قاد القائد العظيم فيديل كاسترو نضال شعبه وبلاده ضد الإمبريالية والهيمنة لعقود من الزمن، بكل كفاءة واقتدار، وأصبح صموده أسطورياً وملهماً للقادة والشعوب في كل أنحاء العالم.. فقد تمكنت كوبا بقيادته من الصمود في وجه أعتى العقوبات والحملات الظالمة التي شهدها تاريخنا الحديث، فأصبحت بذلك منارة لتحرر شعوب دول أمريكا الجنوبية وشعوب العالم أجمع، وسيبقى اسم فيديل كاسترو خالداً في أذهان الأجيال، وملهماً لكل الشعوب الطامحة إلى الاستقلال الحقيقي والتحرر من ربقة الاستعمار والهيمنة الخبيثة.
لم يكن كاسترو مجرد رئيس أو قائد عادي، بل كان قطعة من تاريخ العالم وأيقونة للثورة.. وكان من صنف الأبطال الذين يعملون بصمت، ويشقون الصعاب لتبقى منارة الحرية والنضال مشرقة على عالم تسوده العدالة والسلام والأمن والازدهار.
فقد ضرب هذا المناضل الصنديد نموذجاً إنسانياً قلّ مثيله بالتضحية والحكمة والبصيرة والإبداع النضالي من أجل الانتصار لقضية الحرّية والاستقلال لوطنه وللشعوب المظلومة.

القضية الفلسطينية.. مضمار نضال طويل
إن تاريخ المناضل العالمي فيدل كاسترو سيحفظه الفلسطينيون، ومعهم كل أحرار العالم، لأن كوبا الدولة الأميركية اللاتينية الوحيدة التي صوتت ضد قرار تقسيم فلسطين الصادر عام 1947، ومنذ ذلك الوقت كانت تلك الجزيرة الصغيرة القابعة في البحر الكاريبي، بمثابة النصير لكل حركات التحرر الوطني في العالم، خاصة الثورة الفلسطينية التي وقفت معها في كل المحافل الدولية، وقدمت الكثير من المواقف والدعم للشعب الفلسطيني وثورته، ومنها إعلان فيدل كاسترو بتاريخ 9/9/1973 في مؤتمر القمة الرابع لدول عدم الانحياز المنعقد في الجزائر، قطع العلاقات الدبلوماسية مع (إسرائيل)، والاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني.
عُرف كاسترو بمواقفه المناصرة لقضيّة فلسطين، والمدافعة عن شعبها، حيث عمل هذا المناضل العالمي على مناصرتها بكل شجاعة، بدون أي مقابل أو ثمن سياسي أو أي موقف، فقط أحب فلسطين وناصر نضال شعبها، فوقف وبشجاعة ليؤكد أنه مع فلسطين، ويعلن أمام العالم أجمع (أنه لا يعترف بدولة إسرائيل، وأن فلسطين هي ملك للشعب الفلسطيني)، مؤمناً بعدالة القضية الفلسطينية، وداعماً لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وعودته لأرضه، وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.
عام 2014, وقّع كاسترو بياناً دوليّاً للدفاع عن فلسطين، يطالب فيه الكيان الصهيوني باحترام قرارات الأمم المتّحدة والانسحاب من الضفة الغربية والقدس الشرقية, كما أعرب الزعيم الكوبي مراراً عن دعمه لطلب فلسطين أن تصبح عضواً في الأمم المتّحدة.
بدأت كوبا بمناصرة القضية الفلسطينية تدريجيّاً بعد أن استلم كاسترو الحكم, وتفرّدت من بين دول أميركا اللاتينية بشجب العدوان الإسرائيلي صبيحة الخامس من يونيو 1967م، كما طالبت بانسحاب إسرائيل الشامل من الأراضي الفلسطينية المحتلّة ومن الجولان السوري المحتلّ.
في 27 يوليو 1970، دُعيت منظّمة التحرير الفلسطينية لأوّل مرة لحضور احتفالات أعياد الثورة الكوبية, وعام 1972 صادرت السلطات الكوبية المركز الثقافي الإسرائيلي في هافانا، والذي كانت تبث منه الدعاية الصهيونية, وظلّت البعثة الإسرائيلية الدبلوماسية بعد ذلك التاريخ موكلة إلى دبلوماسية برتبة سكرتير أوّل، إلى أن أعلن كاسترو في 9 سبتمبر 1973 في مؤتمر القمة الرابع لدول عدم الانحياز المنعقد في الجزائر، قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل. وبهذا كانت كوبا أوّل دولة في القارة الأميركية تقطع علاقاتها الدبلوماسية بالكيان الصهيوني.
