اليمين الرجعي القومي واستنساخ الثورات والسمسرة بمصائرها
- تم النشر بواسطة علي نعمان المقطري / لا ميديا
علي نعمان المقطري / لا ميديا -
إن طعنات اليمين وقيادته ضد الثورة توالت ولم تتوقف، وهي متوقعة وليست مفاجئة لأنها جزء من حياته وطبيعته وسنته، لذلك فإن دراسة تاريخ اليمين وسياسته الاجتماعية السياسية خلال مشاركته في مسيرات الثورات الشعبية إلى جانب اليسار والوسط وغيرهم من التوجهات، نجد أنه وفي جميع الثورات كان جناح اليمين ينتظر أول الفرص ليعقد مع النظام القديم مع الرجعية السابقة وسراً من وراء ظهر الثورة وقواها وضدها، في الحقيقة جوهرها صفقة تقاسم بين الطرفين لتقاسم السلطة، كنس الثورة وقواها وأهدافها وشعاراتها وإعلان انتهاء عصر وعهد الثورة كما حصل من اليمين في ثورة فبراير 2011 وكيف نجح في خنق الثورة الحقيقية وباعها للرجعية السعودية والأمريكية والعفاشية وحولها إلى أزمة سياسية فقط.
وهذا هو النموذج الذي يتكرر في كل ثورة، قانون ثابت يتكرر يعكس طبيعته الأصلية، وهو ما حصل في الثورة الجنوبية اليمنية والمصرية والسودانية والعراقية والليبية والفلسطينية والروسية والفرنسية والبريطانية والألمانية والصينية والكوبية والفيتنامية، وفي كل الثورات.
وفهم هذه الحقيقة هو ما يفك طلاسم اتجاهات الثورات وتناقضاتها وموقف اليمين الخياني، لكن القوميين البيروقراطيين ومصر خاصة كانوا يرفضون هذا الفهم الموضوعي التاريخي لليمين وطبيعته، فهم يقولون أوهاماً حول وطنية اليمين واليسار ولا يعترفون بحقيقة خيانة اليمين الدائمة رغم ما واجهوه في يونيو 1967 من خيانات هائلة جداً وجهها جناح يمين الناصرية من خيانة للثورة وللنظام وللقوات المسلحة. كل ما جرى في نكسة يونيو وقبلها وبعدها كان نتيجة سيطرة عناصر اليمين على مواقع مفصلية في النظام الوطني.
إن الزعيم الوطني الكبير عبدالناصر نفسه قد وجه لنفسه ولنظامه ولثورته طعنة نجلاء بتعيينه السادات نائبا ووريثا له في مصر ومازلنا إلى الآن نعاني من تلك المصائب اليمينية القومية، ولا داعي لأن نكرر سياسات وجرائم وخيانات وفساد عبدالحكيم عامر وصلاح نصر وشمس بدران وعثمان أحمد عثمان وحمزة البسيوني و.. و.. و.. كلهم ينتمون لليمين الناصري في الحقيقة، فهم كانوا شركاء عبدالناصر في ثورته وانقلابه وحكمه ونظامه ويتظاهرون بالوسطية والاعتدال والتوازن بين القطبين وعدم استفزاز أمريكا مهما فعلت بنا وبالعرب، وتحييد أمريكا كما روج مفكرها هيكل نفسه.
وكان هذا يخفي ما حاولوا إخفاءه لوقت طويل وهي خدماتهم السرية لأمريكا وعلاقاتهم وخدمتهم بالتبعية لـ"إسرائيل" من حيث يشعرون ولا يشعرون.
فاليمين تاريخياً بطبيعته العضوية مزدوج المبادئ والعقيدة والأهداف والتوجهات في وقت واحد هو نصف حر ونصف رجعي في آن واحد من حيث طبيعته ككيان وقوة ومنظومة وطبقة بذاتها، لأنه يمثل مصالح اجتماعية سياسية وأيديولوجية مزدوجة الأهداف والمبادئ ومتضاربة ومتعارضة ومتصادمة فهو يضم في قواه قوى متصادمة من الوطنيين المؤقتين والرجعيين الدائمين، وهذا ينعكس على طبيعة قياداته وكوادره وسياسته، ولذلك رأينا قوميين وطنيين وعروبيين يدعمون القوى الوطنية من جهة، وفي الوقت نفسه كانوا وبعيداً عن الأنظار ينامون سراً مع العدو والاستعمار والرجعية، وكانت تلك السياسات السرية الفاضحة تجري باتفاق بين جميع أطراف اليمين والوسطين وزعمائهم جميعاً بما فيها التوافقات والتخادمات بينهم وبين الاستعمار الجديد والقديم.
وفهم طبيعة اليمين الوطني مهمة قصوى لليسار والقوى الثورية، لأن ذلك يصون القضية المشتركة الوطنية التي سرعان ما يخونها اليمين في منتصف الطريق بالضرورة، وهذا الواقع يؤكده تاريخ جميع الثورات الإنسانية في الشرق والغرب، وليس هناك استثناء إطلاقاً، ويكفي مراجعة التاريخ (القريب والبعيد) جيداً.
وكانت خديعة اليسار تتم دوماً باسم الوطنية والوحدة الوطنية والأخوة القومية العربية لضمان استمرارية مساعدتهم ودعمهم القومي لحركة الاستقلال، وكان اليسار يمسك به دوماً من اليد التي توجعه وهي الحاجة إلى الدعم العربي للكفاح الوطني واعتراف الجامعة العربية والقيادة القومية في القاهرة، ولو كانت تلك القيادة قد أوغلت بعيداً في قهر الثورة وقواها، ولكن يبدو أنه ما كان باليد حيلة، لذلك أجبر اليسار على التجمل بالصبر والتحمل والتضحية واحتسابها علواً.
إن مصيبة الثورات العربية قاطبة هي في قيادتها العسكرية البرجوازية الفاسدة الاستبدادية الفردية التي منحت أفرادها مقام الآلهة والمطلقية والعصمة عن الخطأ، وقد حملوا إلينا تلك السمات ومازلنا نعانيها، وكأن الثورة مازالت ملتهبة ولم تحقق أيا من أهدافها بعد أن أضاعت تلك القيادات كل المنجزات الوطنية والقومية بيديها وبدون إكراه في سياق عمليات تسليم وتسلم بين الوطنيين والخونة من القيادات، وسوف يظل الأحرار الطيبون من أبناء أمتنا يبحثون لعقود عن جوهر ما جرى ويجري بهدف أن يدركوا الواقع ويفهموه ويفسروه، لأنه مليء بالألغاز والطلاسم والمعميات والأسحار والأساطير حد الإشباع بهدف ألا تعرف الأجيال القادمة حقيقة الجاري والواقع حتى لا يتعلموا من دروسه الكثير فيقعوا ويسهل خداعهم وتضليلهم واستخدامهم دوماً لصالح أجندات غريبة عنهم وعن قضاياهم ويظلوا دوماً مخدرين بتأثير الأوهام والأضاليل والأساطير.
هناك دوماً أيد خارجية عنك، غريبة عليك تصنع لك طريقك وبرامجك وتحدد لك سلفاً ما يجب وما لا يجب، وما ينبغي وما لا ينبغي وتحيطك من كل جانب وناحية، أي أنها توليك سلفا ومسبقا وتجبرك على التفكير والمحاكمة وفقاً لمنطقها هي وما تريده من أهداف وغايات وأحداث وفقا لأولوياتها هي ولأغراضها هي، فمن هي؟ إنها قوى اليمين المحلي والأجنبي، وقد تشابك سراً وعلناً وكشف هذا الخطر في كل ثورة وقبل ظهوره ضرورة تاريخية، لأنه حتمياً ويجب تجنيب الثورة خطره من قبل أن يستشري كالسرطانات والجوائح المهلكة، وتلك هي أول المهمات لكل الأحرار مهما كانت المصاعب والمسافات، لأنها هي فقط بداية الطريق الصحيح وسواها الأوهام والضياع.
