هاتفي، لإحساسي أنها لم تعد موجودة.
تنتظر تواصلها
منى رزقان (طالبة جامعية) تقول إنها تحتفظ برقم زميلتها بالدفعة التي توفيت نتيجة قصف منزلهم، وتضيف أنها غير مصدقة رحيلها كونها كانت مع زميلاتها تعيش كل تفاصيل الحياة الجامعية، وأنها تنتظر تواصلها بأية لحظة.
أحمد القمري (إعلامي معد ومقدم برامج بإذاعة صنعاء، وقناة اليمن الفضائية)، يقول: مازلت أحتفظ بالكثير من الأرقام لأشخاص أعزاء غيبهم الموت عنا على اختلاف وتعدد أسبابه، خصوصاً في الفترة الأخيرة، التي غادرنا الكثير من الأحبة، وتركوا فراغاً واسعاً يصعب ملؤه أو مداراته.
مكانهم في القلب
حسن الوريث (صحفي) يقول: مازلت أحتفظ بأرقام لعدد من أصدقائي وزملائي الذين انتقلوا إلى الرفيق الأعلى، وأعتبر احتفاظي بها من باب الذكرى.. ويضيف: بصراحة لم أقدر على حذفها، ولم تطاوعني نفسي على ذلك.
مستور الجرادي (صحفي) يقول: بالتأكيد أحتفظ في هاتفي بأرقام أصدقاء انتقلوا إلى بارئهم، منهم القريبة وفاته، ومنهم من مرت على وفاتهم فترة طويلة، واحتفاظي بها ليس من باب الذكرى لهم، فهم حين قضوا مكانهم القلب، وتظل أرقام هواتفهم مجرد رقم لا قيمة له بعدهم.
رحلوا وبقيت ذكراهم
وعما إذا فكر أحدهم بحذف الرقم أو عدم ذلك، قالت نسيبة القباطي: لم أحذف أرقامهم، ولم أفكر بذلك مطلقاً، بينما عمر الغيلي يقول: ليس حذف أرقامهم بدافعِ الخوف، أو الألم، وإنما أحتفظ بأرقامِ من أتعامل معهم يومياً فقط.
انتصار مطر تقول: فكرت أن أحذف الرقم، وتستدرك: لكنني لم أستطع ذلك، لأنني شعرتُ أني أرتكبُ جريمة بحق عمي الذي استشهد غدراً بقصف صاروخي، ووفاء لذكراه رحمة الله عليه لازلت أحفظ رقمه بهاتفي.
بينما سارة العزاني على العكس تقول: لم أستطع الاحتفاظ بالرقم بين قائمة الأسماء، لشعوري أن جدتي غادرت الحياة، ولم تعد موجودة.
أحمد القمري يتحدث باستفاضة عن ذلك، ويقول: من الصعب على الإنسان أن يلغي أو يحذف مسيرة حياة لأشخاص أعزاء على قلبه، حتى وإن غاب أصحابها عنا جسدياً، لكن أرواحهم ما تزال حية في وجداننا. ويضيف: كما أن قناعتي بالاحتفاظ بها من عمق الإدراك بأننا كلنا راحلون عن هذه الدنيا، فهم السابقون ونحن اللاحقون، ويكفي أن وجودها في الهاتف يظل ينعش الذاكرة بين الحين والآخر، وقد تكون هناك أسباب نفسية بحتة لارتباطها الوجداني العميق، إضافة إلى أهمية بقائها لتتيح فرصةً لذكر أصحابها والترحم عليهم.
حسن الوريث يقول: هناك شيء ما بداخلي يجعلني أحتفظ بها ولا أحذفها، أما مستور الجرادي فيقول: ليس من سبب يجعلني أحذفها، أو أفكر بحذفها، ولم أحاول ذلك أبداً... وإن فكرت لن أحذفها، فكيف لي بحذف رقم صاحبه كان عزيزاً على قلبي.
رسائلهم أشد وقعاً من أرقامهم
البعض قد يغادر الحياة ويحتفظ له أصدقاؤه ومحبوه برسائل عزيزةٍ كتبتها أنامله قبل أن يغادر عالمنا، وعلى حين غفلةٍ من موتٍ أخذ أمانته ورحل... عن ذلك تقول نسيبة القباطي: لا تزال كل رسائلهم محفوظة لديَّ، لأنني أرجع إليها كلما شعرتُ بالحنين لهم، ولم يحدث أن اتصل لي أحد من أرقامهم. أما انتصار مطر فتقول: لا أحتفظ بالرسائل، لأن تلفوني يتفرمت كل مرة، ولم يحصل أن تلقيت مكالمة من رقم عمي الشهيد، وإن حدث ذلك ستكون صدمة لي.