ولعب الرئيس الكوبي فيدل كاسترو دوراً بارزاً في مؤتمر قمة عدم الانحياز السادس (1979)، في إدانة اتفاقيتي كامب ديفيد ومعاهدة الصلح المصرية - الإسرائيلية.. ولخص كاسترو القضية الفلسطينية قائلاً: (ما تقوم به دولة إسرائيل بالفلسطينيين اليوم.. هو نفس الذي قام به الفاشيون والنازيون ضد اليهود.. ويؤلمني كثيراً أن أرى الناس الذين كانوا ولقرون عدة هدفاً للاضطهاد، وأن الدولة التي خلقت إحقاقاً لحق، وأعتقد أن لكل دولة الحق في أن تعيش وفق ثقافتها ودنيها، ولكن يؤلمني عندما أرى دولة كتلك تقوم بأعمال قمع كهذه ضد الفلسطينيين، وحسب ما أتذكر كان (سايروس) هو آخر من حاصر القدس، وشتت اليهود في شتى بقاع الأرض، والشيء نفسه حصل مع الفلسطينيين، فقد احتلت أراضيهم، واضطروا إلى الرحيل لمختلف بلاد العالم.. والآن لا يعطى الفلسطينيون سوى قطع من الأرض، ويتعرضون لإبادة حقيقية، ولهذا السبب أشعر أنني أملك الأرضية الأخلاقية للتنديد وبقوة بالسياسة المتبعة ضد الفلسطينيين، وهناك أشياء خطيرة جداً في ما يخص هذا الشأن، وهي أشياء قام بها الغرب، وتراكمت، وكان لها إسهام كبير في الدولة الإسرائيلية، وفي لحظة تاريخية معينة خلق منها دولة نووية قوية في قلب أكثر مناطق العالم عرضة للنزاعات.. عندما كنا نحارب نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا، كنا نحارب نظاماً يملك 7 رؤوس نووية، وزودت إسرائيل بها جنوب أفريقيا، وفي هذه اللحظة التاريخية لا أحد يعرف بالضبط أين هي تلك الرؤوس النووية.. وأين انتهى بها المطاف في النهاية؟ لأن ما فعلته دولة إسرائيل كان متناقضاً تماماً مع ما اضطر الشعب اليهودي إلى مجابهته على مدى قرون.. لقد تم تغير الأدوار، ومن منطلق هذه الأرضية الأخلاقية يمكن للمرء أن ينظر إلى مصير ومعاناة الشعب الفلسطيني، وأن يتمنى - حقيقة- أن يحل السلام في هذه المنطقة التي عانت طويلاً، ولكي يأتي وقت ينتهي فيه هذا الكابوس الطويل).

علاقة كفاح وحب وسلاح
وكان للزعيم الكوبي علاقات جيّدة مع أكثر من رئيس عربي، كجمال عبدالناصر وحافظ الأسد ومعمّر القذافي وصدّام حسين وياسر عرفات، إلا أنّ علاقته مع القادة الجزائريين كانت مميّزة.. علاقة تستمد مثاليتها من تقاسم بعض صفحات من تاريخ التحرر الوطني المجيد التي كان فيها للقائد الكبير محل الصدارة إلى جانب الشعب الجزائري، ومثلت رفقة الكفاح هذه امتداداً بعد استرجاع الجزائر استقلالها، حيث تحول إلى تضامن ودعم لإعادة بناء ما دمّرته الحرب الاستعمارية التي أتت على الأخضر واليابس.. تعود قصة (الحب الثوري) بين فيدل كاسترو والجزائر إلى أيام الثورتين الكوبية والجزائرية.. فالثورة الكوبية تكاد تكون شقيقة للثورة الجزائرية، حيث اندلعت قبل عام واحد من ثورة الجزائر، أي سنة 1953م، وانتهت في 1959م، وهي ثورة مسلّحة كالجزائرية، نفّذها فيدل كاسترو ورفاقه، وأطاحوا فيها بالدكتاتور باتيستا عميل أمريكا.
كانت أول زيارة للرئيس أحمد بن بلة إلى كوبا في أكتوبر 1962، ومن ثم توالت الزيارات بين رؤساء البلدين, وزار كاسترو الجزائر العام 1973 بمناسبة انعقاد مؤتمر دول عدم الانحياز، وكانت بينه وبين هواري بومدين صداقة متينة.