تحرير الروح الذاتية طريق التحرر الشامل وضمان نجاحه
وقبل كل شيء لا بد من التحرر الذاتي العقلي والنفسي والفكري والعقيدي فلا يمكن الوصول إلى قلب الحقائق إلا إذا تحررنا من الخرافات السابقة ومن عبادة الأشخاص المزيفين وهدم الأوثان والأصنام والاعتقادات الباطلة والمفاهيم الخاطئة التي كشفت زيفها التجارب والأحداث والخبرات التاريخية، فالمؤامرات اليمينية الرجعية الداخلية تبتدئ ببث الأوهام الاجتماعية والسياسية والفكرية في صفوف القواعد والأتباع ومحاربة البصيرة والإدراك السياسي والاجتماعي والفلسفي والتاريخي الموضوعي والعلمي، ولذلك يؤلب أول ما يؤلب اليمين أولاً ضد المستنيرين والمثقفين الواعين والمستبصرين في الحركة وخارجها، وهو، أي اليمين ووسطه، يعملون على الفصل بين المستنيرين والقواعد والمناضلين، لا يريدون فكرا حقيقيا مستنيرا يوضح حقائق الأشياء والتطورات والتاريخ وسننه، لا يريدون أن يفهم الشعب ما يخفونه في جلابيبهم وعباءاتهم، لا يريدون أن يفهم الشعب حقيقة أهدافهم في كل ثورة أو قضية أو موقف، يريدون أن يبقى الغموض والطلاسم أسياد الموقف وهم وحدهم من لهم حق تفسير الأشياء وطبيعتها ومصادرها ونهاياتها، هم وحدهم يحتكرون الإفهام والتفسير لكي يلقنوا الناس ما يريدون وحدهم أن يفهموه سواء كان خطأ أو صوابا لا يهم، ولذلك يحاربون كل فهم أو ثقافة أو فكر حقيقي ومنطقي موضوعي يريدون أن تبقى كل الأمور طي الجهل، لأنها أفضل البيئات للاستبداد والفساد والعبث والديكتاتورية وتأليه الأفراد بما لا يستحقونه إطلاقا.
إنهم يقيمون حول رجالاتهم وقادتهم أسيجة كبيرة وعالية لا تراها الناس، يعزلونهم ويحجبونهم لكي لا تكتشف أنهم بشر عاديون يخطئون كثيراً، وقد يصح ما يقولونه في بعضه، لكنهم ليسوا معصومين كالأنبياء والرسل والأولياء الصالحين، ومنهم من يخطئ أيضاً، ولكنهم يريدون أن يرهبوا القواعد بالسمات الشخصية الموهومة لهم لكي يرى الناس الصورة وحدها ويعيشوا على الصورة الوهم بعيداً عن الأصل الحقيقي الواقعي، لأن الناس لو رأوا الواقع لا الصورة فإن الوهم ينهار وتسقط الهالات المصطنعة وتظهر الأشياء على حقيقتها والأفراد على حقيقتهم وهذا ما يخيفهم دوماً.
اليمين والتبعية.. أصل المصائب هي التبعية للخارج
إن أصل المصائب الاشتراكية والقومية هي مصائب القيادة اليمينية التآمرية وتأثير البيروقراطية العربية المصرية من حيث المدرسة التطبيقية العملية وأساليب التفكير الإدارية المركزية الموروثة عن الثقافة الإقطاعية العسكرية في مصر وبلاد العرب، القائمة على عصمة القيادات الفردية وتقديسها وعدم مشاركتها في القرارات والتوجهات وتحديد السياسات وإهمال القواعد والهيئات الجماعية القاعدية المعنية بتنفيذ السياسات وتحمل أكلافها وتضحياتها ونتائجها، وهي تأثيرات حاسمة صاحبت التأسيس والبدايات والنشوء لتنظيم الثورة وجبهة التحرير الوطنية القومية، وبدأت من قبل الاستقلال، أي خلال تأسيس الجبهة القومية، حيث أسست الجبهة القومية كتنظيم قتالي سياسي مشترك للتصدي للاستعمار البريطاني وقواته العسكرية المحتلة التي كانت تفوق الـ100 ألف جندي. وما كان لهذه المهمة التاريخية الكبرى أن تتحقق إلا بواسطة تنظيم شعبي قتالي منظم بدقة وتراتبية، شديد التمركز ومنضبط إلى أقصى درجة، فقد ورث القواعد التنظيمية لحركة القوميين العرب التي انبثقت عن النكسة العربية الفلسطينية واتسمت بملامحها الشديدة الالتزام.
وكان ذلك هو أهم أسباب انتصاراتها التي حققتها في مواجهة الاستعمار والسلاطين والرجعية. ولم يفارقها ذلك الطابع الذي تربت عليه خلال مسيرتها، فلم تكن تتوقع أن يأتي يوم عليها مستقبلاً وتمسك فيه بالسلطة مباشرة وتحكم دولة الاستقلال، فالمؤسسون كانوا يعتقدون أن هناك مرحلة طويلة تقطع المسافة بين الكفاح التحرري والسلطة. وكان المؤسسون الأولون ينظرون إلى الأصل الفلسطيني العربي للحركة الأم التي أنشئت في اليمن فرعا لها لمواجهة الاستعمار بنفس التنظيم والقيم والأفكار التي انتقلت إلينا من خلال الطلاب الدارسين في مصر والشام، أي عبر نخب المثقفين القوميين الجامعيين الذين تأثروا بالتجربة التحررية القومية العربية والفلسطينية الثورية وأصروا على نقلها إلى اليمن بدون نقد أو تمحيص أو إثراء، لأن اليمن كانت آنذاك تفتقر لكل معاني الثقافة والتعليم الحديث، وكان الجهل مازال سائداً فيها نتيجة الاستعمار في الجنوب والأتراك والاستبداد والتخلف الإقطاعي والجمود في الشمال، ولذلك لم يكن أمام الحركة الوطنية الناشئة سوى تقليد العرب القوميين ونقل تجاربهم. وكان القادة العرب القوميون هم أصحاب المبادرات في استقطاب الطلاب الوطنيين الدارسين لديهم وعرض دعمهم للمساعدة في تغيير أوضاع بلادهم والتحرر من الاستعمار والرجعية، بل إن الأنظمة القومية العربية، وخاصة القاهرة، كانت قد أنشأت أجهزة سياسية قيادية خاصة مهمتها تنظيم الانقلابات العسكرية في البلدان العربية الملكية والمستعمرة وشبه المستعمرة، ورصدت لها الكثير من الإمكانيات والقدرات، واعتبرتها سياسة أمن قومي لها، أي أنها لا تتدخل انطلاقاً من واجب تقديم المساعدة لإنقاذ الشعوب العربية فقط، بل إن ذلك كان بالنسبة لها مواصلة للصراع مع أعدائها وانتقاما منهم حيث يكونون وحيث يسيطرون، وتأمينا لمواقعها الاستراتيجية التي تقع خارج بلادها وتتحكم بالطرق والاتجاهات المحيطة ببلادها ومراكزها. وبالنسبة لمصر فإن ما يهمها استراتيجيا كان هو تأمين السيطرة على باب المندب والبحر الأحمر ومناطق النفط المسيطر عليها الاستعمار الغربي ووكلاؤه، وكانت بحاجة شديدة إلى قلب التوازنات في تلك المناطق عبر استنهاض وتأجيج وإشعال أحداث وثورات وانقلابات ونقل السيطرة إلى قوى صديقة لها وحلفاء، وهنا تلاقت مصالح استراتيجية بين قوى طرفين غير متكافئين، هما النظام القومي العربي الثوري والحركة الوطنية الوليدة الناشئة قليلة الخبرة وفقيرة الثقافة، فكانت النتيجة هي التقليد والتأثر سلباً وإيجاباً ونقل خبرات الآخرين.
