على ضوء صواعق ولهب الحنين تدلف الكاتبة قبو الحقبة المنسية وتهبط سلالمه المجدولة بغزل العناكب وصولاً إلى لحظة سحيقة من العام 1922م، لتبدأ رحلتها من أريكة أمها المحتضرة، مبحرة في خضم مآتم وأعراس ودموع وزغاريد ودماء وقصص حب ومؤامرات ومسامرات عائلية حميمة ودواوين شعر ودواوين حكم وأصوات مزاهر وفحيح أفاعٍ وأبهاء ملكية وسجون وولادات وإعدامات وانقلابات ومكائد حريم ونزوح وجوازات سفر و... منفى!
إنها كتابة اجتماعية (نوستولوجية) تحت سماء حمراء محتدمة بالصراع وحافلة بالأحداث، لا تخلو من زخات فرح تعشب قرنفلات حزن على امتداد رحلة شاسعة الوحشة، تطيح خلالها تقية بنت الإمام يحيى حميد الدين، بالصور المثالية الراسخة في أذهان كثيرين عن (الثورات الثلاث 48، 55، 1962م)، الواحدة تلو الأخرى، دون أن تتعمد الإطاحة بها، ودون تخطيط مسبق..
كتاب مغاير مخيف لا يقرأه أصحاب الضمائر الضعيفة وعديمو النخوة.. نضعه بين يدي القارئ على حلقات، إيماناً منا بأن فتح الجروح القديمة وتنظيفها أسلم لعافية أجيالنا من مواربتها وتركها تتخثر.

فكم في العراقين من نادبين
وفي الشرق من رنة للحنين
.........................
وَمِصرُ الَّتي تَجمَـعُ المُسلِميـنَ 
 كَما اجتَمَعوا في ظِـلالِ الرُّكُـنْ 
لعمرك ما في الثرى من سَلِمْ
من الهول إلا بكى أو وجِمْ
وكل بلاد لهذا المُلِمْ
تُعَـزّي اليَمانيـنَ فـي سَيفِهِـم 
 وَتَأخُـذُ حِصَّتَهـا فـي الحَـزَنْ 
وقد أحزن الخطب كلَّ الأنام
لذا الغرب جاد بدمع سِجام
ومصر تقيم العزا والشَّآم
وَتَقعُدُ فـي مَأتَـمِ ابـنِ الإِمـامِ 
 وَتَبكيـهِ بِالعَـبَـراتِ الهُـتُـنْ 
وكلُّ المدائن في المشرقِ
تنوح على بدرها المشرق
وتبكي من الفادح المطبقِ
وَتَنشُـرُ رَيحانَـتَـي زَنـبَـقٍ 
مِنَ الشِّعرِ في رَبَـواتِ اليَمَـنْ 
وتهدي إلى روح ذاك الفقيد
صلاة من الله فيها المزيد
ورحمة رب البرايا الحميد
تَرِفّـانِ فَـوقَ رُفـاتِ الفَقيـد
رَفيفَ الجِنى في أَعالي الغُصُـنْ 
أغاث لَهِيفاً رأى حَيْنَه
وناداه يطلبه منه
فلباه يرجو له صونه
قَضـى واجِبـاً، فَقَضـى دونَـهُ 
فَتىً خالِصَ السِّرِّ، صافي العَلَنْ 
أتى الصحب والموج فوق القلال
يزاولهم يمنةً مع شمال
فلما رأى البعض في الاعتقال
تَطَـوَّحَ فـي لُجَـجٍ كَالجِبـالِ 
 عِراضِ الأَواسي طِـوالِ القُنَـنْ 
سعى راجياً للرفاق الصلاح
يؤمل إنقاذهم والنجاح
ولما رأى الموج يهوى الكفاح
مَشى مِشيَةَ اللَيثِ، لا في السِّلاحِ
وَلا في الدُّروعِ، وَلا في الجُنَـنْ 
أترغم يا بحر منا الأنوف
وتصبح مقنصة للحتوف
بأخذك من لم تزنه الألوف
مَتى صِرتَ يا بَحرُ غِمدَ السُّيوفِ
وَكُنّـا عَهِدنـاكَ غِمـدَ السُّفُـنْ؟ 
أما كنت يا بحر تطفي الجحيم
وتشفي السقيم وتغني العديم
وكنت لنا كالصديق الحميم
