خاص - دمشق أحمد رفعت يوسـف / لا ميديا -
في خطوة تم انتظارها طويلاً، جرى في دمشق التوقيع بين سورية والصين على اتفاق للتعاون في مشروع "الحزام والطريق" الصيني.
قد يبدو الاتفاق في ظاهره اتفاقاً ثنائياً بين دمشق وبكين، لكن تأثيراته ومؤشراته الاقتصادية والسياسية تتجاوز الساحة السورية، لأنه يحسم نقاشات وصراعات ظاهرة وخفية استغرق سنوات طويلة حول تحديد توجهات المنطقة، وتحديد خيارتها السياسية والاقتصادية، وتحديد حجوم وأدوار دولها في المنظومة الإقليمية والدولية التي تتشكل وستحكم العالم في المستقبل، ومن أهم هذه المؤشرات:
ـ الاتفاق جاء بعد مناقشات دامت منذ العام 2017 كانت الصين خلالها مترددة في دخولها إلى السوق السورية بسبب ضبابية الصورة في الميدان السوري، ويؤكد حسم الصين لترددها، وتوقيع الاتفاق لم يكن ليتم لولا تأكدها من انتصار الدولة السورية على محاولة إسقاطها في براثن مشروع "الشرق الأوسط الجديد" الذي كان أحد أهم أهدافه محاصرة الصين، ليصبح الميدان السوري في هذا الصراع خط الدفاع الأول عن الصين كما كان عن روسيا وإيران.
ـ حسم الصين لاختيارها الموانئ السورية كنافذة لها نحو أوروبا، بعد الصراع الكبير حول هذا الموضوع خصوصاً مع محاولات الكيان الصهيوني اتخاذ ميناء حيفا لهذا الدور، بخاصة وأن ميناء حيفا تشغله شركات صينية، وتم تدمير ميناء بيروت لهذه الغاية، وجرت محاولات لتدمير ميناء اللاذقية، وهذا ما ظهر من خلال العدوان الصهيوني على الميناء مرتين الشهر الماضي.
ـ حسم الصراع مع تركيا التي كانت تطمح لأخذ دور رئيسي لها في المنظومة الإقليمية والدولية التي تتشكل، لكن التوجه الصيني نحو سورية يؤكد أن بكين لن تنسى الدور العدواني لتركيا بعد مساهمتها المباشرة في مشروع "الشرق الأوسط الجديد" ومخططه لحصار الصين وجلب الإرهابيين (الإيغور) إلى سورية للمشاركة في محاولة إسقاطها، وإعادتهم لاحقاً لاستكمال دورهم التخريبي في الصين.
ـ الاتفاق جاء مكملاً للاتفاق الاستراتيجي الصيني - الإيراني.
ـ الاتفاق يشجع العراق للعودة إلى الاتفاق الاستراتيجي الذي وقعته حكومة عادل عبدالمهدي، مع الصين، وأسقطته الولايات المتحدة، وهي الخطوة الضرورية لاستكمال تأمين طريق الحرير الصيني الجديد عبر إيران والعراق وصولاً إلى سورية، مع ما يعني ذلك من وقوف الصين مع خيار حلف المقاومة لإخراج الأمريكيين من كامل المنطقة.
ـ الاتفاق يعني لاحقاً ربط لبنان والأردن به، مع ما يعني ذلك من حسم الصراع الكبير حول هوية لبنان وتشجيع حسم خياره نحو الشرق.
وبموجب الاتفاق ستقيم الصين مشاريع ضخمة في سورية، تتضمن الموانئ، والبنى التحتية، والطرقات البرية "أوتوسترادات" تربط سورية بدول الجوار، وكذلك الربط بالسكك الحديدية مع العراق وإيران.
ويبدو أن دمشق نجحت في تحقيق أكثر من هدف بوقت واحد، إذ نجحت في وضع قرارها الاستراتيجي "التوجه شرقاً" موضع التنفيذ، ونجحت في جذب الصين لاتخاذها محطة رئيسية في مشروع "الحزام والطريق"، مع ما يعني ذلك من مشاركة صينية تحتاجها سورية في مرحلة إعادة البناء والإعمار، وضخ مليارات الدولارات الصينية في سورية، في مشاريع استراتيجية وحيوية للاقتصاد السوري ويريحها من الابتزاز الأوروبي والأمريكي في موضوع إعادة الإعمار.
كما أن الصين تدرك أن دخول شركاتها ومؤسساتها المالية والمصرفية وإقامة صناعات تشاركية مع سورية تعني تحدي العقوبات والضغوط الأمريكية والأوروبية على سورية، وهذا يؤكد وجود استراتيجية صينية لمجابهة هذه العقوبات والضغوط أبعد من سورية، وهذا يجعل العقوبات على سورية مجرد تفصيل صغير.
هذه التوجهات أكدها رئيس هيئة التخطيط والتعاون الدولي السوري الدكتور فادي سلطي الخليل، الذي وقع المذكرة نيابةً عن الحكومة السورية، وقال في تصريحات صحفية إن التوقيع على المذكرة "يساعد على فتح آفاقٍ بعيدةٍ من التعاون مع الصين.. وذلك في عدة مجالات تتضمن تبادل السلع والتكنولوجيا، ورؤوس الأموال، وحركة الأفراد، والتبادل الثقافي.. وتسهيل التبادل التجاري، وإعادة إعمار البنى التحتية، والطاقة الكهربائية والطاقة البديلة".