وهذا موضوع يطول شرحه؛ لكن يجب التأكيد أن ذلك كان شأن الكثير من الحركات الوطنية غير الناضجة في الشرق والغرب. والمهم هو أن تلك الحركات كان عليها أن تستفيد مما هو إيجابي، وأن تدع ما هو سلبي وغير متوافق مع ظروفها ومع شروط نضالها. وكان هذا التطور يستدعي نمو حركة نقدية فكرية نضالية ناهضة وناضجة في صميم تطور الحركة الوطنية وعضويتها.
صناعة الثوار الملونين
اليمين الوطني القومي طبيعته أنه يغازل الاستعمار ولا يقاتله، أي يفاوضه اتكاء على ما يحققه اليسار والمناضلون في الميادين من تضحيات، بينما هو جاهز للتفاوض والتقاسم دوماً.
إن المستعمر يخلق ثوارا على مقاساته ومن طرازاته ومن صلبه السري ويعدهم لليوم الموعود من تاريخه حين يتأزم ولا يجد له مخرجا من الهزيمة أمام الثورة الحقيقية وقواها وجيشها الشعبي، حينها فقط يطلق من كيسه السري جراب الثعابين والأفاعي وقد ارتدت الكاكي والأسمال ورفعت مصاحف الجهاد وشعارات الثورة والحرية والليبرالية ودعت إلى إيقاف القتال والركون إلى السكينة والحوار والمفاوضات وتقاسم الفريسة، والاقتناع بنصف ثورة أو بثورة بلا رأس وضمان حقوق الطرفين جميعاً ومكافحة التشدد والتطرف. هذا ما رأيناه في اليمن وبلاد العرب وفي كل مكان يحصل مثله.
كان المشهد العجيب هو أن اليمين العربي القومي يأتي باليمين العبري السكسوني الهجين خادم الاستعمار إلى رأس الثورة اليمنية في الجنوب والشمال، ويعد بمحاربة المستعمر وتحقيق الاستقلال بطريقته المتميزة والخاصة، والتي كشفها من قبل ومن بعد، بالقول إن الاستقلال يتحقق بالمفاوضات السلمية مع صديقتهم بريطانيا العظمى التي لا تكذب، وهي قد أعلنت أنها سوف تغادر المنطقة في العام 68م، ولكنها تريد من يفاوضها على الرحيل وعلى أمنها خلال وبعد الرحيل، وتريد طرفاً سياسياً ليبرالياً من طراز أصدقائها ورجالها في عدن الذين خدموها هم وآباؤهم وأسرهم التي اغتنت بفضل تكرمات البريطانيين وسخائهم مع من يخدمهم في احتلال بلادهم، مع العلم أن الكثير منهم كانوا مشكوكاً في انتمائهم للأرض اليمنية.
كانت خيوط اللعبة البريطانية السعودية البيروقراطية المصرية المشتركة تصب كلها في بوتقة مطابخ جهاز الـ(سي آي إيه) المسؤول عن تنظيم وتحضير شروط السيطرة على المنطقة بعد خروج بريطانيا من قيادة الإمبريالية العالمية بعد الحرب الأخيرة الكبرى، وبعد فشل بريطانيا في السويس واليمن والجنوب، فقد كانت تطل على كل مجريات اللعبة والتطورات وتتدخل عبر مندوبيها ووكلائها الإقليميين على الجانبين المختلفين المتصارعين. وكانت المشكلة هي في عدم قبول اليسار الوطني القومي المشاركة في اللعبة الجديدة، لعبة المساومات وتقاسم المكاسب والخسائر طالما لم تستطع الأطراف الإمبريالية كسب الحرب والصراع. أما صمود الشعب وقيادته الثورية فلا بد من نقل المعركة من الميادين إلى المكاتب والفنادق ومراكز البزنس والتوصل إلى تفاهمات وصفقات مشتركة مريحة للطرفين في كل ملف صراع. والمشكلة كانت في كون طرف الصراع الأساسي يرفض وقف الحرب التحررية ويريد نهاية لها على طريقته وأهدافه المتطرفة، أي عبر هزيمة كاملة للغرب؛ ولذلك ذهبوا ليصنعوا طرفاً ناعماً أخرجوه من دواليبهم ومزاريبهم، طرفاً "عقلانياً" يسمع الكلام ويفهم الإملاءات ويقدر مصالح جميع الأطراف المتصارعة.
ولكي يستطيع تسلم الحكم من الإنجليز، ومقابل تسليمه الحكم الشكلي في البلاد، كان يجب أن يصفي الجبهة القومية "الشريرة" وقادتها من الساحة الوطنية، ليعترف به طرفاً تمثيلياً للشرعية المحلية. ومن هنا نلاحظ أن التحريرية لم يكن دورها مقاتلة الإنجليز في معارك حقيقية وكبيرة، ليس لأنها لا تملك القوة الشعبية والسلاح، بل لأنها أوجدت خصيصاً لإجهاض واستئصال تنظيم وإرادة القتال التحريري الوطني قبل كل شيء وتدمير منظماته وقياداته، ولذلك كلفوا باغتيالات عديدة ضد التنظيم الوطني وقيادته، واستثارة الاحتراب الداخلي الأهلي ضد الثوار الحقيقيين طوال أسابيع وأشهر فيما عرف بـ"الحربين الأهليتين" خلال العام 67م ضد الجبهة القومية في عدن عشية الاستقلال لمنعها من استكمال تحرير عدن والمحافظات المجاورة وحتى لا تفرض نفسها ممثلاً تفاوضياً شرعياً للشعب واستلام السلطة كاملة ومستقلة وطرد المستعمر حتى آخر جندي بريطاني وأجنبي. لذلك فقد طبخت المؤامرة الاستئصالية جيداً، حيث جرى تسهيل السيطرة على المنصورة وتكديس الأسلحة فيها وغض النظر عنها من الجانب البريطاني مقابل خدمته في استهداف أعدائه القوميين الحركيين اليساريين الحزبيين.
علينا أن نتذكر أن أساس البلاء بدأ ينبت في تربة الصراعات التي دارت بين أطراف المكونين القوميين الأساسين وعلاقاتها بالأجهزة القومية البيروقراطية العربية في مصر وغيرها. فالأجهزة التي أشرفت على قيام الجبهة القومية وتدريبها وتهيئتها للكفاح المسلح ضد الاستعمار كانت بطبيعتها عسكرية بيروقراطية وغريبة عن المجتمع اليمني، وهذا كان إحدى نتائج نشأة التنظيمات السياسية التحررية معتمدة على الخارج القومي ثم الأممي، ثم عملت على اختراقها من داخلها عبر الجناح اليميني المتواجد في القاهرة بصفة دائمة للإشراف على مكاتبها الخارجية التي أنشئت هناك برئاسة قحطان الشعبي وفيصل الشعبي وآخرين من أعضاء القيادة القومية الإداريين السياسيين المحترفين البعيدين عن ساحات الجهاد والوغى العسكري الميداني في الداخل، فقد أمكن للمخابرات المصرية المشرفة وصاحبة القرار العام والاستراتيجي على الجبهة القومية أن تجند عددا من أعضائها هناك وتضمهم إلى صفوفها سراً وتعمل على تصعيدهم دوماً، باعتبارهم يمثلون مصالحها الاستراتيجية ومستعدين أن ينفذوا تعاليمها وأجنداتها السياسية والفكرية.
