وليد مانع / لا ميديا

ما الذي يقصده علي شريعتي ببناء الذات الثورية؟
هذا ما يجيب عليه في كتابه، الذي يحمل هذا العنوان، منذ البداية، بالقول: «ليس المقصود هنا ببناء الذات أن نفعل كما يفعل المرتاضون أو الرهبان أو العُبَّاد من أتباع أي دين، منفصلين عن العصر وعن العلاقات السائدة التي ينبغي أن توجد بين الذات والمجتمع... كما أن المقصود ليس أن نفعل كما يفعل الماركسيون، الذي يعتبرون أن بناء الذات مجرد وسيلة تعدنا للاشتراك في حركة سياسية عصرية».
لكن بناء الذات معناه بحسب علي شريعتي: "إعداد الذات ثورياً في صورة أصل وأصالة وهدف".
هذا معناه أن تجتهد لكي يحصل الجوهر الوجودي لذاتك على تكامله، وهو ما "يستتبع الاشتراك في القدر الشعبي، الذي يستوجبه تكاملنا وإنسانيتنا".
وبناء الذات ثورياً يقتضي أولا الاعتراف بالأصول التالية:
1 - إن للإنسان دوراً مزدوجاً؛ في مسيرته التاريخية، وفي تغيير نظامه الاجتماعي. وينبه "شريعتي" إلى أنه لا يقصد بهذا عبادة الفرد، أو تقديس الزعيم؛ "فكل ذلك شرك وكفر وآفة. ما نقصده هو الإيمان بوعي الإنسان وإرادته، واعتبارهما علة في مسيرة التاريخ الجبرية والتطورات الاجتماعية، المعتمدة في حد ذاتها على القواعد العلمية والأسباب والعوامل المادية، وهي العلاقة نفسها بين الإنسان والطبيعة".
2 - لا يمكن للإنسان أن يبقى مخلصاً وصادقاً في ثورة اجتماعية حتى النهاية، إلا إذا كان ثورياً قبلها ومتسقاً معها. "فالإنسان الثوري ليس الذي يشترك في ثورة اجتماعية فحسب، فما أكثر الانتهازيين والمغامرين والنفعيين الذين يشتركون فيها"، وهؤلاء هم جرثومة الثورات والانتفاضات. الإنسان "الثوري قبل كل شيء جوهر أعيدت صياغته". إنه ذات بُنيت أيديولوجياً، لا ذاتاً موروثة عن التقاليد والغريزة.
3 - إن الإنسان - فردا ومجتمعا - ليس على الدوام وليد أو ربيب بيئته، الطبيعية المادية أو الجغرافية، والاجتماعية أو الطبقية، والتاريخية. و"مع الاعتراف بكل هذه العوامل، يمكن القول بأن الإنسان يستطيع أن يكون من صنع نفسه، أي أن يكون شريكاً في بناء ذاته. ولا ينبغي أن يجرنا هذا القول بأن الإنسان جوهر مجرد ومنفصل عن بيئته الطبيعية والاجتماعية وعن حركة التاريخ الجبري".
ومثلما أن الإنسان "في مجال الطبيعة يستطيع بعمله العلمي أن يغير الطبيعة، كما يستطيع عن طريق أيديولوجيا اجتماعية أن يغير نظامه الاجتماعي، فإنه يستطيع أن يغير ذاته بالعمل في حقل ذاته... ومن هنا فإن بناء الذات واقع علمي عيني شأنه شأن بناء المجتمع وبناء الطبيعة، ويزيد عليه بأنه رسالة إنسانية".
يستفيض "شريعتي" في شرح هذا الأمر بدءاً من منطلق الفهم القرآني للإنسان، باعتباره قبضة من طين الأرض، ونفخة من روح الله؛ الأولى تشده إلى الأسفل، والثانية تجذبه نحو السماء... ثم يخلص إلى أنه "ينبغي أن يكون لبناء الذات هدف. وإن ما يعطي لبناء الذات معنى هو وجود أيديولوجيا ومثال... فما هي أيديولوجيتنا؟".
