علي نعمان المقطري / #لا_ميديا -

تعاني الولايات المتحدة واستراتيجياتها الحربية في المنطقة الآسيوية والعالم من ثغرات  وإخفاقات عضوية وبنيوية لا فكاك منها تجعلها عاجزة عن الوقوف على قدميها في أية  مواجهة عسكرية كبرى في المنطقة، خاصة وهي تقف في موقف المعتدي كما هي  عليه الآن وكما كانت دوما، فالعدوانية هي سمة أساسية في صلب تكوينها وفي جذورها  ونشأتها، فهي امتداد للعدوان ضد الشعوب الأصلية في القارة الأمريكية، ولذلك فما  إن قامت حتى باشرت حروب العدوان والتوسع على حساب جيرانها ومحيطها الجغرافي. 
 والآن هي تستهدف بعدوانها دولا استقلالية كبرى وقوى مقاومة تحررية  خبيرة بالحروب الوطنية التحررية، ليست أقل خطرا عليها من فيتنام  والصين وروسيا، ولذلك نضع في هذه المقاربة التحليلية صورة  موضوعية لأهم ثغراتها الاستراتيجية والتكتيكية التي تتخلل  بنيانها العسكري والاستراتيجي والحربي العام، وأهمها:
 • افتقارها متطلبات الحروب الكبيرة:
لا يمكن لدولة في العالم أن تلجأ إلى الحرب إذا كان اقتصادها مأزوماً وهي عاجزة عن توفير الاعتمادات اللازمة بدون إعاقة أو عقبات، لأن الحروب هي لعبة الدول الثرية القادرة على فرض معادلات اقتصادية سياسية جديدة بما لديها من فوائض مالية ومن طاقات وقوى إضافية وإلا فإنها سرعان ما تقع أسيرة أهداف وإرادة دول أقوى منها اقتصاديا وسياسيا.
ولا بد للدولة أن تمتلك موارد استراتيجية كبرى وما زالت في ذروة شبابها وحيويتها ولم تبلغ عتبات الأزمات والشيخوخة، وأن تكون قادرة على المزيد من مضاعفة النفقات اعتمادا على ذاتها حتى لا تقع رهن إرادة الغير، فالعديد من الدول تخسر الحرب ليس لأنها ضعيفة عسكريا، بل لأنها ضعيفة اقتصاديا، وهناك علاقة تلازم بين القدرة الاقتصادية والقدرة العسكرية والحربية، وأمريكا تعاني من انكسار المتلازمة السابقة.
• أزمة اقتصادية مستحكمة:
 إن أزمة الاقتصاد الأمريكي وعجزه عن تمويل نفقات أية حرب قادمة إلا عبر المزيد من الديون، يجعلها رهينة إرادة دول أجنبية، ومعنى هذا أن مصير حرب دولة الولايات المتحدة العظمى قد صار معقودا بأيدي الممولين والدائنين، وكثيرا منهم هم خصوم، مباشرون أو غير مباشرين، للأمريكي.
• الديون الأمريكية الفلكية:
الديون الأمريكية الهائلة البالغة أكثر من 60 تريليون دولار، منها 30 تريليون دولار للخارج وأهمها الصين واليابان وألمانيا، وهو دين يتضاعف دون توقف، ولا بد أن يقود إلى انهيارات هائلة.
لم تكن أزمة الرهن العقاري في العام 2008 سوى لعبة أطفال بالنسبة لما ينتظر الاقتصاد الأمريكي، بسبب الدين الهائل الذي يتزايد ويتضاعف بانتظام، وهو يشير بوضوح إلى أن الدولة الأمريكية عاجزة عن معالجة مشكلات اقتصادها وديونها الهائلة، وبقاؤها دون انفجار مدوي إلى الآن ناتج عن تفاهمات دولية بين أطراف قوى المال الدوليين، وهي قوى أغلبها معادية للهيمنة الأمريكية، كالصين وألمانيا واليابان والهند والبرازيل وروسيا وإيران. وإلى الآن منذ حرب فيتنام والديون تتصاعد في متوالية مستمرة دون توقف أو علاج أو تراجع في معدلاتها، بل على العكس تتضاعف كل عدة سنوات.