وكان في طليعة أولئك، القياديون الذين وقعوا على بيان مؤامرة 13 كانون الثاني/ يناير 1966، والدمج القسري وإعلان الجبهة القومية حل نفسها واندماجها في كيان جديد مع جبهة التحرير، تكون من عملاء بريطانيا وسلاطينها ووزرائها وأعوانها من حزب الرابطة والإخوان والمخبرين الأصنجيين الذين حاربوا الثورة ورفضوها من بداية انطلاقتها، وخدموا الإنجليز طوال الوقت، وكانوا وزراء عندهم وقدموا لهم أسماء وقوائم الثورة طوال سنوات الكفاح المسلح المنقضية، والتي شارفت على النجاح بعد سنوات من الكفاح، منفردين مع الشعب الثائر بقيادة جبهته القومية التي صارت تسيطر على أغلب الأراضي الجنوبية المحتلة، وخلفها ينتظم عشرات آلاف المناضلين والمحاربين والمقاتلين والفدائيين من أوساط الشعب اليمني. وكان في طليعة المنافقين الموقعين على بيانات التلفيق والتزوير كلٌّ من طه مقبل وسالم زين، وأيدهما الشيخ المجعلي وآخرون في الداخل من أرباب الأجهزة المصرية البيروقراطية، وحايد القادة اليمينيون الإداريون في مكاتبهم هناك في القاهرة أمام المؤامرة الجارية، وقد نصحوا بقبول الأمر الواقع، متحججين بضعف القدرات الذاتية وعدم الاستطاعة على التمرد على رغبات الإدارة المصرية ومخابراتها وأجهزتها وقيادتها، لأنها تتحكم بكل الإمكانات والدعم والمساعدات، ولكنها اصطدمت بالرفض المطلق من كوادر وقيادات اليسار القومي الموجودين على رأس الجبهات القتالية في الميدان في ساحات المواجهات والمعارك ضد الاستعمار.
ففي العام 1966، وبعد شهور من الإعلان المشؤوم الذي جمد حركة الكفاح الوطني وعرقل نهوضها مؤقتاً بسبب الخلافات التي أثارتها تصرفات القيادة القومية اليمينية في القاهرة وانقطاع الدعم والأسلحة وإغلاق مكاتب الجبهة ومعسكراتها وطرد كوادرها من قواعدها في الشمال وتعرض العديد للاعتقالات والمطاردات الأمنية، تنادى عدد كبير من قيادات الجبهة القومية في ميادين عدد من المحافظات والمناطق العسكرية إلى الاجتماع وتقرير مصير الجبهة القومية في الميدان بعيداً عن سيطرة ونفوذ البيروقراطية العربية ووكلائها داخل التنظيم السياسي ومكاتبه الخارجية والإعلامية، وعقدوا اجتماعات عديدة ناقشوا فيها التحديات والمؤامرات التي تواجه خطى الثورة الوطنية التحررية وتهدد مصيرها. وقد تمخضت هذه الاجتماعات عن إجماع على قرار رفض الدمج القسري وإدانة القيادة القومية التي تراخت أمام المؤامرات الجارية وأعلنت العودة إلى الميدان الكفاحي بشكل مستقل باسم الجبهة القومية وأعلنت رفضها لكل المؤامرات الاستنساخية التي تمارسها البيروقراطية القومية العربية للسيطرة على القرار الوطني، ودعت للمؤتمر العام العاجل الاستثنائي للبت في الموقف النهائي مما يجري على الساحة الوطنية، وكشفت جوهر ما يجري من مساومات وسمسرة مع الرجعية السعودية والاستعمار، علماً أن السعودية تولت نيابة عن البريطاني تمويل وتمرير صفقة مسخ "التحرير" الأصنجية باسم الوحدة الوطنية، كما قالت مصادرها، وهو نفسه اللحن الذي تعزفه المخابرات المصرية في تبرير التآمر على الثورة في الجنوب وعلى قيادتها بدعوى أن الجماعة قد تابت ونقلت ولاءها من البريطاني إلى السعودية ومصر والجامعة العربية إياها، ويجب إشراكها في مستقبل البلاد بعد الاستقلال. ولكن الاستقلال نفسه لم يتحقق بعد ولن يتحقق إذا لم تحافظ قيادة الثورة على استقلالها ونزاهتها.
كان هؤلاء المنافقون من القيادات المرتبطة بأجهزة القاهرة قد وجهوا للثورة طعنة من الخلف وفي القلب والخاصرة، وكان ذاك هو خيار المخابرات والقيادة العسكرية المصرية اليمينية الرجعية التي كانت تأكل الثورة العربية القومية من داخلها وبواسطة بعض قيادتها العليا وتشرف على الثورة اليمنية جنوباً وشمالاً، وتساوم بها في كل مناسبة مع العدو السعودي والبريطاني والأمريكي وبحسب مقتضى الظروف التي تمر بها البيروقراطية المصرية وهزائمها وإخفاقاتها في اليمن ومصر، وقد أرادت أن تعقد صفقة خيانية مع العدو من خلف الجبهة القومية وباسمها، ولذلك شجعت عناصر من قياداتها ممن يقبعون عندها ويتسلمون رواتبهم منها، منهم قحطان وطه مقبل وسالم زين وآخرون، وكانت الجريمة واضحة كالشمس.
واضطرت قيادة الجبهة القومية الجهادية في الجبهات الكفاحية إلى أن تتنادى لعقد مؤتمر عام ثانٍ وثالث في عام واحد للوقوف أمام التزوير والتدليس القومي العربي البيروقراطي.
كان الجناح اليميني في القاهرة يساير القيادة العربية البيروقراطية في كل مواقفها، ويتعذر بأنه لم يستطع أمامها أن يرفض أو يعترض، نتيجة الإرهاب والضغوط عليهم، ولعل بعضهم كانوا صادقين، ولكنهم انتهازيون بطبيعتهم وخائفون وبدون مواقف جادة وثابتة، ولذلك كانوا ينتظرون موقف قادة الجبهات الكفاحية في الداخل ومواقفهم حتى يبلوروا سياساتهم الالتفافية ليحافظوا على مواقعهم ويسلكوا سياسات مزدوجة ترضي عامة اليساريين واليمينيين والمخابرات المصرية في وقت واحد.
كانت محاولة تقسيم جيش التحرير الشعبي للجبهة القومية في جبهة الضالع هي أبرز محاولة وشملت جسم الجناح عسكري للجبهة القومية، وقادها الشيخ المجعلي الذي استطاع أن يجذب عددا من مقاتلي الجبهة القومية من منطقته وأن يضللهم بشأن التطورات حول الدمج القسري واستنساخ جبهة التحرير الجديدة، وأن ذلك هو ما يحظى بتأييد قيادة البيروقراطية العسكرية المصرية. وكان الشيخ المجعلي من البداية يتطلع إلى موقع مرموق في قيادة الجبهة وجيش التحرير الشعبي وتزعجه الطروحات الفكرية عن العدالة الاجتماعية التي يسمعها من القيادات الثورية أثناء جلسات التثقيف الثوري المرتبط بالميثاق الوطني للجبهة القومية واستشراف المستقبل.
وقد لعبت الأصابع المخابراتية المصرية وعملاؤها دوراً في فتنة اقتتال أهلي بين أفراد جيش التحرير الشعبي على جبهة الضالع، حيث كان يتمركز هناك ويواصل قتاله ضد القواعد البريطانية المنتشرة في منطقة الضالع والشعيب وردفان بقيادة الجبهة القومية.
أدى هذا إلى نشوء انقسامات في صفوف جيش التحرير الشعبي للجبهة القومية واستدراج عدد من المناضلين في جبهة الضالع بقيادة الشيخ عبدلله المجعلي وعلي بن علي هادي اللذين -بفعل المغريات والتضليل السياسي والفكري- أيدا البيان الانشقاقي والدمج ووافقا عليه وشكلا نواة عسكرية صغيرة باسم "التنظيم الشعبي القومي" في منطقة الضالع ـ لحج، حيث بدآ يسربانهم إلى عدن العاصمة مركز الاستعمار البريطاني الملتهبة بالحرب التحررية بقيادة الجبهة القومية المتمردة على مؤامراتهم، بهدف تمكينهم من شن الحرب على الجبهة القومية وقيادتها وليس ضد الإنجليز والسلاطين والاستعمار.
واعتماداً على تلك النخبة القومية المضللة أنشؤوا ما سمي "جبهة التحرير" آنذاك، وسلموا لها جميع المعسكرات والإمكانات والإذاعة والمقرات التابعة للجبهة القومية الواقعة داخل المناطق الحدودية مع الشمال في تعز وإب والبيضاء، وسموها "التنظيم الشعبي الناصري" لجبهة التحرير بقيادة الأصنج وباسندوة والمكاوي.
