علي نعمان المقطري / #لا_ميديا -

تواجه أمريكا الآن في ظل ترامب تحديات لم تواجهها من قبل في منطقتنا العربية والإسلامية والآسيوية، وخاصة في العراق، منذ الهزيمة الكارثية في فيتنام وفي شرق آسيا، ومنذ الخروج الأمريكي المهين من العراق نهاية العام 2011 بعد مقاومة مسلحة شعبية ضارية للاحتلال الأمريكي استمرت سنوات طويلة أودت بآلاف الجنود الأمريكيين ومرتزقتهم وكبدتهم خسائر مهولة لم يعرفوها من أيام فيتنام وأكثر مما فقده في فيتنام بعشرات الأضعاف، حيث اعترفوا بأنهم قد خسروا أموالا تفوق السبعة تريليونات دولار في العراق، وهي أكثر مما خسروه في فيتنام، حيث بلغت خسائرهم المالية في فيتنام مبلغ 150 مليار دولار مقابل 7 تريليونات دولار في العراق، وهي بنسبة 1 إلى 20 ضعفاً تقريباً، رغم أن الخسائر البشرية والمعدات كانت في فيتنام أكثر بما لا يقاس، أي أن تكاليف الحرب قد تضاعفت بهذه الأحجام خلال مرحلتي الحرب هنا وهناك، مما يضاعف مصاعب الحرب الأمريكية، وهو ما يضيف إلى التحدي تحديات مضاعفة أمام الأمريكيين في ظل أزماتهم الاقتصادية المستفحلة.

كما تواجه أمريكا جبهة سخط عالمية واسعة ومقاومة لرفض الوجود العسكري والسياسي والاحتلال الأمريكي الشامل، جبهة متعددة الأشكال تمتد من شرق آسيا الصين وفيتنام وكمبوديا ولاوس وكوريا والفلبين، وحتى أفغانستان وروسيا وباكستان وإيران والعراق وسوريا وفلسطين ولبنان واليمن والبحرين والصومال والجزائر وتونس وفنزويلا وتشيلي وبوليفيا والبرازيل والسلفادور والمكسيك وكولومبيا وبنما وجواتيمالا وجنوب أفريقيا وموزمبيق وأنجولا واليونان وتركيا... وعشرات الدول والأمم والشعوب تنهض الآن تدريجيا في كل مكان وبصور مختلفة وبمستويات متعددة من الوعي والإرادة، وأمامها هدف واحد ورغبة مصيرية واحدة مشتركة يتم التعبير عنها بصور وأشكال مختلفة، لكن جوهرها واحد، ومآلاتها واحدة في كل مكان، وهي التحرر من السيطرة الأجنبية والهيمنة الغربية  التي تخنق حريات ومئات الشعوب والأمم والدول ومليارات من البشر عبر العالم، مما يجعل الحرب والمواجهات المحتملة والمنازعات واردة وقائمة، ولا تبقى تلك الدول تحت السيطرة إلى الآن إلا بواسطة القوة والتضليل والفساد وخيانة النخب المالية المحلية الفاسدة العميلة والقوات والأجهزة الأمريكية والقواعد العسكرية المنتشرة أو المنشورة عبر العالم الثالث المنهوب كله، ولولا القواعد الأمريكية العتيدة المذخرة جيدا بالمعدات والقوات لما بقي ذكر لتلك الأنظمة والكيانات التابعة منذ زمن بعيد. والنتيجة المترتبة حتميا على وضع استراتيجي كهذا هي أن أغلب القوات الأمريكية تتواجد داخل تلك القواعد المنتشرة في الخارج والتي بها تسيطر على المواقع الاستراتيجية في المحيطات والبحار والجزر والبلدان والحكومات اللقيطة، وهي قواعد تندرج تحت عدد من المناطق العسكرية الكبرى التي تسمى القيادات المركزية والوسطى وقيادة شرق آسيا والباسفيكي وأوروبا وغيرها من التشكيلات والمناطق والقيادات.
ما يهمنا هنا هو أن ثلاثاً من المناطق العسكرية الأمريكية الكبرى تتواجد في منطقتنا العربية والإسلامية والآسيوية، ومنها منطقتان تتوجدان على الأراضي العربية مباشرة، وهما:
ـ المنطقة المركزية، وتتركز في الخليج والجزيرة العربية وغرب آسيا، وهي منخرطة بصورة مباشرة وغير مباشرة في الأرض في سوريا والعراق ولبنان والأردن والسعودية والبحرين والخليج وغيرها.
ـ المنطقة الوسطى، وتتركز في بحارنا وفي جوارنا وممراتنا وجزرنا وفي مداخل ديارنا وبحارنا، وتتولى قيادة العمليات الحربية العدوانية السعودية الإماراتية الصهيونية المشتركة، وتشارك فيها بقواتها وأدواتها. 
فأمريكا منذ زمن طويل منخرطة أصلاً في أنشطة حربية سرية وعلنية، حارة وباردة، ولذلك فهي عمليا قد استزفت قسما كبيرا من قواها الحربية من نواحٍ عديدة.

