أحمد رفعت يوسف - دمشق -

يحمل المشهد في شرق المتوسط بعد تفجير مرفأ بيروت والجمر تحت الرماد السوري، صورة سوريالية أوضح السيد حسن نصر الله الكثير من تفاصيلها في كلمته بمناسبة ذكرى انتصار تموز، لكن حتى تتوضح الصورة أكثر لا بد من شرح بعض التفاصيل.
أمريكا أعلنت عن إرسال 4 سفن حربية إلى بيروت تقول إنها محملة بالمساعدات الطبية والتموينية، وهي أيضاً ممتلئة بالجنود والعتاد الحربي.
بريطانيا أرسلت بارجة حربية تضم قوات خاصة في الجيش البريطاني، والعنوان حماية مرفأ بيروت.
فرنسا أعلنت إرسالها حاملة الطائرات شارل ديغول وحاملة طائرات مروحية وفرقاطة تضم فرق إنزال برمائية تقول إنها محملة بالمساعدات الطبية والتموينية وعبوات المياه، والعنوان إغاثة المتضررين من انفجار مرفأ بيروت.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: أية مساعدات إنسانية ومواد إغاثة لا تأتي إلا بالسفن الحربية وحاملات الطائرات المدججة بالجنود والمعدات الحربية؟!
بالتأكيد ما يجري ليس مساعدات إنسانية، وإنما هناك شيء ما يحضّر للتنفيذ فيما لو استطاعوا، وكله تحت ستار المساعدات الإنسانية... فماذا يجري وأي خطط يتم الإعداد لها؟!
نستطيع القول إن تحالف العدوان الغربي مأزوم بشكل حقيقي بعد فشله في سورية التي كانت نقطة التحول في فشل مخططاته في المنطقة، وبعد فشله في اليمن وفشله في تطويع إيران وتآكل قدرة الولايات المتحدة على تسيير الجيوش وخوض المعارك على غرار غزو العراق وأفغانستان، والأهم تآكل قدرة الكيان الصهيوني على العدوان كما حدث عام 1982، وما محاولة استغلاله الوضع في سورية لتنفيذ بعض الاعتداءات هنا أو هناك إلا للإيهام باستمرار قدرته على الفعل، لكن كل محاولات عدوانه لم تغير من معادلة توازن القوى ومسار الأمور الذي يسير لغير صالحه.
يضاف إلى ذلك التهديد الحقيقي الذي باتت تشكله الصين على مكانة الولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الرأسمالي ككل، والصعود الروسي المتسارع وتحديداً في المجال العسكري، لتأتي تداعيات جائحة كورونا لتكشف هشاشة دول المجتمع الرأسمالي من الداخل.
هذه التحولات الجيوسياسية وضعت ساسة الغرب وقادته السياسيين والعسكريين أمام تحدي وجود وحياة لأول مرة في تاريخ العالم الرأسمالي، ومن غير المعقول القبول بالأمر الواقع الذي يعني الاستسلام وقبول الانهيار.
لو كانت منظومة العدوان الرأسمالية المتوحشة نجحت في سورية وتالياً في اليمن والعراق وفلسطين ولبنان لما كنا وصلنا إلى ما نحن فيه الآن ولا إلى جائحة كورونا، وكانوا سيطروا على كامل المنطقة وكامل المنابع الأساسية للنفط والغاز وخطوط نقلها، وتمكنوا من خنق الصين وروسيا ووقف صعودهما، أما وقد فشلوا في سورية والمنطقة فكان لبنان البلد الوحيد المتبقي لتجربة تحقيق ما فشلوا فيه بسبب صمود سورية.
لا يمكن النظر إلى كل ما يجري في لبنان وخصوصاً التحشيد العسكري وحتى الإعلان تحت ستار الدخان المتصاعد من مرفأ بيروت عن تطبيع العلاقات مع نظام الإمارات، إلا من هذه الزاوية.
يحلو للبعض تشبيه ما يجري بعد مقتل رئيس وزراء لبنان السبق رفيق الحريري عام 2005، لكن واقع الأمر ما يجري يذكرنا تماماً بأحداث العام 1982 عندما تم تجهيز حشد غير مسبوق في سواحل بيروت وشرق المتوسط من حاملات طائرات وبوارج الأطلسي وغزو إسرائيل للبنان ووصول دبابات شارون إلى بيروت، وحتى ندرك ما يجري وعلاقته بما يجري حالياً لا بد من التذكير بالمحطة الفاصلة في تلك الأحداث.
على وقع دبابات شارون في بيروت والحشود العسكرية لقوات الأطلسي في سواحل بيروت يومها جاء وزير الخارجية الأمريكي وارن كريستوفر إلى دمشق للقاء الرئيس الراحل حافظ الأسد، لا ليفاوضه وإنما ليبلغه بأن دمشق ساقطة عسكرياً، وقدم له جملة من الطلبات تشبه بشكل أو بآخر ما يتم طلبه بخصوص المقاومة اللبنانية حالياً.
يومها تبسم الرئيس الأسد ابتسامة لم يفهمها كريستوفر المنفوخ بالقوة العسكرية في شرق المتوسط، وغادر دمشق بانتظار تلقي صك الاستسلام من الرئيس الأسد، لكن ما حدث لم يكن يتوقعه أحد.
بعد 24 ساعة كانت السفارة الأمريكية ومقر المارينز الأمريكي والسفارة الفرنسية في بيروت ركاماً تدفن تحتها جنرالات وضباط استخبارات وبعض الدبلوماسيين، ممن كانوا يتهيؤون لإدارة حرب تحويل كامل منطقة المشرق العربي إلى محمية أطلسية بإدارة صهيونية.
بعد 24 ساعة أخرى لم تبق في شرق المتوسط أية سفينة حربية ولا عنصر من حلف الأطلسي في حادثة مازال خبراء الأطلسي يبحثون عن أسرارها حتى الآن، وبعدها تغير كل شيء في شرق المتوسط.
ابتسامة الرئيس الأسد الأب لكريستوفر يشبهها اليوم الهدوء الكبير الذي طبع كلمة السيد نصر الله بالأمس استكمالاً لصورة ما يحدث اليوم، وليؤكد أن ما يجري اليوم صحيح أنه شبيه في الشكل والأهداف بما حدث في 1982، لكن الكثير من الأمور تغيرت بين التاريخين، فأمريكا لم تعد كما كانت، والأطلسي أيضاً لم يعد كما كان، ودبابات شارون التي كانت في بيروت لا تجرؤ اليوم على مجرد التفكير بتجاوز الخط الأزرق على الحدود ولو لمسافة متر واحد، لأن المقاومة توقف جيش العدو الإسرائيلي على «رجل ونص».
رسمت رسائل نصر الله الواضحة والبليغة وإلى عناوين محددة ومعروفة الصورة الحقيقية للمشهد اليوم، فمشروع الشرق الأوسط الجديد سقط، وكل سفنهم أو جيوشهم أو تموضعاتهم الحربية لا تقلقنا.
أما مخاطبته جمهور المقاومة «حافظوا على غضبكم فقد نحتاجه في يوم ما لننهي محاولات جر لبنان لحرب أهلية»، هذا يعني أننا مقبلون على خطوات على الأرض لتغيير المشهد بشكل نهائي وبعكس ما يريده حلف العدوان.
هي فترة أقصاها الانتخابات الأمريكية، وبعدها سنرى تبدلات المشهد في كامل جبهات المنطقة لصالح حلف المقاومة. وإن غداً لناظره قريب.