وهكذا ظهر في مطلع العام الثالث للثورة التحررية القومية في الجنوب نسخة مزورة ممسوخة لجبهة تحررية أرادوا لها أن تكون هي من يفاوض الاستعمار البريطاني لاستلام الحكم بعد رحيله، وتحقيق استقلال شكلي صوري غير كامل وغير حقيقي.
كانت مخابرات عبدالحكيم عامر وصلاح نصر تحكم اليمن نيابة عن ناصر، وتتصرف باسمه تصرفاً مطلقاً كاملاً. وهكذا فإن البيروقراطية المصرية قد أرادت مناوشة الإنجليز والسعودية مجرد مناوشات على الحدود بغرض إجبارهم سياسياً على الجلوس للتفاوض حول مستقبل الجنوب واليمن بما يحقق أهداف الطرفين، أي الطرف المصري وبريطانيا والسعودية، وتغييب اليمن والجنوب تماماً من أي موقف. وكانوا يريدون من جبهة التحرير الممسوخة أن تكون مجرد شاهد زور على تجارتهم بالشعوب والقضايا القومية والشعبية التي كانت تدوي في ميكروفونات إعلامهم وبرامجهم وليس أكثر من ذلك.
كانت البيروقراطية المصرية تقدم صورة ونموذجاً سلبياً للتلاعب بالعقول والنفوس وغسل الأدمغة الجماعية المأخوذة عن الخبرة الاستعمارية الغربية، كما تؤسس لمدرسة التضليل باسم الوطنية والسياسة القومية الزائفة المهترئة.
وفي المنصورة بعدن حيث تمركزوا واصلوا اقتناص مناضلي الجبهة القومية بالتفاهم والتواطؤ مع الإنجليز ومخابراتهم العسكرية، وإثارة الفتنة والحرب الأهلية تنفيذاً لمخططاتهم. وكانت أخطر الجرائم التي ارتكبتها هذه "التحررية" (المزورة) هي جريمة اغتيال الشهيد عبدالنبي مدرم، قائد منطقة عدن كريتر للجبهة القومية، وإحراق جثته لإخفاء معالم الجريمة، وذلك خلال قيادته حركة الثورة في كريتر عدن وانتفاضتها المسلحة في 20 حزيران/ يونيو 1967 ضد الوجود البريطاني، واستطاع أن يسيطر على المدينة لأسبوعين كاملين في ظل حصار شامل. وقد قام ثلاثة من عملاء المخابرات البريطانية من أفراد جبهة التحرير بالاعتداء عليه وقتله بين الجماهير وادعاء أنه "رابطي وعميل للاستعمار"، لتهييج الشعب عليه بعد حرقه. ولكن الجبهة القومية طاردت المجرمين واعتقلتهم جميعاً، وأقامت لهم محاكمة ميدانية في حارة الهاشمي ـ الشيخ عثمان، وقد أدانتهم محكمة ثورية خاصة وحكمت بإعدامهم، وداهمت القوات البريطانية المكان لإنقاذهم؛ لكن بعد فوات الأوان.
وقد اعترفوا بالجريمة وبعلاقتهم بالإنجليز، وأنهم من جماعة جبهة التحرير وعبدالله الأصنج، الذي كان يدير ملف التخريب والاغتيالات والتنسيق والتعاون مع البريطانيين ضد الجبهة القومية وضد الثورة عامة، وكان يدير ملف الفتنة والاحتراب الأهلي. وكان القتلة هم البيحاني والعلس وشخص ثالث معهما. وقد أورد هذه الواقعة العديد من المؤرخين الوطنيين، بمن فيهم سلطان أحمد عمر في كتابه.
كما قام الأصنجيون من جبهة التحرير بإلقاء القنابل على مقر القيادة القومية بالشيخ عثمان بعد السيطرة على المنطقة من قبل الجبهة القومية أواخر 1967. وقد قتلوا وأصابوا عددا من الكوادر الوطنية، بينما كانت المشاورات جارية في القاهرة للصلح، بهدف تعطيل وإفشال الصلح بين الطرفين تحت إشراف قيادة عبدالناصر وتعاون وتجاوب الجبهة القومية وقيادتها. ولكنهم كشفوا بوضوح أنهم أدوات تخريب ضد الوطن بأيدي المخابرات البريطانية والأجنبية والسعودية، ما حدا بعبدالناصر أن يدرك ويقر أنها من بقايا مؤامرات عامر وصلاح نصر والعملاء.
ولم تسجل حادثة واحدة من الجبهة القومية ضد جبهة التحرير نتيجة جرائمها وتعاونها مع المحتل، علماً أن الضربات الإجرامية كلها كانت منتقاة بعناية ومنتخبة ضد قيادات الجبهة القومية الميدانية واليسارية الثورية وليست عشوائية. وأما عناصر الجبهة المحجوزة في القاهرة فلم يصل إليهم أي ضرر، فكان المستهدف هي جبهات الميدان الكفاحية في الأساس بهدف إضعاف الكفاح الوطني الجاري.
اليسار وصراع الطريق إلى السلطة
بعد النجاح الذي تحقق عسكرياً وأمنياً وسياسياً، وبفضل الدور الكبير الحاسم لليسار وقواته الشعبية المسلحة التي تمثلت في الجيش الشعبي والقوات الشعبية والجماهيرية التي كان يقودها، وبعد إجراء المصالحة الوطنية بين الاتجاهات، وبفضل تعبئة القطاعات الجماهيرية لتنظيم الجبهة القومية، أمكن للجبهة القومية أن تمتلك قوة شعبية هائلة قادرة أن تدفعها إلى ميادين المواجهات العسكرية والحربية، وأن تستخرج نسبة مقاتلة كبيرة قادرة أن ترجح المعادلات الحربية مع العدو الغازي. وهذا النجاح انعكس إيجابياً على الأوضاع الأمنية والعسكرية للبلاد وللجمهورية.
ولقد أصبح اليسار أقوى من ذي قبل، بعد تلك المرحلة من الكفاح والصعاب، وقد عاد إلى مواقعه السابقة بعد أن شاع دوره العسكري الوطني في استعادة المحافظات التي أسقطها الاحتلال السعودي ومرتزقته في مغامراته الشهيرة خلال العام 1968. وقد أدت تلك الأحداث إلى فضح الدور الرجعي لليمين في الخارج والداخل والتناسق بين الجانبين، فقد أكدت حقيقة كون اليمين الحاكم القومي هو الذي تعاون مع اليمين العسكري الاستعماري في مطاردة اليسار والتمرد على القرارات الوطنية للمؤتمر العام الرابع، فالكثير من القيادات العسكرية التي قادت التمرد الرجعي في المحافظات الريفية الشرقية هم من حلفائه السابقين مثل العقداء السبعة وعشال وبلعيد، وهم أنفسهم أبطال انقلاب 21 آذار/ مارس 1968.
وخلال العامين اللذين قضاهما في التحالف مع اليمين منذ كان الخطر قد لاح يحيط بالجمهورية، وإنما بعد أن أنجزت المهمة التي تمثلت في إنقاذ الجمهورية عسكرياً وسياسياً وتحت الهدف الوطني وزال الخطر المباشر على النظام الوطني في الجمهورية، أصبح من اللازم تنفيذ برنامج استكمال التحرر الوطني الديمقراطي الذي تم توقيعه كأساس للتحالف الجديد وأساس للسياسات القادمة للحكومة التي تواجه التزامات اجتماعية واقتصادية وسياسية أجلت إلى ما بعد حسم المعركة الوطنية، وقد حسمت المعركة الرئيسية الآن، ويجب الالتفات إلى المهام الوطنية الأكثر إلحاحاً، وهي المسائل الاجتماعية الاقتصادية والسياسية البرنامجية للثورة الوطنية التحررية. ولكن الحكومة اليمينية واصلت تجاهل المهام البرنامجية وتناسي الاتفاقات التي أبرمت معها قبل المعارك الأخيرة كأساس للتعاون معها وللعودة إلى المشاركة. فاضطر اليسار إلى إعادة تنظيم قواه بشكل مستقل، لأنه أدرك أن اليمين التآمري سيسوّف ويماطل في تنفيذ الاتفاقات، ويتلاعب بالوقت حتى يجد الفرصة للهروب من التنفيذ، لأنه لا يؤمن بتلك القضايا من حيث جوهرها وبرامجها الذاتية.
