خـاص دمشق  - أحمد رفعت يوسف / لا ميديا -
يبدو أن العداء لتركيا في سورية بات النقطة الوحيدة التي تتوافق عليها الولايات المتحدة وروسيا هذه الأيام، والمفاجآت السلبية تتوالى على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من موسكو وواشنطن فيما يخص الوضع في سورية.
فأردوغان ذهب إلى نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة كالطاووس وهو يتوقع أنه سيلتقي الرئيس الأمريكي جو بايدن فتنمر على روسيا والرئيس بوتين شخصياً، وأطلق سلسلة من المواقف المعادية لدور روسيا في سورية وأوكرانيا وأذربيحان وأكد عدم اعترافه بضم روسيا لشبه جزيرة القرم، ورافق كل ذلك المشاركة في مناورات عسكرية أطلسية في البحر الأسود اعتبرتها روسيا استفزازاً لها ومخالفة للتفاهمات الدولية، لكن الرئيس بايدن وجه له صفعة مؤلمة وغير متوقعة برفضه اللقاء به، فعاد إلى أنقرة كالديك المنتوف الريش، وأطلق هو ووزير خارجيته مولود جاويش أوغلو سلسلة من المواقف حول أمريكا وبحق الرئيس بايدن شخصياً، حيث اتهمه "بدعم الإرهاب"، ويقصد بذلك وحدات حماية الشعب الكردية. وأضاف: "آن الأوان بالنسبة إلى أمريكا للخروج من هذه المنطقة وتركها للشعب السوري".
الموقف التركي كرره وزير خارجيته مولود أوغلو الذي قال إن "الولايات المتحدة تدعم الجماعات الإرهابية في سورية لتقسيمها، وهي غير صادقة بشأن وجودها في سورية لمكافحة داعش، وهي التي نقلت مقاتلي داعش من سورية إلى أفغانستان".
وأضاف: "إذا قررت الولايات المتحدة مغادرة سورية، فهذا خيارها، لكن يجب أن تعرف أنها ليست في سورية بدعوة، وليس لديها حدود مشتركة. أما نحن هناك لأن لدينا حدوداً مشتركة، ولدينا الحق في أن نكون هناك، لكننا ندعم وحدة أراضي سورية".
وتزامن الموقف الأمريكي من تركيا مع رفض واشنطن بيع أنقرة طائرات (إف-35)، رغم أنها شريكة في تصنيعها بحوالى مليار دولار، وتلا ذلك رفض بيع أنقرة 40 طائرة من طراز (إف-16)، وتحديث حوالى 200 طائرة يملكها سلاح الجو التركي ولم تعد تواكب تكنولوجيا الطائرات المقاتلة.
أردوغان، الذي عاد خائباً من نيويورك، حاول هذه المرة الاستقواء على أمريكا بروسيا والرئيس بوتين في قمة سوتشي، لكنه جاء إلى سوتشي بأوراق حرقها بيديه وهو في طريقه إلى نيويورك، ليستقبله الرئيس بوتين حوالى ثلاث ساعات منفرد به، ولم يعقد بعدها مؤتمراً صحفياً، ولم يصدر حتى بيان مشترك حول المحادثات، في خطوة أجمع المراقبون على أنها تشير إلى أن أردوغان كان يستمع فيها إلى إملاءات روسية أكثر مما كان لقاء أو محادثات بين الرئيسين، وأجمعت الآراء وتحليلات وسائل الإعلام وفي مقدمتها التركية على تأكيد أن آمال أردوغان خابت هناك أيضا، حيث فشل في إقناع الرئيس بوتين بخططه في إدلب وشمال سورية، ودعاه بوتين لتطبيق ما اتفقا عليه في سوتشي وموسكو وإلا عليه التنحي جانباً لعمل عسكري لإنجاز المهمة.
