غازي المفلحي / لا ميديا -
تصاعدت ظاهرة التسول في بلادنا خلال سنوات العدوان بشكل واسع، وأصبح الشارع بمثابة شركة عملاقة يعمل فيها الآلاف من جميع الأعمار ومن الجنسين. 
يتسول عدد كبير من الناس ولأسباب كثيرة، الحاجة الماسة واحدة منها فقط، ويبقى هناك طابور طويل من الأسباب الأخرى العامل المشترك من بينها أن التسول أصبح وسيلة سهلة ومهنة مربحة.
وبالتوازي مع التفشي الهائل لهذه الظاهرة تنوعت أساليب التسول بهدف استعطاف الناس، وظهرت ممارسات بعضها قد ترقى إلى مصاف جرائم بحق الطفولة.

تفش وبائي
الحقيقة أن ظاهرة التسول لها تاريخ قديم في اليمن، فقد كانت منتشرة في فترة ما قبل العدوان أثناء فترات حكم الأنظمة السابقة، ولكنها تفشت في الوقت الراهن بطريقة «وبائية»، إن صح التعبير، مع تحور الأساليب وتطورها.
مبدئياً، تسبب العدوان والحصار الاقتصادي بشحة مميتة في وسائل ومصادر كسب الرزق، وبالتالي تدني وانعدام دخل الناس، إذ فقد مئات الآلاف مصادر دخلهم الأساسي، فالعدوان تسبب بانهيار اقتصادي للبلد وبلغ الفقر والبطالة مستويات قياسية. وظهرت طبقة واسعة من المسحوقين، ففقد البعض قدرتهم على الصبر وانعدمت حيلتهم لسد جوع بطونهم أو مواجهة المرض والحاجة، فأجبروا على امتهان التسول، بخاصة النساء والأطفال وكبار السن الذين وجدوا أنفسهم بلا معيل أو معين، نتيجة موت الأب المعيل أو الابن أو بسبب حوادث الطلاق، ويضاف إليهم بعض من يعانون من الإعاقة أو من يعانون من أمراض خطيرة وخبيثة.
غير أن هناك نوعاً آخر من المتسولين، وهذا النوع هم أولئك الذين جعلوا من التسول مهنة أساسية لكسب المال؛ وربما هؤلاء يشكلون أغلبية المتسولين المنتشرين في الشوارع.

قصص محكية وأخرى مرئية
على الرغم من أن ظاهرة التسول تبدو عملاً عشوائياً إلا أنها في الحقيقة تتم بشكل منظم بخاصة عند من اتخذوها مهنة لكسب المال. فهم ينتقون أماكنهم وينتشرون في الجولات حيث تتقاطع الشوارع وتتوقف السيارات في انتظار السماح لها بالمرور، كما يتواجدون بجوار محلات الصرافة والمطاعم والمستشفيات وعلى مداخل الأسواق والمساجد وجوار المطاعم، بل إن البعض منهم يمرون على المحلات والمنازل.
ماجد علي، طفل في الـ10 من عمره تقريباً، يتسول كل يوم أمام المطاعم والكافتيريات في شارع الأصبحي في العاصمة صنعاء من ساعات الصباح الباكر وحتى الساعة العاشرة ليلاً. عندما سألناه ما الذي دفعه للتسول؟! أجاب مبرراً بأنه يفعل ذلك ليعيل أسرته ويجمع مصاريف المدرسة، لأن والده متوفى، حسب قوله.
هذه قد تكون أكثر الروايات شيوعاً بين الأطفال المتسولين عندما تسألهم عن دوافع لجوئهم إلى التسول، لكن هناك من يتسول وجزء كبير من قصته ظاهر وليس رواية مغيبة في حكم الشك بين التصديق أو عدمه. «ف.ا» (50 سنة)، تجلس مع أبنها المعاق «أحمد» وهو مقعد على الكرسي والذي يعاني من مرض ذهني خلقي، تجلس على مدخل أحد الأحياء في شارع 22 مايو. تبقى هناك ساعات طويلة من الصباح حتى الليل عرضة لحرارة الشمس والريح والبرد. تقول إن ما أخرجها للتسول هو الفقر الشديد الذي حال بينها وبين توفير لقمة العيش لأولادها الـ4، بالذات أحمد الذي يحتاج متطلبات كثيرة منها الغذائية والعلاجية، وليس لهم معيل بعد أن توفي زوجها.
تجلس «ف.ا» على مدخل الحي بانتظار أصحاب القلوب الرحيمة -حسب قولها- ليساعدوها في النجاة من كل يوم شديد الجوع والحاجة. وتأمل بجلوسها في مدخل ذلك الحي أن يلتفت لها أحد ويسجلها مع ابنها في أي جمعية خيرية خصوصاً وأن كثيراً من أهل ذلك الحي من المغتربين في الولايات المتحدة والخليج، وقد يكون لهم قدرة لمساعدتها، كما تقول.