وفي مطلع العام الجديد (1969) كانت المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية تتطور وتفعل الكثير من تناقضاتها ومشكلاتها في حياة الشعب ومعاناته في العمل والسكن والطعام والدراسة والخدمات الأساسية والتنمية والعدالة الاجتماعية والنهضة الثقافية الموعود بها.
وكانت هناك قضايا حيوية أساسية قد اشتعلت، وخاصة قضية العمل والسكن ومصادر العيش، فالبادية اجتاحها الفقر والعوز الشديدان بعد نكسة حزيران/ يونيو 1967، لأنها تعتمد على موارد ميناء عدن وخدماته للسفن الذاهبة والعائدة من الشرق إلى الغرب عبر قناة السويس، وكان مئات الآلاف يعيشون على هامش ذلك المصدر، وتقريباً مليون إنسان يمني جنوبي في ذلك الوقت، كان يتركز معظمهم في عدن والمحافظات المحيطة بها. وكان سكان عدن قد تركزوا حول الميناء كعمال شحن وتفريغ في الميناء وتقديم الخدمات للقاعدة البريطانية قبل الاستقلال، وكان معظمهم ينحدرون من محافظات الشمال بدرجة رئيسية وليس لهم أراضٍ يزرعونها ولم يكن لهم مصدر آخر للعيش أو للمساعدة، ولذلك اشتدت المشكلات الاقتصادية على الناس وعلى الحكومة الجديدة، وكانت البرجوازية التجارية المسيطرة على عدن واقتصادها قد فرت إلى الخارج وإلى الشمال والخليج خلال معارك التحرير اللاهبة أثناء الثورة والتي وصلت إلى عدن العاصمة.
وهكذا أصبح أمام الحكومة الجديدة ملف ساخن، ومنه مشكلات لا حل لها وفقاً للسياسة اليمينية المترددة التي يتبعها قحطان وتياره البرجوازي الهوى. وكانت تلك القاعدة الجماهيرية المؤيدة للثورة هي التي تؤيد اليسار في الأصل وهو من يقودها وجزء منها وعلى رأسها، ولذلك صارت الضغوط اليسارية تشتد منه وعليه في وقت واحد. أما اليمين والوسط فكان لا يرى أية إمكانات لمعالجة ممكنة قريباً، في مواجهة أزمة بطالة حادة لم تعرفها البلاد في تاريخها الحديث كله. وقد بلغ عدد العاطلين في عدن وحدها أكثر من 100 ألف عاطل، وهو رقم كبير نسبياً يمكن أن يصل إلى مليون إنسان، أي 70% من سكان الجنوب آنذاك والبالغين حوالى مليون ونصف مليون إنسان، جلهم من محدودي الدخل، وكان ذلك يجعل المشكلة عويصة وكبيرة، وقد انعكست تلك المشكلة على أوضاع ومواقف أعضاء القيادة القومية الحاكمة والمعارضة، وأدت إلى مزيد من الانقسامات داخل صف القيادة القومية.
الجحيم يحيط باليمن الشعبية
كانت الرجعية قد تمكنت من إنجاز انقلاب عسكري في الشمال اليمني بإشراف السعودية والغرب والخليج، ونقلت البعثيين والإخوان والوهابيين إلى سدة الحكم، وفتحت الأبواب أمام الناس للهجرة والعمل في السعودية والخليج.
وكان الطريق في الشمال اليمني سالكاً للحصول على مصادر للعيش بسهولة، نتيجة اتساع الاستثمارات النفطية هناك، وما سمي "الطفرة النفطية"، بينما اتخذوا تجاه الجنوب اليمني المستقل سياسة عدائية وحصارية، اعتدائية وعدوانية دائماً بهدف تركيعه وإحداث انقلابات في سياساته التحررية في قلب الغابة الإمبريالية النفطية.
وكانت البرجوازية العدنية قد تم إغراؤها واستعداؤها بنقل وتهريب أموالها من عدن إلى الشمال وإلى الخارج بهدف حرمان الاقتصاد المستقل من أي مصادر للاستثمار والتنمية والعيش، ووجدت حكومة الاستقلال أن خزائن الحكومة فارغة وأصبحت عاجزة عن دفع المرتبات لموظفيها بانتظام.
وفي عام 1969 تعرضت أراضي اليمن الجنوبية حديثة الاستقلال في الوديعة والشرورة في حضرموت للاعتداء والنهب بالقوة المسلحة السعودية. وعندما حاولت قوات صغيرة من الجنوب استرداد المناطق المحتلة عبر الصحراء تولت القوات الجوية الحديثة الأمريكية البريطانية المشتركة قصفها، وأوقعت بها الكثير من الضحايا والخسائر. وقد كشفت هذه الأحداث بوضوح أن حكومة قحطان عاجزة عن الدفاع عن الأراضي اليمنية التابعة لها والمؤتمنة عليها، وأن تلك الخطوة هي الأولى من سلاسل الاعتداءات. وكان الوفد لبريطانيا المفاوض عشية الاستقلال قد وافق على بقاء بعض الطائرات والطيارين الإنجليز باسم مساعدة حكومة الاستقلال على الدفاع عن أراضيها إلى أن تعتمد على نفسها. وكانت الصدمة عندما طلبت منهم الحكومة أن يساهموا في ردع القوات الأجنبية التي اقتحمت الأراضي الجنوبية اليمنية وسيطرت عليها بفضل الطائرات الحديثة التي تملكها وتستأجرها. ولكن رئيس الفرقة الجوية البريطانية كان رده مهيناً ومخيباً للآمال، فقد قال إنه لا يتبع أوامر حكومة عدن، بل يتبع أوامر حكومة لندن التي يجب أن تعطيه الأوامر بأي شيء تريد القيام به. وهذا دفع وزير الدفاع اليمني إلى طرد البعثة العسكرية البريطانية فوراً آنذاك، وهو ما ضاعف الصراعات والخلافات داخل القيادة القومية التي انقسمت بين مؤيد ومعارض لقرار وزير الدفاع اليساري.
وفي مطلع العام أيضاً تعرضت الحدود الشمالية لاعتداءات عسكرية قامت بها القوات الهاربة من الجنوب بعد فشل انقلاب آذار/ مارس المذكور بقيادة العميد صالح عشال، القائد السابق للجيش الجنوبي، مع قوات شمالية حكومية وقبلية كانت السعودية قد حرضتها مقابل المزيد من الأموال. وأصبحت الأطراف بين الشطرين مصدرا للقلاقل والتخريب والحروب البينية طوال عقدين، بهدف استنزاف الجنوب وإسقاطه وفقاً لاستراتيجية عدوانية غربية سعودية رجعية. وكانت الحركة الوطنية القومية في الشمال قد تعرضت لمذابح واسعة خلال آب/ أغسطس 1968 في العاصمة صنعاء والحديدة وغيرهما من المحافظات الشمالية التي أغرقت في حروب عصابات عسكرية طويلة استمرت عقدين متواصلين. وكانت الحكومة الشمالية بقيادة الفريق العمري والإرياني والشيخ الأحمر (وهم رجال السعودية في السلطة اليمنية بعد انقلاب تشرين الثاني/ نوفمبر 1967) قد تولت تنفيذ مخطط اجتياح الجنوب اليمني بتمويل سعودي أمريكي بريطاني، انطلاقاً من صنعاء وتعز والبيضاء وإب ومأرب ومن حضرموت وشبوة، وتحولت المحافظات الحدودية إلى معسكرات حربية تواصل دق طبول الحرب، متذرعة كل يوم بذريعة جديدة لإقناع جماهيرها وعوامها وقبائلها وأتباعها، وفي المقدمة كانت جحافل الإخوان والوهابيين والبعث الصدّامي الرجعي وفصائل الجيش الذي أعيد تأهيله رجعياً بعد مطاردة آلاف القيادات من الوطنيين والجمهوريين الذين فروا إلى الجنوب وبدؤوا يستعدون للحرب المضادة للرجعية انطلاقاً من حدود الجنوب.