لم يكد أردوغان يصحو من هذه الخيبات حتى جاءت الرسالة التي بعث بها الرئيس جو بايدن لرئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي لتمديد حالة الطوارئ الخاصة بسورية، والتي سبق أن أعلنها الرئيس ترامب في الـ14 من تشرين الأول/ أكتوبر 2019، حيث أشار إلى "الفعاليات العسكرية التركية شمال شرق سورية"، وقال: "إن ذلك يعرقل مساعينا للقضاء على داعش، ويمثل خطراً على المدنيين، ويستهدف الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة، كما يمثّل خطراً كبيراً على الأمن القومي لأمريكا ولسياساتها الخارجية".
بالتأكيد هي ليست سذاجة سياسية من أردوغان، وإنما هي سياسة اللعب على هوامش التناقضات الإقليمية والدولية، التي طبعت سياسات أردوغان منذ البداية، وخاصة مع العدوان المستمر على سورية منذ أكثر من عشر سنوات. لكن من سوء حظه أن هذه الهوامش بدأت تضيق حتى وصلت إلى درجة بدأت تشد بقوة على خناقه شخصياً، وعلى مكانة تركيا ودورها بشكل عام.
صحيفة "لي اكسبريس" الفرنسية لخصت المصير الذي وصل إليه أردوغان بالقول: "إن أردوغان الذي كان ضعيفاً وعدوانياً أصبح وحيداً بشكل متزايد على الساحة الدولية".
وأضافت أنّ "الرئيس التركي، الذي تتجاهله الولايات المتحدة وتحتقره روسيا، يدفع ثمن تحولاته وانفجاراته"، مشيرة إلى أنّه "لم يعد له الحق في ارتكاب الأخطاء مع نسبة شعبية تقل عن 35٪، وأزمة اقتصادية تزداد سوءاً كل يوم، وفضائح لم يعد بإمكانه تجاهلها".
أما النتيجة الأهم فقد عبرت عنها مجلة "فورين بوليسي"، والتي لخصت موقف تركيا والمصير الذي وصلت إليه في عهد أردوغان بتحليل نشرته في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري تحت عنوان: "أردوغان سيمنعه اشتداد المرض من الاستمرار بقيادة البلاد"، وخلصت فيه إلى أن النتائج التي ولدها التخبط الذي انتهجه أردوغان في سياسته تجاه سورية والتدخل العسكري فيها إضافة إلى دعم المجموعات المسلحة ضد جيشها وسيادتها، قد حولت تركيا بعد عشر سنوات إلى دولة مستنزفة في سورية.
أما الباحث الاستراتيجي في مركز كارنيجي الأمريكي، فرانشيسكو سيكاردي، فقد قال في بحث نشره في 14 سبتمبر/ أيلول الماضي إن "القيادة السورية تمكنت من إلحاق الضرر بالسياسة الخارجية التركية وفرضت ثمناً تدفعه تركيا في علاقاتها مع روسيا وإيران وأوروبا وأمريكا بسبب سياسة التدخل العسكري في سورية نتيجة ردود فعل هذه الدول على سياسة أردوغان".
ويشير سيكاردي إلى أن "المضاعفات العميقة التي خلفتها سياسة التخبط الأردوغانية على الوضع التركي الداخلي الاقتصادي والاجتماعي بعد انهيار العملة التركية وعلى المؤسسة العسكرية قد ألحقت الضرر بعلاقات مختلف المكونات التركية وتماسكها الوطني".
ومع هذا الوضع تبدو روسيا، وقد أصبح ضمها لشبه جزيرة القرم من الماضي، ولن يغير أو يقدم موقف أردوغان منها شيئاً، وهي ممسكة بالورقة الأوكرانية بقوة وكذلك في أذربيجان، لتبقى قضية الوجود التركي غير الشرعي في سورية، وتحديداً في إدلب، هي الورقة المفتوحة والساخنة إلى الدرجة التي تقترب من الغليان، وهي التي ستكون المؤشر إلى مسار العلاقات ومستقبلها بين روسيا وتركيا، وهي كذلك بالنسبة للولايات المتحدة مع عدد من الملفات الأخرى في المنطقة والعالم.