من حاجة إلى مهنة!
نظرا لأن التسول مهنة مربحة ووسيلة سهلة لجني المال، فقد أصبح قبلة حتى لمن لديه وسائل أخرى للعيش والترزق والكفاح، فالبعض يرسل زوجته وأطفاله للتسول، بينما هو يجلس في البيت منتظرا ما سيجلبونه من طعام و»قات»، وبعضهم أيضاً يكون «مُخزناً» في إحدى زوايا الشارع بينما تقوم زوجته بالتسول.
ويلاحظ أن أكثر المتسولين المنتشرين في الشوارع هم من فئة «أحفاد بلال أو المهمشين»، وهؤلاء مشهورون بإنجاب الكثير من الأطفال، وبالتالي فإن الكثير من أسر هذه الفئة تخرج أطفالها للتسول، فعددهم الكبير يكون جيدا لمزيد من الربح.
وتوجد شبكات للتسول تدار من قبل محترفين في التسول يقسمون الشوارع كمناطق عمل ونفوذ يجب على من يتسول فيها أن يعطيهم بعض المال وإلا ضايقوه وآذوه، بخاصة من الضعفاء كالأطفال والنساء. وبعضهم يستغل ضعف وبراءة الأطفال فيستخدمون المشرّدين منهم ويعلمونهم أساليب التسول، ويكون الأطفال وما يجمعونه من مال تحت إمرتهم، ويبررون ذلك بأنهم يحمون الأطفال من الضياع والموت جوعا ومن استغلالهم.
وكانت الأجهزة الأمنية ألقت القبض مؤخراً على عصابات منظمة تمارس التسول، بحسب ما قاله رئيس لجنة معالجة ظاهرة التسول جلال الرويشان، الذي أوضح أن الأجهزة الأمنية ألقت القبض على عدد من العصابات المنظمة التي تمارس نشاط التسول مستغلة حاجة البعض ومعاناتهم.
وأكد الرويشان أهمية العمل على توفير سبل العيش الكريم للمحتاجين فعلياً من هذه الشريحة بإعادة تأهيلهم ودمجهم في المجتمع.

مشكلة اجتماعية عميقة
تنخر ظاهرة التسول في ثقافة المجتمع اليمني بشكل خطير، إذ صار الكثير من المواطنين يستسهلون مد يدهم للغير بالرغم من قدرتهم على العمل وتوفير الحد الأدنى من سبل العيش.
ومع حالة الناس المعيشية الصعبة العامة يلجأ من يمتهنون التسول إلى أساليب كثيرة لاستعطاف الناس، أدناها التظاهر بأنهم من ذوي العاهات الجسدية، حيث يضعون مواد وصبغات لونية معينة على مناطق من أجسامهم لتبدو كأنها محروقة.
بينما أوسطها، يتمثل في خروج شابات يمنيات للتسول وبالقرب من أسواق القات، حيث قد يصبح الاستغلال والتحرش والاعتداء اللفظي مقابل المال أمراً مألوفاً وشائعاً.
أما أعلاها، فهو أسلوب التسول بالأطفال النائمين الذين تعطى لهم مواد منومة غير معروفة تجعلهم في حالة نوم لأيام طويلة وهم موضوعون على الرصيف وفي الطرقات وتحت لهيب الشمس، في عمل يرقى إلى مصاف جرائم بحق الطفولة.