وفي صنعاء تواصلت حوكمة استئصال الحركة الوطنية الجمهورية اليسارية، التي قادت الصمود في حصار السبعين يوماً بقيادة عيد الرقيب عبدالوهاب، قائد رئيس الأركان وقائد الصاعقة اليمنية. ومطلع العام أقدمت صنعاء على اغتيال القائد الجمهوري المذكور وسحل جثمانه في شوارع صنعاء العاصمة، بينما كان ألف من رفاقه العسكريين والسياسيين يقبعون في غياهب السجون إرضاءً للسعودية والولايات المتحدة التي أشرفت على النظام في صنعاء وتحملت نفقات الدولة العسكرية والمدنية كاملة على حساب الخزانة السعودية لتجعل النظام في حالة تبعية مطلقة لها وإلغاء السيادة اليمنية على الدولة تماماً، ووضع النظام الشمالي في خانة التحالفات والتبعية الاستعمارية الأطلسية في إطار محاربة الوطنية المتشددة والاستعداء على النظام الوطني الجنوبي ومواصلة الاستعدادات العسكرية لشن حرب على اليمن الجنوبي.
وقد طرحت هذه التطورات كثيراً من القضايا والخيارات والمشكلات على الحكومة الجنوبية الجديدة التي أصبحت عاجزة عن مواجهتها وحلها بالطرق السياسية والتسويات، لأن المطلوب كان هو رأس سلطة الجمهورية الجنوبية المستقلة، ولم يكن ممكناً معالجة الوضع المتدهور بغير الموقف الصلب والجذري وإعادة النظر في السياسات القائمة على النهج اليميني الوسطي القائم على ترك المشكلات تتنامى وتتفاقم دون حسم أو معالجة أو جهد حميد.
كانت الأموال تتدفق بلا حساب على القوى الرجعية التقليدية القبلية في الشمال مشفوعة بالأسلحة الأمريكية السعودية البريطانية وتستعد عبر المزيد من المعسكرات والقواعد المقامة ضد الجنوب وأمنه الداخلي والخارجي، وتحول الشمال إلى ترسانة ضخمة من السلاح والمرتزقة والخبراء الأجانب الأطلسيين المدربين والقادة والمدراء والموجهين لقوات الحرب الموجهة ضد الجنوب. وتطورت الاحتكاكات حتى وصلت إلى تفجر المواجهات على أطراف محافظات البيضاء وتعز وإب، وحدثت اشتباكات بين الطرفين وأصبحت البيضاء بؤرة شديدة الاشتعال بين الشطرين، حيث يتركز فيها أنصار الطرفين، ويستخدمان أطرافها بعضهما ضد بعض، ومثلها منطقة العوالق - محافظة شبوة، حيث تحولت أطرافها إلى قواعد عسكرية للمرتزقة الموجهين لغزو الجنوب من جهة السعودية مباشرة ومن حدودها الشرقية الملتهبة.
وفي الداخل كانت الأوضاع تزداد سوءاً، نتيجة جفاف المصادر المالية للدولة الجديدة وتفاقم أزمات البطالة والسكن والأسعار والمعيشة والتضخم والخدمات العامة من تعليم وكهرباء وصحة وبيئة وتوفير السلع الأساسية وأسعارها.
تفاقم أزمة السلطة الانتقالية
كانت أزمة حكم داخلية تتفاقم أكثر فأكثر، ولا أفق لها في ظل استمرارية عقلية الحكم القائم وجموده وعدم قدرته على التكيف الإيجابي مع الأزمات وحقائقها ومتطلباتها الموضوعية.
كانت مجموعة من التحديات الملحة تنتصب أمام النظام، أولها: مصدر مشروعية النظام الجديد ومرجعية حكمه وسلطته العليا، ومن أين تأتي القوانين، وكيف توزع الصلاحيات والسلطات بين مراكز الدولة...
كانت الجبهة القومية وقيادتها العامة هي القوة السياسية الشعبية الممثلة للشعب خلال المرحلة الانتقالية التي استلمتها السلطة الجديدة، ومازالت بيديها خلال الثورة والاستقلال، ومازالت تملك السلطة نيابة عن الشعب الثوري حتى قيام المجالس البرلمانية الشعبية المنتخبة نهاية الفترة الانتقالية. وحتى ذلك الحين فإنها هي التي تسيطر وتملك السلطة السياسية والتشريعية الأساسية وتحدد السياسات واختيار القيادات والحكومة وعزلها ومحاسبتها أو عزل أفرادها وأعضائها بمن فيهم رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، فالجميع يعينون من قبل القيادة العامة للجبهة القومية مجتمعة، والجميع يخضعون لقراراتها، وأي خروج عليها يعني التمرد على السلطة الشرعية.
وفي مطلع النصف الثاني من العام 1969 وقعت أحداث هامة جداً، بدأت بسيطة وجزئية، ثم تطورت لتتحول إلى انقسام بين الجناحين وإلى صراع على السلطة بين اليمين الحاكم واليسار والقيادة العامة للتنظيم السياسي للجبهة القومية بكل أطرافها الأيديولوجية والفكرية، حول سلطات رئيس الجمهورية المؤقت وبين سلطات القيادة العامة للجبهة القومية.
أخذ الصراع شكل مناقشات دستورية أو فكرية قانونية في البداية، واستمر حتى اتخذت القرارات بالتصويت حول الوثيقة التي أقرتها القيادة العامة حول المقترحات المقدمة من رئيس الجمهورية كمشروع للدستور.
كان الموقف من المقترحات الرئاسية سلبياً. كان قحطان الشعبي، رئيس الجمهورية المؤقت والانتقالي، قد أراد أن يجمع السلطات والصلاحيات بالكامل وتجاوز حقوق وسلطات ومرجعية القيادة العامة والجبهة القومية بالكامل، عبر محاولة إقرار وثيقة دستورية جديدة تؤسس لدستور بيروقراطي استبدادي فردي يحصر السلطة في رئيس الجمهورية ويلغي حقوق وصلاحيات القيادة وتنظيم الجبهة القومية ويجعله تابعاً للرئيس وملحقاً بالرئاسة وخاضعاً لقراراتها.
وكان قحطان مدعوما باليمين القومي، متأثرا بنموذج الجمهورية العربية المتحدة العسكري القائم في مصر آنذاك، حيث تقوم كل المؤسسات الجماهيرية والنقابية والسياسية الشعبية وتخضع لرجل واحد وللمؤسسة العسكرية الأمنية ومخابراتها وأجهزتها وأساليبها الفاسدة والقمعية، وتكون مرتعا للنفوذ الأجنبي ومحمية من الحساب والمساءلة عما تفعله وما تنفقه وفي أي اتجاه ولصالح أي الفئات الاجتماعية، حيث ميزانية الدولة تحت تصرف الأتباع والأنصار والمحاسيب من ذوي الحظوة والقرابة ورقابة شعبية أو قانونية لما يجري فيها، وهي النموذج الذي قاد إلى النكسة والهزيمة والفساد والخيانة للوطن والأمة، ومارس أساليب القمع والتعذيب والاعتقالات والتعدي على الحقوق والانحرافات التي رأيناها أمام أعيننا، واعترف بها الحاكم بنفسه عندما أشار إلى دولة المخابرات في مصر قبل النكسة وبعدها.
القشة الكاسرة
كانت القشة التي كسرت ظهر البعير الرئاسي هي النزاع الذي نشب على أرض السلطة بين الرئيس قحطان وبين وزير الداخلية السيد محمد علي هيثم، الذي كان من جناح الوسط اليمين، أي أنه حليف للرئيس قحطان، ولكن صراع السلطة تفجر بين الجانبين عندما أصدر الوزير هيثم قرارات حول تنظيم شؤون الجنسية الجنوبية وألغاها الرئيس بقرار مقابل، ولما أصر عليها الوزير قام الرئيس بإقالة الوزير وطلب إليه البقاء في بيته.
