لقد أثارت مرافقة العقيد شوكت المصري عدة تساؤلات عندي، تأكدت حينها أن الأمور بيد الضباط المصريين، وما الضباط اليمنيون إلا للتنفيذ.
وأدركت عندها سبب حسن معاملة عوائلنا المحجوزين في معتقلات قصور الإمام أحمد، وسوء معاملتنا في صنعاء، وكثرة التضييق علينا وإزعاجنا.
كان سبب ذلك كما قدَّرتُه، أننا في صنعاء كنا تحت حكم وإدارة المصريين مباشرة، فمارسوا أساليبهم في الضغط والإزعاج والتهديد بالترحيل، ومنع الخروج والدخول، والعساكر تحيط بالمعتقل من كل جانب، وتفتيش مكثف، وهجمات ليلية عشوائية، ومحاولة حرماننا من الخبز والحليب والطعام إلا ما خشن وصلب، أما في تعز فكان أهلنا بعيدين عن أعين المصريين، ونالوا معاملة طيبة من أهل تعز الذين خبروا الإمام أحمد والإخوان. وما أشعروا عوائلنا بأنهم في معتقل أو إقامة جبرية مفروضة.
وجاءت أول قطرة من غيث الفرج، فقد أوصل لي مندوب الصليب الأحمر الدولي، رسالة من ولدي عبد الله، في 3 رمضان، لازلت محتفظة بها حتى الآن ضمن أوراقي ووثائقي، نصها:
(سيدي الوالد العزيز الغالي الحنون أحمد (اسم مستعار) حميد الدين، حماكم الله. 
بعد التحية والاحترام.
أبعث إليكم أحر الأشواق، أرجو من الله لكم دوام الصحة والعافية مع أخواتي العزيزات، أحرر لكم وإحنا في البيت معنا فرصة، سبق أن حررت إليكم قبل هذا بنظر والدي إن شاء الله وصل، ولم قد عاد لي جواب عسى أن يكون المانع خير. وأبارك لكم دخول شهر رمضان الكريم، الله يدخله على الجميع باليُمن والبركة.
اهدوا تحياتي لأختي أمة العزيز وإخواني جميعاً، وأيضاً أمي صفية (أم الإمام البدر)، وسيدي شرف الدين (الوالدة حورية)، وسيدي يوسف (الوالدة فاطنة، أم السيف عبدالله)، وأختي أمة الغني وأختي خديجة، وجميع من لديكم، وعماتي من هنا يسلمن عليكم، عمتي أمة الرحمن، وعمتي أم هاني الحسين، وإخوتي في خير، ويسلموا عليكم.
والسلام.. ولدكم المشتاق: عبد الله)
استبشرنا خيراً بالإفراج عن أولادنا الذين كانوا معتقلين في قصر غمدان، وأصبح أملنا قريباً بعد زيارة مندوب الصليب الأحمر الدولي لنا، وها نحن قد أمضينا قرابة ثلاثة أعوام وبضعة أشهر، ونحن بين فظ المعاملة في أغلب الأحيان، ولينها في أحيان أخرى، وخاصة بعد تدخل الصليب الأحمر الدولي، وساءت حالتي الصحية إثر إصابة لحقتني، نتج عنها انزلاق غضروفي بعد أن وقعت عن السلالم في المعتقل، وازدادت الحالة، فأحضروا طبيباً روسياً اسمه روسي، ولما عاين إصابتي، ألزم بضرورة إجراء عملية جراحية عاجلة، وحيث إنهم لا يريدون علاجي في اليمن، لعله لأسباب فنية طبية، مما مهد لبعض الأصدقاء بالتعاون مع ابنتي أمة العزيز فسمحوا لي ولبناتي بالسفر.

السفر ورحلة العذاب
ووقعت في مشكلة أخرى؛ فما تعودت السفر إلا في صحبة آمنة، أو مع محرم، وكتبت لخالي إسماعيل غمضان أنقل إليه ما توصلنا إليه، وكان رده كما توقعت منه إيجاباً، ووافق على مرافقتي وبناتي في السفر، وحين حصلت الموافقة أبلغناهم بتيسير أمورنا، وظهر أمامي عائق آخر، فقد استدعي خالي إلى الجهة المسؤولة عندهم. وبعد أخذ ورد؛ أخذوا على خالي إسماعيل كفالة، وتعهد بمقتضاها ألا نمكث في بيته إلا يومين اثنين فقط، تحت طائلة العقوبة والحبس، ووقع خالي على التعهد، وقدم الكفلاء، وجاء إلينا وقد تهلل وجهه بالفرح والسرور، ووصلت وثيقة إطلاق سراحنا، ونصها:
(تقية بنت يحيى حميد الدين، وبناتها أمة المغيث ووداد ونبيلة وأمة العزيز). 
السيد ضابط بستان الخير؛ يكون تسليم السيد إسماعيل غمضان المذكورات، وهن تقية وبناتها أمة المغيث، ووداد ونبيلة وأمة العزيز، الجملة خمس حسب الأمر من السيد وزير الداخلية، عطفاً عن أمر رئيس الجمهورية، والمحال إلى إدارة المباحث العامة بإطلاق سراح المذكورات.
ملاحظة: الأمر محفوظ لدينا. الختم والتوقيع
تطلّب أمر إطلاقنا إذن موافقة رئيس الجمهورية عبد الله السلال، فعلاج مريضة أصبحت حركتها صعبة، وآلامها مبرحة، احتاج كل هذه التدخلات، ثم إلى وزارة الداخلية وإلى المباحث العامة، كما حُذِّر ضابط بستان الخير من تجاوز العدد، الجملة خمس، والأمر محفوظ لديهم.