فقد بدأت مع مطلع السبعينيات بمبلغ وصل منتصف العقد إلى 160 مليار دولار، ثم تواصل في الزيادة، وفي العام 90 كان الدين الخارجي الأمريكي قد وصل إلى 500 مليار دولار. وكان هذا التزايد في ميزان الدين الخارجي والداخلي ناتجا عن الاختلال في ميزان المدفوعات التجاري بين الاستيراد والتصدير من وإلى السوق الأمريكية. وحقيقة هذا الاختلال أن الإنتاج الأمريكي من السلع لم يعد يغطي الطلبات الداخلية، فيتم التوجه إلى استيرادها من السوق الخارجية بنسبة تتجاوز قدرة ما توفره من مدخرات داخلية من العملات الصعبة. كما صاحب ذلك عجز في ميزان النفقات والموارد الوطنية لصالح ميزان النفقات المتجاوزة لقدرة الحكومة الأمريكية على توفير الأموال المطلوبة لتغطية متطلبات الإنفاق على أنشطتها الجارية واليومية وبرامجها وتحركاتها، مما يجبرها على اللجوء إلى الاستدانة من الصناديق الأجنبية والمحلية باستمرار لقاء فوائد مرتفعة وسندات خزينة ورهون عقارية، والنتيجة أن الديون تزداد يوميا وتتضاعف، وقد وصل الاقتصاد الأمريكي إلى مرحلة مخيفة تهدد الاقتصاد العالمي، نتيجة كونه الأكبر من حيث حجم تعاملاته وديونه وطبيعة دور الدولار كعملة عالمية بدون الغطاء اللازم، مما يعرضه للانهيار في أية لحظة، وهو ما يهدد بقية الاقتصادات المرتبطة به شرقا وغربا. وقد وصل العجز السنوي في الموازنة الأمريكية العامة إلى ما يزيد عن تريليون دولار سنويا، وهو يطابق مقدار الدين السنوي الأمريكي، مع العلم أنه قابل للزيادة في معدله السنوي باستمرار، أي أنه يرتفع في مقداره بشكل مطرد، فكل عام جديد يكون أكثر من العام الذي سبقه بمقدار كبير، وهذه خطورة مركبة لا يمكن احتمالها طويلا. ضف إلى ذلك النتائج الاجتماعية المرعبة لهذا الانهيار، حيث هناك بطالة تصل إلى 20 مليون عاطل عن العمل، وهناك بؤساء يزيد مقدارهم كل عام، ويصل عددهم إلى أكثر من 50 مليون بائس وجائع ومشرد ومحروم. وهناك المخدرات التي تستعبد أكثر من 60 ـ 80 مليون أمريكي وفقا لإحصائيات المراكز الأمريكية نفسها، إضافة إلى الجرائم المنظمة التي تسيطر على قطاع واسع من المجتمع مستغلة الفساد والانحلال العام وغياب العدالة الحقيقية، فكل شيء يخدم في حقيقته الأغنياء البيض.
• سيطرة قوى عمالقة المال:
يعتبر سلاح المال إحدى أهم أدوات الصراع الخفي والدولي بين أطراف وكتل القوى الاقتصادية الصاعدة والقديمة، فحيث ينتقل اتجاه المال والموارد والإنتاج والتنمية الشاملة تتجه أسباب القوة والمنعة والغلبة. وتقف الصين اليوم عملاقا هائل القوة ماليا وإنتاجيا وصناعيا وسكانيا وتقنيا وعلميا، وهي في موقف المدافع عن أرضها وسيادتها ووحدتها واستقلالها، حيث تسيطر الدولة الوطنية على أهم الصناعات العسكرية والاستراتيجية الكبرى وتسيطر على الثروات الوطنية العامة باسم الشعب لا باسم مجموعة من المحتكرين الأفراد القلائل كما هو الحال في أمريكا، ولذلك فإن أهم الموارد الوطنية تذهب إلى الدولة الوطنية، دولة الشعب القومية العامة، مما يجعل الدولة الوطنية تتوفر على قدرات مالية هائلة لا يمكن مقارنتها بالدول الليبرالية الغربية والأمريكية، كما تحتفظ بإرادة مستقلة كبيرة وكاملة في التعبير عن مصالح البلاد القومية العامة. أما في أمريكا والغرب فإن الثروة الوطنية تحت سيطرة الاحتكارات وفي أيدي مجموعة من الشركات والمالكين الكبار لا يزيدون عن نصف في المائة من الشعب، وهذه النخبة الأقلية هي التي تسيطر على المال والسلطة وعلى قرارات الحرب والسلام.