 أزمات بنيوية عسكرية
تقارير البنتاجون التقييمية السنوية حول جاهزية القوات الأمريكية للحرب والمعركة، وهي تقارير قدمت إلى الكونجرس ومؤسسات الدولة فهي جادة وحقيقية وليست مجرد تسريبات صحفية، بل هي أزمات بنيوية عسكرية، هذه التقارير تقول إن مستوى جاهزية القوات الأمريكية للحرب لا تصل إلى 30٪ وتتكرر تلك التقديرات متقاربة بين عام وآخر، وهو ما يعني أن تلك القوات الموزعة على أكثر من 100 بلد ومنطقة حول العالم تأتي في الطليعة من حيث ضعف الجاهزية القتالية الحربية، أي أن نسبة جهوزيتها أقل من نسبة 30٪   المذكورة.
والنتيجة هي أن القدرة القتالية لتلك القوات ضعيفة، وأكثر منها ضعفا روحها المعنوية، وهو أهم عوامل الحرب  وكسب الحروب والقتال. ولذلك هي ليست في وارد الاستعداد لحرب كبرى حقيقية في مواجهة دول كبرى، ولذلك هي تلتزم بممارسة هوايتها المعهودة في وجه المساكين دولا وشعوباً، وهي حروب التخريب والتجسس والانقلابات والمؤامرات الخارجية  والداخلية واغتيالات الزعماء والقادة وتصديع البلدان التحررية وتقسيمها وإثارة الحروب الأهلية واحتلال البلاد الضعيفة لإرهاب البلدان الأقوى المخيفة لها، التي تفر من مواجهتها مباشرة فتلجأ إلى استئجار المرتزقة والأوباش والمخابيل والتكفيرين والإرهابيين، وهي عاجزة عن تحريك جيوشها البعيدة في ظل نشوء مراكز قوة ناهضة جديدة مقاومة لسيطرة إمبريالية الولايات المتحدة.
إذن لا بد من الاستخلاص أن الولايات المتحدة تحتاج وقتا أطول من الإعداد وإعادة التدريب والتهيئة لقواتها إذا قررت أن تخوض حربا في مكان واحد، فما بالك أن تكون في منطقتنا الملتهبة.