قبل ذلك، وعلى الدوام، ينبغي أن نظل نغذي خوفنا الداخلي في ذواتنا من أن نسقط في "الاغتراب عن الذات". و"أعظم مصائب الاغتراب عن الذات هو التقليد"، فبالتقليد يظل الإنسان سجينا في واحد أو أكثر من الأطر المحددة له سلفاً. وتلك الأطر ليست كلها قديمة، فقد يسيطر عليك "إحساس كاذب" بأنك قد تخلصت من الأطر القديمة الموروثة، لكنك لم تتحرر منها بنفسك، بل قد تكون بعض الأطر أو القوى العصرية قد جذبتك إلى تقليدها، فنقلتك من سجن الموروثات، إلى سجنها هي.
ولكي تحرر ذاتك من كل ذلك، فإن "أول خطوة هي اكتشاف الذات والإيمان بظروفها الإنسانية... العودة الواعية إلى القيم الإنسانية التي كانت لدينا وسُلبت منا".
"إن إنسان الغد هو الإنسان الذي يفكر ووجهه متجه نحو الغد، وسيكون جديراً بالتحرر من كل السجون، القديمة والحالية، الموروثة أو التي أملاها علينا الاستعمار".
أما "أيديولوجيا الغد، وهي نتيجة تجارب عديدة اكتسبتها الإنسانية بأثمان باهظة: متاهات وطرق مسدودة، فإنها رجعة عن كل الطرق التي لم تؤدِّ إلى خلاص الإنسان، أو لم تكشف عوامل الإخفاق التي تسببت بانكسار المثاليات الكبرى".
لكن أيديولوجيا الغد لا تعني القطيعة الباتة مع الماضي/ التاريخ... ذلك أن التاريخ شهد الكثير من المثاليات العظمى، التي كان الإنسان هدفها النبيل.
وبالاستنباط والدراسة يمكننا معرفة أن التاريخ قد اختار لنا ثلاثة أسس هي التي قام عليها نجاح المثاليات العظيمة. هذه الأسس هي:
أولا: الإحساس العرفاني، أو التصوف الممتزج بالبحث المعرفي. وهذا هو ما يعطي جوهر الإنسان دافعا للانجذاب الوجودي نحو القيم السامية، ويعطيه طاقة الاندفاع أيضا. ذلك أن "ما خلقه العشق والعبادة في تاريخ الإنسان يعد أغنى كنوز الثقافة. هو قيمة التاريخ وجماله. هو الذي جعل من أناس بسطاء عواصف عظيمة...".
ثانيا: التطور الإنساني، "وحين أقول: الإنساني، فإنني لا أقصد أولئك المتنعمين في كل مجتمع ونظام، فهؤلاء طفح على وجه المجتمع البشري، ولكني أقصد الجموع التي لا حصر لها، والتي شكلت على مر التاريخ، ولا تزال، الأرضية الأساسية للبشرية. أقصد هؤلاء المنتجين على الدوام والمحرومين في الوقت نفسه، الذين يقدمون الطعام وهم جياع في الوقت نفسه. تلك الجموع التي قطعت بالتاريخ مسار تطوره نحو اكتشاف قيمها وحقوقها، وبالتالي اكتشاف مشكلاتها، وأعدائها الطبقيين، وكل القوى والنظم التي استضعفتها".
بعبارة أخرى: "إن تبلور شخصية الجموع التي لا شخصية لها، في سبيل العدالة والمساواة الإنسانية، أو بالأحرى إزالة الفوارق بين الطبقات، هذا التبلور في تقدم مستمر، وهو البعد الثاني من أبعاد التاريخ في مسيرته الحتمية".