كما ارتبط كاسترو بمصر الثورة بعلاقة حملت عناوين الإلهام والإعجاب لتجربة مصر الثورية، والتي وصلت أصداؤها إلى كل أصقاع العالم.
فعند زيارة كاسترو لمصر عام 1960 والتقائه بالزعيم الخالد جمال عبد الناصر, كتب الراحل محمد حسنين هيكل وقتها أن الثائر العالمي تشي جيفارا الذي صاحبَ كاسترو في زيارته لمصر، قال لعبد الناصر: (إن كاسترو استمد كثيراً من شجاعته من صمود مصر أمام الغرب في العدوان الثلاثي عليها عام 1956م، وهو اليوم في القاهرة ليتعلم منكم كيف تطبقون تجربة الإصلاح الزراعي، وتوزيع أراضي الإقطاعيين الأغنياء على صغار الفلاحين الفقراء)..ويروي الكاتب المصري محمد حسنين هيكل في كتاب (عبدالناصر والعالم)، أنّ ثورة يوليو 1952 وجمال عبدالناصر كان لهما تأثير مباشر على فيدل كاسترو ورفاقه عندما دخلوا العاصمة الكوبية هافانا عام 1959.
وخلال زيارة لتشي غيفارا إلى القاهرة عام 1959، نقل الأخير لعبدالناصر أنّه وكاسترو رفعا صورة عبدالناصر عندما سمعا بإعلان تأميم قناة السويس.
وعلى النهج الثوري ذاته، تميزت علاقة كاسترو بالزعيم السوري الراحل حافظ الأسد، بالإعجاب الشديد, حيث قال كاسترو بعد وفاة الرئيس الأسد: (إننا نقف مع نضال سوريا العادل، ونؤيّد بكل قوة الرئيس الأسد في تصدّيه للإمبريالية العالمية), وقال أيضاً: (سوريا بقيادة الرئيس حافظ الأسد، قلعة ثورية للتحرّر والتقدّم). وقد زار الزعيم الكوبي سوريا مرّة واحدة عام 2001. 
وشملت مواقف كاسترو تجاه مجمل القضايا العربية، نظرة حملت أبعاداً كثيرة من الحكمة والروية والتمعن المنطقي، حيث رأى بدخول الرئيس العراقي صدام حسين في حرب طويلة مع إيران، وبدعم وتخطيط من الغرب خطأً فادحاً سيؤدي إلى تغيرات مخيفة وكارثية على المنطقة والعالم، حيث يقول: (ما كان يجب أبداً أن تكون هناك حرب بين العراق وإيران، لأن ذلك عاد بالضرر البالغ على بقية العالم، حين فقدت مئات الآلاف من الأرواح، وفقدت مئات المليارات من الدولارات، وكذلك ضعفت القضية العربية بسبب تلك الحرب.. والحقيقة، الغرب جنى ثروة طائلة من وراء بيع السلاح، لأن الغرب لا يهمه إلا إضعاف العالمين العربي والإسلامي، لقد ارتكب بعض الرجال أخطاء، وليس لي أن أشير إلى ماهية أخطاء الآخرين، ولكن ما كان يجب أبداً أن تحصل تلك الحرب بين العراق وإيران).
وبالرّغم من أنّ العلاقة بين كاسترو وصدّام حسين كانت ودّية في البداية، إلا أنّ الزعيم الكوبيّ لم يساند الرئيس العراقي في قراره غزو الكويت، ودعاه للانسحاب قبل أن تستغلّ الولايات المتّحدة الأميركية الوضع و(تضرب العراق بشدّة وتحوله إلى ميدان للرماية لتجربة أسلحتها الجديدة المعقدة والدقيقة).
وقد ورد في رسالة عن هذا الموضوع وجّهها كاسترو لصدام حسين: (لو كانت هناك أسباب مبرّرة ومنطقية، لكنت آخر من يطلب منك تفادي هذه التضحية، وإنّ التجاوب مع ما تطلبه منك الغالبيّة العظمى من الدول الأعضاء في الأمم المتّحدة، لا ينبغي أن تراه كأنّه نوع من الإذلال وفقدان الشرف).
وناهَضَ كاسترو ما تسمى ثورات الربيع العربي عام 2011، فوصف الثورة في ليبيا وسوريا بالاضطرابات، متهماً أياديَ خبيثة بالسعي إلى تآكل الرصيد التقليدي للأنظمة التي تواجه الهيمنة الأميركية.