والمهم قد حانت ساعة الفرج، وبدأنا نعد أنفسنا للرحيل، ووصل خالي إسماعيل بسيارتين، وتعمدت أن أجلس في السيارة التي ركبها خالي وقلت له: مستحيل أن أدخل بيتك.
عندها وجم خالي من هول المفاجأة.
قلت له: أنت تعرف الكفالة والتعهد اللذين التزمت بهما، وأخشى أن يقع ما لا تحمد عقباه، وهم الآن يتربصون أي فعل يصدر منا أو منك، وبين القبول والرفض، رضي أن نستقر في بيت ابنته.
أطلق سراحنا من معتقل بستان الخير، ولا وثائق لدينا؛ لا جوازات سفر، ولا بطاقات شخصية، ولا حتى ورقة رسمية، وسفرنا يقتضي جوازات سفر، وبطاقات (تذاكر سفر)، وبدأ خالي يجري من دائرة إلى دائرة، ومن مسؤول إلى مسؤول، يريد جوازات سفر حتى نستطيع الرحيل، وتمضي الأيام، أسبوع ثم أسبوعان ولا بارقة أمل، وزاد قلقي. قلت لهم: لعلهم تراجعوا عن إطلاق سراحنا، فتجاربنا معهم مريرة، أما خالي ففي كل يوم يختلق عذراً يهون علي، ففي اليوم التالي يقول إن شاء الله ستحل الأمور، وستفرج بإذن الله.
وذات يوم ناديت خالي، وقلت له بكل الصراحة والجد، ماذا يجري؟ أريد أن أعرف الآن، وإلا فإني عائدة وبناتي إلى معتقل بستان الخير. عندها نطق خالي وقال: لم يوافقوا على إعطاء أي فرد من آل حميد الدين، ومن يمت لهم بصلة جوازات سفر يمنية بأي حال من الأحوال.
وصدمت صدمة عنيفة، ودار في فكري خاطران:
أولهما: خوفي على خالي إسماعيل فهو دائم الرعاية لنا، ووقَّع تعهداً وكفالة بيومين لا أكثر ولا أقل، وقد مضى علينا أسبوعان.
وثانيهما: لماذا يجردوننا من جوازات بلدي اليمن، هل يريدون اعتبارنا لسنا من أهل اليمن؟ يعيبون على والدي الإمام يحيى، وعلى أخي الإمام أحمد أنهم كانوا يدققون جوازات كل أجنبي قادم إلى اليمن، ويفرضون قيوداً على سفر بعض المشبوهين، ولكن ما صدر يوماً من والدي ولا من أخي حرمان أحد من جواز سفره اليمني، ولو تجاوزنا ذلك، فإن هؤلاء الجدد وبكل صلافة، أصدروا قرارات بحرماننا من بلدنا، وما سمعت بذلك في العالم أجمع إلا منهم. أصولنا ضاربة جذورها في أعماق تراب اليمن منذ آلاف السنين، ولكن كيف نتدبر الأمر؟
أمسكت قلمي، وكتبت رسالة إلى الشيخ صالح بن ناجي الرويشان، أطلب إليه العمل على عودتنا إلى المعتقل ودون أن يعرف خالي، فلما عرف عاتبني، لماذا فعلت هذا يا تقية؟ الفرج قريب بإذن الله، وأجبته: إن اضطراري للسفر لم يصل لدرجة أن أضحي بك فينالك الضر بسببي، والكفالة والتعهد سيفان مسلطان على رقابنا جميعاً، فوعدني ببذلل الجهد والتعاون مع الشيخ المذكور رحمه الله.
وبالفعل؛ فقد أرسلوا لنا بطاقات سفر فقط بعد ثلاثة أسابيع.
وفي آخر ليلة اجتمع الأقارب والأصدقاء لوداعنا، وتوسمت من الجميع المشاركة الفعالة في اجتياز المحنة.
قال خالي: أرى أن نسافر بالسيارات إلى تعز، ومن تعز يكون السفر إلى إثيوبيا بالطيران الإثيوبي، وعلينا انتظار قدوم الطيران، ولهذا ننزل في يريم في بيت القاضي عبد الوهاب الزبيري، وقد سافر القاضي عبد الوهاب بالفعل، ليكون في استقبالنا وتجهيز المنزل الذي سنقيم فيه، وكان القاضي عبد الوهاب الزبيري من كبار التجار المعدودين في اليمن، وهو صديق حميم لخالي إسماعيل.
فكان جوابي: مستحيل أن ننزل ضيوفاً عند القاضي عبد الوهاب الزبيري ولا غيره، لا أقبل أن ألحق أي مشقة أو ضرر بك ولا بصديقك، فأنت تعلم أن عيونهم كثيرون، وهم يحاولون إيجاد أي سبب لمنع سفرنا، وأمام إصراري واصلت سيارتنا طريقها إلى تعز، ونزلنا في فندق الإخوة في تعز، بانتظار الطائرة الإثيوبية.
كانت بناتي قد ارتحن، وبدت حالة الانبساط والسرور ظاهرة على وجوههن، حتى أنا، وإن كنت أتحسب لمواقف مفاجئة، فقد أبديت نوعاً من الانشراح، وهدوء الأعصاب.
يتبع العدد القادم