لنتذكرهم ونترحم عليهم
أما أحمد القمري فيقول عن احتفاظه بالرسائل: نعم، كثيرة هي الرسائل التي أحتفظ بها سواء (SMS) أو (الواتس)، غير أنها أشد وقعاً على القلب من أرقام المفقودين، كونها تحمل الكثير من التفاصيل والمواقف والأحداث، وحتى المزاح، لسنوات من التواصل سواء على المستوى الشخصي أو العملي، واحتفاظي بها ينبع من معزة أصحابها، ولا أخفي أنني أعود في بعض الأحيان لقراءتها، وتنسحب دموع الحزن من عيني (لا شعورياً) لمكانتهم في حياتي قبل أن يغادروا.
مفاجأة مؤلمة
ويحكي القمري موقفاً حدث معه يرويه بشيءٍ من الحزن، قائلاً: ذات مرة كنت في طريقي للعمل بقناة اليمن الرسمية مساء، وكنت علمت من خلال مجموعات (الواتس) بوفاة أحد زملائي، وحزنت كثيراً... يواصل بغصة: قلت بعد أن أكمل التزامي بالعمل سأذهب إلى منزله، لكن المفاجأة كانت عندما تلقيت اتصالاً من رقمه الشخصي الذي كنا نتواصل عليه عادة، لم أرد مباشرة، وأخذني تفكيري لعدد من الشكوك التي صاحبتها مشاعر مضطربة، منها شكي الضئيل أن خبر وفاته إشاعه كاذبة، وأنه اتصل يطمئنني ويضحك ضحكته المعهودة، أو أن أحد أفراد أسرته أراد إبلاغي بخبر وفاته، وفعلاً كان الشك الأخير، فالاتصال من أخيه ليخبرني بما كنت علمت به، وأيضاً معلومات عن موعد ومكان الدفن، لنعلنها في الفضائية بعد أخبار التاسعة.
ألم فقدانها
الأستاذ حسن الوريث يقول: رسائلهم سواء كانت في (الواتس) أو (SMS )، كنت أحتفظ بها حتى تفرمت جهازي، لأن بعضها يمثل ذكريات عزيزة، ومواقف ربما لن تنسى، وتألمت كثيراً عندما تفرمت تلفوني وذهبت كلها أدراج الرياح، لكن ذكراهم بالقلب.
صدمة
الصحفي مستور الجرادي يقول عن رسائلهم: عادة ما تحذف من ذاكرة هاتفي آلياً، لكنها محفورة في قلبي وذاكرة عقلي... ولم يسبق لي أن تلقيت مكالمة من رقم صديق متوفى، لكنني بادرت باتصال لأحد الأصدقاء لم أكن أعلم بوفاته رغم علمي بمرضه مسبقاً. ويختم الجرادي بغصة: فكانت الصدمة حين علمت بوفاته، وشعرت حينها بألم شديد لفراقه.
إنكار نفسي
ولأهمية الموضوع وعلاقته من الناحيةِ النفسية لكلا الفئتين؛ من يستمرون بحفظ الأرقام والرسائل، أو من يحذفونها، توجهت صحيفة (لا) إلى الدكتور عبدالحافظ الخامري، أستاذ علم نفس بجامعة صنعاء، حيث قال عن الفئةِ الأولى وهم من يحتفظون بها: غالباً يحتفظون بها كمعنى يشكل لهم أهمية لصاحب الرقم أو الرسالة، وقد يكون لديهم نوع من (الإنكار النفسي) لموت الشخص العزيز عليهم، ولذلك يعتقدون أن الاحتفاظ بالرقم أو الرسالة أمر مهم وواجب.
قطع الصلة بالموتى
وعن فئة من يحذفونها يقول الخامري: أولئك يسلمون بالأمر ويحذفون الأرقام والرسائل، فهم إما يرون أن الاحتفاظ بها يشكل لهم ذكرى مؤلمة ومنبهاً يثير لهم الألم بين حين وآخر، أو يسلمون أن الشخص توفي وانتهى وانقطع أثره، فلا داعي لبقاء ما يذكر به أو يمثل له صلة.
وعما إذا كان هناك تفسير (علمي نفسي) لذلك، يقول د. عبدالحافظ: لم يرد في نظريات علم النفس هذا الأمر، ربما لأن رسائل الجوال حديثة نسبياً، لكني أعطيت محاولة تفسيرية، وهي: أن الإنسان يبحث عن المعنى وفقاً للمدرسة الإنسانية، والتخلص منها كمنبه مؤلم وفقاً للمدرسة السلوكية.
آخر الأوراق
إذن، رحلوا وبقيت ذكراهم في قلوبِ أصدقائهم ومحبيهم، قبل أن تحفظها جوالاتهم، وتفاوتت الآراء بين من يحتفظ بها ويتعامل معها كذكرى، ومن يحذفها ليس جفاءً بقدرِ ما هو شعورٌ مؤلم لمن غادروا الحياة، ويظل الوفاء لهم محفوراً في ذاكرةِ كل صديقٍ، أو عزيز، أو قريب تركوا لديه ما يخلدهم به، قبل أن تحتفظ بها مجرد (ذاكرةٍ إلكترونية) قد تخذل صاحبها بأيةِ لحظة.
المصدر بشرى الغيلي/ لا ميديا