وَكُنتَ صِوانَ الجُمـانِ الكَريـمِ
فَكَيفَ أُزيـلَ؟ لِـمَ لَـمْ يُصَـنْ؟ 
لك اللؤم إن كنت في نشوة
فكم أمة منك في وحشة
لما كان يا بحر من غيلة
ظَـفِـرَت بِجَـوهَـرَةٍ فَــذَّةٍ
مِنَ الشَّـرَفِ العَبقَـرِيِّ اليُمُـنْ 
ظفرت بمن فخره لا يطاق
ومن قدره كان فوق الطباق
فتى لا يجارى بيوم السباق
فَتىً بَذَلَ الـروحَ دونَ الرِّفـاقِ
إِلَيكَ، وَأَعطـى التُّـرابَ البَـدَنْ 
سعى منقذاً منك بعض الصِّحاب
ولم يخش هول ارتطام العُباب
يريد بذاك جزيلَ الثواب
وَهانَتْ عَلَيهِ مَلاهـي الشَبـابِ
وَلَولا حُقـوقُ العُـلا لَـم تَهُـنْ 
وجد وشمَّر أثوابه
وبادر يطلب أحبابه
وما خاف موتاً ولا هابه
وَخـاضَـكَ يُنـقِـذُ أَتـرابَـهُ
وَكانَ القَضـاءُ لَـهُ قَـد كَمَـنْ 
أأصبحت يا بحر للخائنين
إماماً وكنت لدينا الأمين
فماذا اعتذارك للعالمين
غَدَرتَ فَتىً لَيسَ في الغادِريـنَ 
 وَخُنتَ امـرأً وافِيـاً لَـم يَخُـنْ 
لقد صرت ـ واللهِ ـ رب الخداع
وصرت بفعلك شر البقاع
وأصبحت بالفتك ذا امتناع
وَما في الشَّجاعَةِ حَتفُ الشُّجـاعِ 
 وَلا مَدَّ عُمـرَ الجَبـانِ الجُبُـنْ 
أتسطو على من أتت هل أتى
بفضلهم يا قبيحاً متى
تصير عليهم عدواً متى
وَلَكِـن إِذا حـانَ حَيـنُ الفَتـى 
 قَضـى، وَيَعيـشُ إِذا لَـم يَحِـنْ 
لفقدان سيف الهدى المنتضى
خدين الهدى من به قد أضا
فقولا لوالده المرتضى
أَلا أَيُّهـا ذا الشَّريـفُ الرَّضـي 
 أَبـو السمراءِ الرَّمـاحِ اللُّـدُنْ 
وياذا الجناب المهيب المنيع
أحقاً غداً للمنايا صريع
فياليت أنَّا فداه الجميع
شَهيـدُ المُـروءَةِ كـانَ البَقيـعُ 
 أَحَقَّ بِـهِ مِـن تُـرابِ اليَمَـنْ 
لقد كان فينا إمام التقات
ثمال اليتامى جمال الحياة
فلم صار بالموت إحدى العظات
فَهَـل غَسَّلـوهُ بِدَمـعِ العُـفـاةِ 
وَفي كُلِّ قَلـبٍ حَزيـنٍ سَكَـنْ؟ 
إمام الهدى قرين القُران
تأس به لتجزى الجنان
وصبراً فما الصبر إلا أمان
لَقَد أَغرَقَ ابنَكَ صَرفُ الزَّمـانِ 
وَأَغرَقـتَ أَبـنـاءَه بِالمِـنَـنْ 
أتذكر منه مواضي العصور
وتلك الليالي ليالي السرور
وأيام أنس بجمع البدور
أَتَذكُرُ إِذ هُـوَ يَطـوي الشُّهـورَ 
وَإِذ هُوَ كَالخِشـفِ حُلـوٌ أَغَـنْ؟ 
وإذ هو يمشي مشي الهصور
ويلعب بين مغاني الحبور
ويمرح بين الربا والزهور
وَإِذ هُوَ حَولَكَ حُسْـنُ القُصـورِ 
 وَطيبُ الرِياضِ، وَصَفْوُ الزَّمَـنْ؟ 
لقد كان خير الجنى في الغصون
فهلا تعدته أيدي المنون
وقد كان أجمل شيء يكون
بَشاشَتُـهُ لَـذَّةٌ فـي العُـيـونِ 
 وَنَغمَـتُـهُ لَــذَّةٌ فــي الأُذُنْ؟ 
وكان أعز البرايا عليك
وأرفعهم بالمعالي لديك
أتذكر إذ كان يأتي إليك
يُلاعِـبُ طُرَّتَـهُ فـي يَـدَيـكَ 
 كَما لاعَبَ المُهرُ فَضلَ الرَّسَـنْ؟ 
وإذ هو طوراً فطوراً يسود
شريف الخصال كريم الجدود