إن عقدة التناقض بين المصالح العامة والخاصة وتغليب المصالح الخاصة هو ما يدفع الإمبراطوريات العظمى إلى مسار الانتحار والهلاك. وقد رأينا هذا في الإمبراطورية اليابانية والألمانية والعثمانية وغيرها، فهل كانت ألمانيا ستثير الحربين العالميتين لولا المصالح الخاصة للشركات الصناعية العسكرية الألمانية؟ وهل كانت ألمانيا المجنونة ستسير خلف هتلر في احتلاله للاتحاد السوفييتي وشرق أوروبا معا متجاوزا طاقاته الحيوية وقدراته العسكرية والبشرية وسكانه الذين لم يكونوا يزيدون عن 50 مليون نسمة آنذاك، ولم يكن حينها يملك الكثير من الموارد الطبيعية ولا مصادر الطاقة بحيث يتورط منفرداً بلا حلفاء مؤثرين في حروب عالمية شاملة الكوكب الأرضي، لولا أن خلف ذلك الجنون كانت أطماع شركات السلاح والصناعات الحربية الألمانية وشركة "رون تروب" الكبرى التي أرادت الحصول على مزيد من المستعمرات وتسويق السلاح المكدس وتحريك عجلات الصناعة الألمانية العسكرية التي أعاقتها اتفاقيات ومعاهدات بوتسدام للسلام التي تقيد صناعة الأسلحة الألمانية؟! لقد كان الاقتصاد الألماني المركزي قائماً في قسم كبير منه على البنية العسكرية الامبريالية التي تضخمت منذ الانتصار الألماني على الإمبراطورية الفرنسية في حرب 1870م، وسلخ الأقاليم الفرنسية الحدودية، وإجبارها على دفع خسائر الحرب وتكاليفها التي وصلت إلى 7 مليارات مارك ذهبي، استغلتها ألمانيا في بناء قاعدة صناعية ضخمة نقلتها إلى المرتبة الثانية عالميا.
كانت قوى وشركات السلاح في ألمانيا هي التي صنعت النازية والأسطورة الهتلرية، وهي التي مولت حملات هتلر والنازية في صعودها إلى الحكم ووقفت خلفها تجني الأرباح، سواء كسبت النازية الألمانية الحرب أم خسرتها، المهم أن تكسب الشركة الاحتكارية.
وفي أمريكا كانت وماتزال شركات السلاح الضخمة هي اللوبي الرئيسي الذي يحرك السياسات الأمريكية. وعندما سئل أحد وزراء الدفاع الأمريكيين في الكونجرس خلال حرب فيتنام وكان مالكا لشركة "جنرال إلكتريك" المتخصصة في صناعة الطائرات الحربية من طراز فانتوم التي تباع للحكومة: "هل الحرب الحالية تخدم أمريكا؟"، أجاب بأن ما يخدم "جنرال إلكتريك" يخدم أمريكا، وما يفيد "جنرال إلكتريك" يفيد أمريكا، وهذا هو المعيار الذي تقاس بموجبه قرارات الحرب والسلام. وهذا يكشف مدى الضلال الذي تعيشه أمريكا من قبل قادتها الذين في حقيقتهم يمثلون شركاتهم الكبرى وليس أمريكا الشعب الذي يرزح أغلبيته تحت نير الفقر والمخدرات والتضليل والبؤس والجريمة المنظمة والعنصرية والعرقية البغيضة، ولذلك قد تتمكن العصابات الحاكمة هناك من إطلاق شياطين الحرب من عقالها، لكنها لا تستطيع كسبها، لأنها في الوقت نفسه لا تملك مقومات كسبها من الأساس، نتيجة ما تعانيه من معضلات ومشكلات وأزمات وانتكاسات.