ثالثا: الإنسان من صنع الطبيعة لكنه سيطر عليها وجعلها ذات دور سلبي، مثلما أنه من صنع التاريخ ولكنه صار يصنع التاريخ. والإنسان "بسيطرته على التاريخ يصنع نظامه الاجتماعي ويفرضه. وبسيطرته على نفسه وغرائزه فإنه يغلب الإنسان المثالي على الإنسان الواقعي".
فبسيطرة الإنسان على غرائزه ونفسه يتحرر من إسار واقعه، ومن استسلامه، ويتدرج في مراقي العلو... يتحرر مما هو كائن ليصبح ما ينبغي أن يكون. يتحرر من كل السجون التي تضغط عليه. والإنسان المتحرك هو فقط الذي يمكنه ذلك، وهو البعد الثالث للتاريخ في مسيرته نحو الحرية.
أما السجون التي تضغط على الإنسان وتقيد حريته فتتمثل في:
1 - الطبيعة والجغرافيا، وهذه يمكن للإنسان أن يتحرر منها بالعلوم الطبيعية والتكنولوجيا.
2 - حتمية التاريخ، وهذه يمكن التحرر منها باكتشاف قوانين التاريخ وتطوره وتكامله.
3 - النظام الاجتماعي والطبقي، وهذا يمكن التحرر منه بأيديولوجيا ثورية.
4 - النفس، وهذه يمكن التحرر منها ببناء الذات ثورياً.
ثم يورد "شريعتي" نماذج هي أشبه بأدلة على طريق التحرر من كل هذه السجون:
باسكال: هذا الجوهر للعشق الذي كان يحس في نفسه عاصفة من القلق الفطري الإنساني التواق للتسامي عن طريق عبادة القيم المطلقة التي تحتوي عليها الألوهية.
ماركس: ذلك الرجل الذي استخدم كل شيء في انتفاضته ليمنع استغلال الأقلية لأكثرية محرومة ومستضعفة، واستخدم علمه لأجل إثبات حق الجماهير التي لم يكن لها حق، في أي نظام، إلا العمل والجوع، وحتى النَّفَس الأخير ظل يكره القهر والظلم والرأسمالية والحياة المنحلة للبرجوازية في زمانه، والخداع والجهل والاحتيال الفكري الذي يمارس باسم الدين...
سارتر: ذلك الذي يعتبر الحرية محك الخير والشر، والحق والباطل... وبلغ إيمانه بالإرادة الإنسانية حدا جعله يقول: "لو أن مشلولا لم يصبح بطلا في الجري فإنه هو المسؤول"، وهو الذي اشتهرت مقولته: "قد أختلف معك في الرأي، لكن سأضحي بنفسي دفاعا عن حقك في التعبير عن رأيك"...
هذه نماذج يمكن أن يسترشد بها المفكر الغربي... أما في الشرق فيمكن الاسترشاد بأمثال:
الحلاج: البحر البُركاني الذي يتموج حتى قاعه.
مُزْدُك: الرجل الذي حرر نعم الحياة من سجن المِلْكية الخاصة قبل ماركس بألف ومائتي سنة... وكافح ضد "جمع الذهب" و"جمع النساء" عند حلف الأكاسرة ورجال الدين...
أما بالنسبة للمسترشد المسلم، وعلى وجه الخصوص إذا كان ملتزماً، فإن لديه شخصية امتزجت فيها كل هذه الشخصيات؛ إنه علي بن أبي طالب، الأكثر حساسية من مزدك، والأكثر ثورية من ماركس، والأكثر عشقاً وإحساساً عرفانياً من الحلاج، والأكثر احتراماً لحقوق الإنسان وحرية الفكر...
خلاصة الأمر أن لبناء الذات الثورية أسساً لا يمكن أن يتم بدونها مجتمعة، وهي:
العبادة، العمل، والنضال الاجتماعي.
ولأهمية الحديث عن هذه الأسس، التي يفرد لها "شريعتي" المساحة الأوسع في كتابه هذا، رأينا أن نجعلها موضوع جزء ثان، حلقة قادمة، من هذا العرض الموجز.