ولفت الخليل إلى أنه تم تقديم عدة مقترحات لربط مجموعة من الطرق البحرية والبرية لتسهيل التبادل التجاري مع الدول المجاورة وإنشاء مناطق تجارية ومحطات توليد كهرباء، وهذه المقترحات تسهم بعملية التنمية الاقتصادية عبر مشاركة الشركات الصينية بمرحلة إعادة الإعمار إلى جانب التغلب على العقوبات القسرية الأحادية الجانب المفروضة على سورية.
أما السفير الصيني في دمشق فنغ بياو فقد أكد أن توقيع مذكرة التفاهم "يعمق التعاون بين البلدين بما يقدمه من مساهمة في إعادة الإعمار الاقتصادي والتنمية الاجتماعية في سورية، كما أنه يعزز المواءمة بين مبادرة الحزام الاقتصادي لطريق الحرير واستراتيجية التوجه شرقاً المطروحة من قبل سورية".
وفي قراءة للفعاليات الاقتصادية السورية للاتفاق مع الصين أكد الخبير الاقتصادي والصناعي السوري عاطف طيفور أن الاتفاق أعمق بكثير من مجرد عبور الترانزيت والتبادل التجاري بين البلدين، وقال لـ"لا": "دخول سورية بهذه الاتفاقية يفتح آفاقاً اقتصادية متعددة بدايتها البنية التحتية الإنشائية للطرقات والموانئ والمطارات والكهرباء والنفط، وفي مرحلة لاحقة البنية التحتية العقارية والمصرفية والسياحية والصناعية والزراعية، وبمرحلة متقدمة تدخل هيئة ضمان القروض والمخاطر الصينية وتنطلق المصارف والشركات والقروض الاستثمارية، ويدخل أكبر رأسمال بالعالم إلى السوق السورية".
وفي قراءته لأبعاد الاتفاق سياسياً واستراتيجياً قال طيفور: "إن الموقع الاستراتيجي السوري عبر التاريخ لطريق الحرير والتبادل التجاري وخطوط الإمداد التجاري والنفطي ومعبر المتوسط للقارة الأوروبية سيعود للواجهة العالمية مع مشروع "الحزام والطريق" المتجدد، وحاجة الصين لموارد النفط من الدول الصديقة والحليفة ستفتح أفق الاستثمار بالقطاع النفطي السوري، وحاجة الصين للمواد الأولية الزراعية والصناعية ستفتح أفقاً واسعاً للاستثمار الزراعي والصناعي والموارد الباطنية بالتوسع الإنتاجي والصادرات".
أما المحلل الاقتصادي والسياسي الدكتور شادي أحمد شادي فقد أوضح لـ"لا" أن الصين عندما أطلقت مشروعها "الحزام والطريق" على ستة محاور لم تكن تشمل سورية، بسبب الوضع الأمني والحاجة إلى فترة طويلة من أجل الاستقرار الأمني لكي ينتج استقرارا سياسياً واقتصادياً، وبعد المؤشرات الكبيرة التي حدثت على الساحة السورية عادت القيادة الصينية لتعتبرها منصة مهمة جداً لتستكمل ربط هذه المحاور الستة.. ولتكون سورية جزءاً مهماً من هذا المشروع.
وحول أهمية موقع سورية للمشروع الصيني قال د. شادي: "إن الصين تعتبر سورية الإطلالة الأهم والأقوى على شرق المتوسط، وبالتالي تعطي أهمية كبرى لشبكة الطرق والجسور والمواصلات والإمدادات اللوجستية التي تريدها الصين مع أوروبا، وعلى الرغم من أن مصر أحد المرتكزات الأساسية للمشروع، ولكن سورية تملك مزايا تفضيلية مهمة جداً تستطيع بها الصين ربط هذه المسارات بالمنصة السورية لتستكمل الدائرة الاقتصادية المطلوبة".
وبالنسبة إلى سورية أضاف: "هناك فوائد مهمة جدا للربط بهذا المشروع، لأن التكامل الإقليمي وببعده الدولي سيصبح متاحاً بشكل كبير للاقتصاد السوري، الذي يتوقع أنه قادم على عملية كبيرة جداً، وهي عملية إعادة الإعمار.. والفوائد السورية لن تقتصر على تجارة الترانزيت، وإنما سيكون هناك بعد استثماري، يتعلق بمشاريع سوف تستهدف الطاقة وإنتاج المواد الأساسية والأولية، لاستكمال الحلقة الاقتصادية التي تستهدف الصين الوصول إليها".
الآن وبعد توقيع الاتفاق السوري الصيني للتعاون في مشروع "الحزام والطريق" لم يتردد المراقبون في دمشق بالقول إنه يؤشر إلى تغيرات استراتيجية تشهدها المنطقة، وستظهر تداعياتها تباعاً.