 عجز أمريكي فاضح
 انظروا إلى أفغانستان، فبعد عقدين من الزمن وقفت أمريكا عاجزة عن إحكام سيطرتها وسيطرة اتباعها على البلاد، وهي مجرد قوات عصابات قبلية خفيفة التسليح، ومازالت أمريكا تبحث عن أسلوب للخروج من هناك بأمان ومضطرة إلى إجراء مفاوضات رسمية مع طالبان بعد قرابة العقدين من احتلال البلاد، مازالت أمريكا تتوسل أن يسمحوا لها أن تخرج بأمان بعد أن استنزفت ماديا وبشريا ومعنويا.
تآكل أكبر موازنة عسكرية في التاريخ
تنفق الولايات المتحدة على قواتها أكثر من 800 مليار دولار سنوياً، ومازالت تشكو من الحاجة إلى المزيد من الأموال، حيث إن الموازنات الحكومية تذهب غالبتها إلى جيوب الاحتكارات الصناعية الكبرى التي تعتبرها بمثابة الحبل السري الذي يمتص الأموال من الشعوب إلى الاحتكارات الاستعمارية. إنها أكبر جهاز للفساد والاختلاسات في العالم وفي التاريخ. نفقات فلكية تجد طريقها دوما إلى مخازن الشركات العملاقة.
نفقات فلكية كبرى لا مقارنة بينها وبين نفقات الصين التي تبلغ الآن 200 مليار دولار فقط، أي أقل بثلاثة أضعاف مما تنفقه أمريكا، ومع ذلك فالنتيجة هي أن الصين تتصاعد قوتها باستمرار، بينما تتراجع قوة أمريكا باستمرار.
كذلك انظروا إلى موازنة روسيا العسكرية التي لا تتجاوز 60 مليار دولار في العام، وهي أقل بأكثر من عشرة أضعاف مما تنفقه الولايات المتحدة، ومع ذلك تفاجئنا روسيا كل يوم بسلاح جديد.
تبدو أمريكا أمام روسيا عاجزة مشلولة. تذكرون الصواريخ التي أطلقتها أمريكا على سوريا قبل عامين وكيف تم إسقاطها بالجملة قبل وصولها إلى القواعد المستهدفة، حيث أطلقت 113 صاروخ كروز حديثاً ومجنحاً من بوارج قريبة في المتوسط، أُسقطت منها 100 صاروخ في الجو والباقي وقعت خارج المواقع المستهدفة. أما صواريخ فرنسا التي أطلقتها تضامنا مع ترامب فقد سقطت جميعها في البحر ولم تصل إلى الجو السوري، ولن يختلف وضع بريطانيا العظمى العسكري، فتلك دول قد نخرها طاعون الفساد والتكبر والاحتيال والظلم، وقديما قال عنها الزعيم ماوتسي تونغ: «إنها نمور من ورق الكرتون»، وهي كذلك، وكل يوم نرى هذه الحقيقة المدهشة، وسنرى المزيد والمزيد.

احتكارات تجارة الحروب
هل يعقل أن نفقات أمريكا العسكرية في العراق وأفغانستان بلغت أكثر من 7 تريليونات دولار حتى العام 2008 فقط؟! وهذا من أفواه الرؤساء الأمريكيين أنفسهم، وهي كلها ديون مازالت تتراكم وتتضاعف مع فوائدها وخدماتها على الحكومة الأمريكية وعلى دافع الضرائب الأمريكي.
وهناك أكثر من 4 تريليونات دولار أنفقتها أمريكا وحلفاؤها ووكلاؤها في سوريا منذ العام 2011 حسب شهادة الأمير القطري الشهير حمد بن جاسم، الذي كان أحد الصقور الكبار في الحرب على سوريا العربية الصامدة.
ونقارن هذا بما تكلفته أمريكا من نفقات حربها في فيتنام طوال عشر سنوات والتي بلغت 160 مليار دولار وخسرت من الجنود الأمريكيين الرسمين قرابة 59 ألف جندي، بخلاف الموظفين والمرتزقة الأجانب والقطاع الخاص الأمريكي، بينما خسرت في العراق وحدها 5 آلاف جندي تقريبا، وهي في فيتنام قد استهلكت أضعاف ما استنزفته في العراق من البشر والمعدات فقد بلغت خسائرها من الطائرات الحربية على اختلاف أنواعها أكثر من 10 آلاف طائرة أسقطتها الصواريخ الفيتنامية السوفييتية الصنع، وآلاف الدبابات والمدرعات والمدافع والآليات، كانت قواتها في فيتنام قد تجاوزت في أعدادها أكثر من 3 ملايين جندي أمريكي وفيتنامي جنوبي مرتزق، أما في العراق وأفغانستان فلم تتجاوز أعدادها الـ300 ألف جندي، وقد واجهت مقاومة شعبية عراقية خفيفة التسليح، فلم تتجاوز أدواتها المفخخات والمدافع والقواذف وبقايا مخلفات الجيش العراقي.