واتّخذ كاسترو موقفاً سلبيّاً واضحاً مما قام به حلف شمال الأطلسي عند إسقاط معمّر القذّافي، واصفاً الحلف بأنّه أصبح (آلة القمع الأكثر خداعاً في تاريخ الإنسانية).
وكان للزعيم الكوبي مواقف عدّة تصب في الدعوة للحفاظ على وحدة العرب ورفض تقسيم البلدان العربية.

نجم الثورة في قلب الفقراء
بعد تنظيم الثورة في كوبا قامت الحكومة الكوبية بقيادة فيدل كاسترو بتقديم المساعدات لدول العالم الثالث، فأرسلت بعثات طبية إلى هذه البلدان، بالإضافة إلى المنح الدراسية المجانية التي قدمتها إلى شعوب العالم الثالث.
ولا يمكن أن ننسى الخدمات الصحية الراقية التي قدمتها كوبا لليمن على مدى سنوات طويلة من التعاون المشترك، ومن جامعات كوبا تخرج المئات من اليمنيين في مختلف المجالات - العسكرية والطبية والهندسية والزراعية.. كان هذا المناضل أممياً وفياً لمبادئه، منحازاً ومسانداً للقضايا العادلة وللشعوب المناضلة من أجل الحرية والاستقلال. وكان مناضلاً حقيقياً ضد قوى الاستكبار والهيمنة في العالم، ولم تثنه أو تكسر إرادته كل العقوبات التي فرضت على بلاده لتبديل رأيه ومواقفه، وواجه باقتدار كل التحديات, ووصفه صديقه الكاتب الكولومبي الحائز على جائزة نوبل للآداب غابرييل غارسيا ماركيز، في العام 2008، قائلاً: (صبرٌ لا يقهر.. انضباطٌ حديدي.. قوّة المخيّلة تسمح له بقهر أي طارئ).
كما أصبح فيدل كاسترو أحد النجوم اللامعة في عصر الحرب الباردة، ورمزاً للكفاح ضد الإمبريالية، حيث قامت كوبا بنصرة الدول المظلومة والوقوف بجانبها ومساعدتها، فعندما قامت قوات جنوب أفريقيا باحتلال ناميبيا طلبت الأخيرة مساعدة كوبا، فأرسلت كوبا قواتها لمساندة ناميبيا، واستطاعت تحريرها، وقد استُشهد 2500 كوبي في هذا المعركة, وفي 1975، أرسلت الثورة الكوبية 15 ألف جندي إلى أنغولا لمساعدة القوات الأنغولية المدعومة من السوفييت, كما أرسلت عام 1977 قوات أخرى إلى إثيوبيا لدعم نظام الرئيس الماركسي مانغستو هيلا مريام.

وترجل الكومندنتي الأخير
خاض البطل الأسطورة الكومندنتي فيدل كاسترو نضالاً مريراً مع رفاقه في جبال سيرا مايسترا، ضد نظام باتيستا الديكتاتوري، بعد أن أطلق الشرارة الأولى للثورة الكوبية في 26 يوليو 1953م، وكللها بالنجاح الساحق في الفاتح من يناير 1959م.
وأصبح كاسترو في نظر العالم بطلاً وفارساً لايشق له غبار.. فهو قاهر اليانكي في خليج الخنازير، وصائد مرتزقتهم في عملية النمس، والمنتصر على حصارهم الخانق لأكثر من 50 عاماً، وعلى كل جولاتهم القذرة الممثلة بـ638 محاولة لاغتياله (دخل بها موسوعة جينيس للأرقام القياسية).
صنع كاسترو من كوبا دولة يعتز بها الكوبيون وكل المناضلين في العالم من أجل إقامة نظام عالمي عادل، بعد أن كانت بمثابة ملهى ضخم للموسرين الأمريكيين وغيرهم من عصابات المخدرات في دول أمريكا اللاتينية.
رحل كاسترو قاهر اليانكي ورجل القيم والمساواة والإخاء، بعد أن اطمأن إلى رسوخ التجربة الاشتراكية في جزيرته التي تحيط بها الإمبريالية (أمريكا) بحراً وبراً وجواً.
ترجل هذا الفارس الأممي بعد حياة ملؤها البطولة والفداء وصناعة الرعاية والتعليم والدواء، وسطر رفيق تشي جيفارا ووريث خوسيه مارتي (قائد الثورة الكوبية ضد الاستعمار الإسباني)، ملاحم بطولية دخلت التاريخ من أوسع أبوابه. وترك مآثر في النضال والصمود من أجل استعادة الكرامة والحرية لشعب كوبا ولكل المستضعفين في الأرض.