غياب القانون فاقم الظاهرة
في قانون الجرائم والعقوبات اليمني، اتخاذ التسول كمهنة يُعد جريمة، إذ نصت المادة 203 من القانون: «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن ستة أشهر من اعتاد ممارسة التسول في أي مكان إذا كان لديه أو بإمكانه الحصول على وسائل مشروعة للعيش، وتكون العقوبة الحبس الذي لا يزيد عن سنة إذا رافق الفعل التهديد أو ادعاء عاهة أو اصطحاب طفل صغير».
لكن التساهل في إنفاذ القانون وتطبيق العقوبات الواردة فيه، أسهم في استمرار ظاهرة التسول، إذ كان يتم القبض على المتسولين ثم الإفراج عنهم خلال ساعات بعد تعهدهم بعدم العودة للتسول، الأمر الذي أدى إلى تفاقم هذه الظاهرة، بل تطور أساليبها.

غياب رسمي
طرقنا أبواب الجهات الرسمية المعنية بحثا عن إحصائية بعدد المتسولين، لكن للأسف اكتشفنا أنه لا توجد حتى اليوم أي بيانات رسمية لعدد المتسولين في العاصمة صنعاء أو في غيرها من المحافظات والمدن اليمنية.
وبالنسبة لمشاريع مكافحة التسول التي شهدتها البلاد خلال عقودها الماضية وحتى اليوم فقد أنشأت أمانة العاصمة صنعاء في 1999، مشروع مكافحة التسول وتأهيل المتسولين بمنطقة «صرف»، وأغلق المشروع أبوابه عام 2012.
أما حالياً فلا توجد أي مشاريع لمعالجة ظاهرة التسول، لا حكومية ولا من المنظمات الدولية والمحلية، فلا يوجد إحصاء للمتسولين لمعرفة أصحاب الحاجة عن غيرهم من الممتهنين للتسول والمستغلين للأطفال بطرق خطيرة. ويستلزم الوضع عمل دراسات دقيقة لتقييم الوضع ثم عمل حلول منها مراكز إيواء للمتسولين والوقوف على حاجاتهم، وإقامة برامج إعادة تأهيل لهم، والاستفادة من قدراتهم، بالذات الشباب، وإعادة دمجهم في المجتمع.
وقد توجهت صحيفة «لا» إلى الجهات الرسمية المعنية بهذا الجانب، والمتمثلة بوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل ولجنة الشؤون الاجتماعية بأمانة العاصمة، وسألتهم عما إذا كان لديهم أي مشاريع حالية أو مستقبلية لمعالجة هذه الظاهرة، فتبين أنه ليس لديهم أي مشاريع لمعالجة هذه الظاهرة، فقط قالوا بأن هناك دراسة تم إجراؤها في هذا الجانب وقاموا برفعها إلى الجهات المختصة.
ورغم أنه تم عقد بضعة اجتماعات للجهات المعنية بأمانة العاصمة، لمناقشة مقترحات لمعالجة ظاهرة التسول وتنفيذ برامج توعوية وإرشادية وإعلامية لتسليط الضوء على هذه الظاهرة للحد من آثارها المجتمعية وجمع البيانات والمعلومات عن المتسولين، وأيضا عمل التدابير الممكنة لمكافحة هذه الظاهرة بتأهيل ورعاية وإيجاد فرص عمل للقادرين من المتسولين ومنحهم قروضاً ميسرة من قبل هيئة الزكاة لإنشاء مشاريع صغيرة تعينهم على متطلباتهم المعيشية، لكن حتى الآن لم تثمر هذه الاجتماعات على أرض الواقع.
أما مؤسسة بنيان فلديها عدد من المشاريع التي تستهدف الشرائح الأكثر فقرا، مثل توفير مخابز خيرية ووجبات رمضانية وأضاحي العيد.
ويبقى الانتظار حالياً سيد الموقف لبداية العمل لمعالجة ظاهرة التسول التي تعد مشكلة اجتماعية عميقة وخطيرة تحتاج لعمل كبير منظم ومنهجي وجاد لمعالجتها، لأن الظاهرة معقدة ولها أبعاد كثيرة، منها البعد المالي مثلا. فلو سألت طفلاً صغيراً من «المهمشين» من «أحفاد بلال» كم تجمع في اليوم سيخبرك أنه يجمع 2000 إلى 2500 ريال، وهذا يجعل الجهات المعنية أمام تحدٍ كبير لتغيير وعي من يتسولون اليوم وإقناعهم بخطأ ما يفعلونه، مع توفير بدائل لكسب الرزق تصرف أنظارهم عن المال الذي يجنونه بسهولة من شركة الشارع.