لعبة الحروب والنفقات
 والسؤال هنا هو: من أي بئر تغرف أمريكا الأموال؟ أمريكا قد أصرت أن تشعل الحروب حتى آخر مليار دولار سعودي خليجي، وليس مهماً أن تكسبها، المهم في لعبة الأمم أن تستمر اللعبة، لعبة الحرب والسلام، لأن توقفها يعني الأزمات الداخلية الأمريكية، وركود المجمع الصناعي العسكري الأمريكي وتكدس السلع الحربية التي لا تجد لها أسواقا ولا طلبا، فالحروب وسيلة بقاء الإمبراطوريات والملوك والأمراء والسلاطين، وليس هناك أفضل من لحظات الحرب كفرصة لنهب مقدرات الشعوب، فالحروب المقدسة هي أنسب الشعارات وأقربها إلى قلوب السذج من المواطنين دافعي الضرائب، وقد قال جورج بوش الابن بصراحة إنه يخوض حربا صليبية مقدسة جديدة بأمر من الخالق الذي أوحى إليه أن يخوض حربا ضد صدام حسين الشرير.

سمسار وليس زعيماً سياسياً
الرؤساء الأمريكيون لا يمثلون الشعب الذي يغتصبون إرادته بأموال الشركات الكبرى التي تأتي بهم ليمثلوها، وهي تختار من يمثلونها كرؤساء مهمتهم أن يجلبوا الأموال الدولية والأموال العامة والثروات الوطنية نحو سبيل الشركات الاحتكارية الكبرى، عبر إثارة الحروب في العالم، واختلاق أعداء خارجيين أشرار دوما، وكلما تم اجتثاث عدو شرير يتم اختلاق عدو جديد، فأمريكا لا تستطيع البقاء والعيش دون أعداء أشرار جدد يولدون كل يوم في معاملها وثكناتها.
إن الشر والإسراف هما الجزء الجوهري الأساسي الذي يكونها كإمبراطورية منذ ولادتها ويربط بين أقسامها وأجزائها، ومعنى هذا أن تكاليف الحروب الأمريكية الجديدة تذهب معظمها إلى جيوب الكبار من أصحاب الاحتكارات الكبرى، ولذلك فإن أولى واجبات الرئيس الأمريكي هو البحث عن الشر والحروب التي يمكن استغلالها لصالح الشركات الكبرى التي أتت به.

أمريكا تحفر جحيماً لقواتها
التشتيت العسكري للقوات الأمريكية وبعدها عن قواعدها ومسارحها يجعل حركتها تحت رصد وسيطرة القوى التحررية الصاروخية والجوية وغيرها. وليس هناك قوات مشتتة في العالم كما هو حال القوات الأمريكية التي تتوزع على ألف موقع ومنطقة متباعدة عبر القارات الثلاث في العالم، حيث تتوزع في قواعد حربية كثيرة، وهي بهذا أكثر ما تكون معرضة للهزيمة والانكسارات أمام أول تحدٍّ كبير بحجم الصين أو روسيا أو إيران أو أي دولة قوية وجادة. ونعرف بمنطق علم الحرب أن أول شروط كسب الحرب هو التركيز الكبير للقوات وقربها من ميدان المعارك، وأيضاً قصر خطوطها للوصول العاجل الآمن إلى الميدان وعدم وجود ما يهدد خطوط اتصالاتها البرية والبحرية والجوية وجوارها الجغرافي البري، واعتمادها على قوى مشاة كافية والاستناد إلى الشعب في مظلوميته وأحقيته، وعدم الركون إلى القوات الجوية وحدها، أو الاعتماد على المرتزقة وحروب الوكالة بأجيالها الجديدة، لأن ركونها إلى قواتها الجوية فقط والاعتماد على المرتزقة لا يكسبها الحروب مهما طالت ومهما أنفقت.
فهل القوات الأمريكية، التي تستفز التحديات وتكثر الاستعراضات والتهديدات والعدوان، قادرة فعلاً على إنزال الهزائم بالقوى والشعوب التحررية في المنطقة؟! أم أنها مازالت تلعق جراحاتها في معارك العراق وفيتنام وسوريا واليمن ولبنان وغيرها؟
ولننظر إذن في الواقع، هل تأمن أمريكا على خطوطها الممتدة من المحيط الأطلسي إلى البحر المتوسط إلى بحر الصين الجنوبي إلى البحر الأحمر إلى المحيط الهندي إلى الخليج العربي وبحر العرب وفارس؟ وهل تسيطر أمريكا على أجواء المنطقة بالمطلق، وهي المنطقة التي تحضرها لتكون ساحة عدوانها الجديد؟! أم هي في الواقع تحفر الجحيم لقواتها؟ ربما هي تعلم ذلك؛ لكن مصالح الكبار تعلو فوق كل صوت.