مع هذه التطورات المهمة جداً تبدو سورية في وضع أكثر ارتياحاً واطمئناناً، وهي ترى تركيا وعدوها اللدود أردوغان في هذه المآزق العميقة، خاصة وأن هذه التطورات تتزامن مع وضع يشاهد فيه المسؤولون السوريون، وفي مقدمتهم الرئيس بشار الأسد، كيف تتهاوى سياسات الحصار والضغوط عليها، والمترافقة مع الانفتاح العربي والدولي على سورية بضوء أصفر أمريكي، يتوقع أن يصبح أخضر مع التطورات المتسارعة التي تشهدها المنطقة، ومنها الحديث عن قرب الانسحاب الأمريكي من سورية، ومحاولة إدارة بايدن تأمين ظروف انسحاب تحفظ ماء وجه أمريكا حتى لا تتكرر تداعيات الانسحاب من أفغانسنان، وهو ما يصب كله في صالح سورية وصالح حلفائها وأصدقائها وتحديداً في حلف المقاومة، فيما يعتبر كارثة على تركيا وأردوغان شخصيا.
هذه التطورات باتت تشكل فرصة سانحة لاستكمال مهمة تحرير إدلب من الاحتلال التركي، ومن المجموعات الإرهابية المسلحة التي تعمل بإمرة تركيا وبإشرافها. والجيش السوري أصبح جاهزاً لإنجاز المهمة، بانتظار اختيار التوقيت المناسب، باعتبار أن الوضع في إدلب يتجاوز الموضوع السوري، بسبب وصول الأمور إلى لحظة تتطلب فيها اتخاذ قرار إقليمي ودولي حول المجموعات الإرهابية التي تجمعت فيها، وهو ما يجري بحثه وراء الكواليس السياسية والعسكرية وخاصة بين الولايات المتحدة وروسيا، وهذا الملف الشائك كان مدار بحث معمق بين مستشاري الأمن القومي في البلدين في جنيف لمدة ست ساعات، حيث يتوقع أن يعاد تدوير قادة هذه المجموعات من قبل الولايات المتحدة لاستخدامهم في أماكن أخرى، وهو ما تؤكده المهمات التي تقوم بها الطائرات المروحية الأمريكية التي تحط في قواعدها في سورية وتنقل أشخاصاً تؤكد المعلومات والتسريبات الإعلامية أنها تقوم بنقل من تريد إعادة استخدامهم ونقلهم الى أماكن أخرى ومنها أفغانستان، وترك من تبقى منهم يلاقي مصيره المحتوم، مع ما يعني ذلك من ضرر لا يمكن تجاوزه بسهولة لتركيا وأردوغان.
وبانتظار ساعة الحسم وتحديد ساعة الصفر لبدء معركة تحرير إدلب يقف الجيش السوري في حالة تأهب بانتظار تلقي الأوامر، ويجري التمهيد لذلك عبر ضربات صاروخية وغارات جوية سورية روسية على مقرات القيادة ومخازن الأسلحة والإمداد اللوجستي لهذه المجموعات الإرهابية المسلحة، وهذا يتم تحت أنظار تركيا ووحداتها العسكرية المنتشرة في 79 نقطة في إدلب تحت ستار نقاط المراقبة، في رسالة واضحة لتركيا تقول إن معركة تحرير إدلب اقتربت ولا رجعة عنها، وعلى تركيا إما التنحي جانبا لإنجاز المهمة وتحمل مسؤولية ذلك في الداخل التركي، وإما المعاندة بارتكاب حماقة كبرى بمحاولة إنقاذ المجموعات الإرهابية وحينها ستكون بانتظار هزيمة مذلة لها ولجيشها وسيكون ثمنها باهظاً جدا.
هي أيام لن تطول، وسنكون أمام نتائج التحولات الإقليمية التي فرضها انتصار سورية وحلفائها على كل أشكال الحروب التي تعرضت لها إقليمياً ودولياً بقيادة أمريكية و"إسرائيلية"، ومع كل معركة سيكون هناك أطراف منتصرة وأخرى مهزومة، ومن الطبيعي أن تفرض سورية المنتصرة شروطها على المهزومين وتنتقل مع حلفائها على مستوى المنطقة نحو تمتين هذا التحالف وحصد استحقاقات انتصاره.