سرور الصديق وغيظ الحسود
وَإِذ هُوَ كَالشِّبلِ يَحكـي الأُسـودَ 
 أَدَلَّ بِمِخـلَـبِـهِ وَافـتَـتَــنْ؟ 
فما لي أرى الكون والكائنين
لفقدانه في بحار الأنين
وكان يرى قرة الناظرين
فَما بالُهُ صـارَ فـي الهامِديـنَ 
 وَأَمسى عَفـاءً كَـأَنْ لَـم يَكُـنْ؟ 
لذاك تراني لم أسْلَهُ
فياليت يومي أتى قبلَهُ
فعقد اصطباري قد حلَّهُ
نَظَمْـتُ الدُّمـوعَ رِثـاءً لَــهُ 
 وَفَصَّلْتُهـا بِالأَسَـى وَالشَّـجَـنْ
***
ومن أفعال البدر الشهيد الخيرة، ولا زالت باقية حتى الساعة، شراؤه ست عشرة جارية حبشية، وسبعة من العبيد أعتقهم جميعاً، وملَّكهم مزرعة في تهامة تعرف بمزرعة بني مديخة، وأما الجواري فقد حررهن وتزوجن وعشن في أسرٍ كريمة.. وعلى ضريح أخي البدر الشهيد كتبت الأبيات التالية:
إن في القبر إن جهلت لنجماً 
 طالعاً في سماه أهل المعالي
وهو أعني محمد بن سليل الـ 
 مجد يحيى ابن قاصم الأهوالِ
سارع الموت نحوه لثلاث 
 ورباع من السنين الخوالي
ولقد كان كل من قد رآه 
 سام فيه مخائل الإجلالِ
ومن جملة منظومات الشهيد البدر التي لا زلت أحتفظ بها في ديواني: 
يقولون إني مسرف إذ يرونني 
 أطوق أعناق الرجال بإحساني
فقلت لهم: موتوا جميعاً بغيظكم 
 فإني شريت المجد بالتالف الفاني
ألم يأمر الرحمن من كان موسراً 
 بإنفاق ما أولاه في نص قرآنِ
إذا جاء يوم الحشر جئتم بكنزكم 
 وجئت بأجر من إلهي وغفرانِ
وللبدر الشهيد ديوان شعر.
لقد جاد بروحه في سبيل إنقاذ نفس من الموت، وإلى اليوم ما هب صبا بحر الحديدة إلا وجدت نسيم البدر الشهيد.
وتعزيت بالصبر على الوالدة والخال عبد الله، وأخي البدر، الشاب، المثقف، المتفتح، التقي، المحب لدينه وأهله ووطنه. 
***
في نفس العام، سافر أخي عبد الله إلى الخارج في مهمة رسمية للدولة بأمر من أبينا الإمام، فتوقفت عن تسميع ما حفظته من القرآن الكريم، ولكن والدي كعادته استدعاني، وأعطاني بعض الكتب الفقهية، مثل: رياض الصالحين، وتنبيه الغافلين عن فضائل الطالبين، وغيرهما، وحرضني على مطالعتها، وطلب إليّ سؤاله عن كل ما يشكل علي في درسها وفهمها.
وسارت حياتي في دار السعادة مع مدرستي وأخواتي وإخواني يغمرونني حناناً وحباً وعطفاً، فقد غدوت مدللة دار السعادة. 
إخواني يزورونني وأزورهم، أقضي عند كل أخ ثلاثة أيام بمرافقة مدرستي، وكان الوالد يرحمه الله، يتفقدني حتى عند زيارة إخواني، ويستفسر عن أحوالي ودراستي، ولا يمر يوم حين أكون خارج دار السعادة إلا وسأل واستقصى أمري ومدى انشراحي وسروري. 
ومضت الأيام وانحسرت الأحزان وانقضت أيامها، وعاد أخي الحسين من الحديدة، حيث كان والدي قد أمره بأن يكون أميراً على الحديدة بعد استشهاد أخي البدر، عاد وقد تأهل بأرملة أخي الشهيد، فاطمة خان، ومعها ابنتها من أخي البدر، أمة الملك.