وهنا انتقل النزاع إلى القيادة العامة للجبهة القومية، لأن قرار إقالة الموظفين والوزراء وغيرهم كان محصورا بالقيادة العامة للجبهة القومية وحدها، ولا يحق للرئيس الانتقالي المؤقت أن يقيل أي موظف إلا بعد قرار من القيادة العامة، التي لها وحدها أن تقرر مصير جميع كبار الموظفين في الدولة بموجب قرار جماعي منها.
وهنا انتقل النقاش إلى اجتماع القيادة العامة التي انعقدت لتقف أمام الإشكال الناشب بين أطراف في السلطة. وكان الوزير قد لجأ إلى القيادة العامة التي أفتت بعدم مشروعية قرار الإقالة، واستدعي الجميع للاجتماع العام لأعلى هيئة قيادية في الدولة للنظر في المشكلة الناتجة عن تداخل السلطات وعدم وضوحها لدى الجانبين.
وقد تقدم الرئيس قحطان بمشروع الدستور المطلوب إقراره في تصوره هو وجماعته من قبل القيادة العامة للجبهة القومية. وكان واضحا أن تباينات كثيرة وحاسمة سوف تبرز وسوف تفجر صراعاً حول السلطة بين الجانبين، وأن النتيجة محسوبة بدقة اعتماداً على مراكز القوة الغالبة قبل كل شيء، وليست وفقاً للأغلبية التنظيمية الشرعية التي هي أساس التنظيم السياسي ومن ثم تكرار ما حصل في المؤتمر العام الرابع حين لجأ قحطان الشعبي وفريقه إلى استخدام القوة المسلحة للسلطة، أي أن اليمين الحاكم اعتماداً على سيطرته على السلطة العسكرية والأمنية، وعندما تأتي نتيجة التصويت من قبل القيادة العامة على عكس هواه فإنه يرتب لانقلاب عسكري جديد أو يسلم السلطة لليسار، ولذلك قرر أن يضع الجميع أمام خيارات صعبة، وقد أدرك اليسار هذه الخطة التي جوهرها التحجج بأن اليسار لا يمكن العمل معه مما يستدعي الإقدام على إعادة تنظيم القيادة العامة والتنظيم السياسي وفقاً لإرادة رئيس الجمهورية واليمين الحاكم، وكانت الخزة الحاسمة هي المطالبة بإقرار المشروع أو قبول استقالة الرئيس كمناورة تفتح الطريق أمام الحل العسكري الانقلابي المخطط له سلفاً، وهكذا تنتقل المعركة السياسية إلى ساحة التنظيم السياسي وإلى الجيش الواقع تحت قيادة اليمين العسكري حليف الرئيس، والمتبقين من بقايا الانقلاب الفاشل في آذار/ مارس 1968، وكان هذا الاتجاه خطيراً جداً، وسوف يدخل البلاد في الفتنة المسلحة والحرب الأهلية مجدداً وسيفتح الأبواب أمام الرجعية والمستعمرين للتدخل من جديد.
وفي الواقع فإن اليمين كان له اجتماعاته وتنظيمه الخاص وقيادته الخاصة منذ عشية الاستقلال مباشرة، وبالذات منذ المؤتمر العام الرابع للجبهة القومية 1968.
وبالمقابل فإن اليسار كان له تنظيمه الخاص وقيادته أيضاً منذ تعرض للانقلاب العسكري الذي استهدفه في آذار/ مارس 1968 الفاشل، والذي أقدم عليه اليمين سراً وعبر المؤامرة مع الرجعية والاستعمار الأمريكي البريطاني السعودي وتستر عليها رئيس الجمهورية قحطان الشعبي وحماها عندما فشلت في التنفيذ للأسف، ولذلك كان الأمر المفاجئ الحاصل هو مؤامرة جديدة مدبرة للإيقاع باليسار وتصفيته وإخراجه من السلطة نهائياً. وقد عقدت قيادة اليسار الاجتماعات المتوالية للوقوف أمام التطورات الجارية في البلاد والدولة والتنظيم والجيش. وقد قررت استباق المؤامرة بخطة مقابلة تكون جاهزة للوقت المناسب القادم حتماً.
وقد تحركت كتلة اليسار باتجاه بناء حلف قيادي واسع القاعدة وغالب القوة العسكرية والاجتماعية داخل التنظيم السياسي وقيادته وداخل المؤسسات الحكومية والعسكرية والأمنية والتنظيمية والشعبية والجماهيرية.
الاستراتيجية اليسارية الوسطية المشتركة وكتلة الأغلبية السياسية التنظيمية والعسكرية
وتشير إحدى الوثائق التاريخية التي اعتمدتها الجبهة القومية اليسارية وقيادتها بعد الحركة التصحيحية 22 حزيران/ يونيو 1969 التي أزاحت من الحكم تيار اليمين الرجعي الانقلابي بعد أن تمرد على الشرعية التنظيمية والسياسية للجبهة القومية وقيادتها العامة، وأراد إقامة دكتاتورية عسكرية بيروقراطية برجوازية مرتبطة بالأجنبي والاستعمار الجديد وتقضي على الاستقلال الوطني الذي تحقق بالتضحيات والدماء التي قدمتها جماهير الشعب الكادح، ولذلك كان لا بد لليسار من أن يقدم على الخطوة الحاسمة في إطار احترام الشرعية التنظيمية والسياسية. ومن الخمسين عضواً من مجموع القيادة العامة للجبهة القومية كان (35) عضواً مع اليسار، مقابل 13 عضواً مع اليمين ومع قحطان ومشروعه، ومعنى هذا أن التصويت داخل القيادة العامة بعد المناقشات المطولة الحارة سوف يظهر التناقضات الحادة إلى السطح، وهكذا أراد قحطان وحلفاؤه.
تعلم اليسار الدرس المستخلص من تمرد العام 1968، ولذلك أراد أن يحصل على أغلبية تنظيمية تدعمها أغلبية عسكرية وشعبية وجماهيرية، في الوقت نفسه قل الفرز والتصويت والحسم، وكان على اليسار أن يحقق مجموعة من الإنجازات الاستراتيجية قبل ذلك وإلا أضاع كل شيء.
استراتيجية التمرد الثورية ضد التمرد العسكري البيروقراطي اليميني المعادي للثورة
كانت القوات العسكرية الجنوبية الرسمية واقعة بين قيادتين متعارضتين في كل شيء: القيادة اليمينية، أي الضباط الكبار الرتب من العقداء والعمداء الذين تربوا على أيدي الإنجليز في ظل الاحتلال والسلاطين، وكانت أغلبيتهم تنتمي قبلياً إلى دثينة ومودية في محافظة أبين والعوالق، وكان هؤلاء مؤطرين سياسياً إلى جانب التمرد ضد الشرعية الوطنية السياسية التنظيمية للتنظيم السياسي الجبهة القومية، وقد فعلوها مرة في انقلاب آذار/ مارس 1968، وقد حماهم رئيس الجمهورية رغم جرائمهم واعتدائهم على أعضاء القيادة العامة واعتقالهم وتعذيب العديد منهم، ومنهم عبدالفتاح إسماعيل وسلطان أحمد عمر وعبدالله الخامري وعبدالله باذيب... وغيرهم.
وكانت شلة العقداء الرجعيين تتكون من العقيد الصديق والعقيد بلعيد والعقيد محمد هيثم والعقيد علي الميسري والعقيد الشعبي... وسواهم، وكانوا يسيطرون على قيادة الوحدات العسكرية الأمنية المسلحة، وتضم أغلب الوحدات الموجودة التي خلفها المستعمر بعد رحيله وتتمركز في العاصمة والمحافظات المحيطة، وكلها كانت منظمة في كتائب مشاة ميكانيكية وعربات ومدافع ميدان ومدافع مكينة، أي رشاشات متنوعة.
ولكن تنظيم الجبهة القومية وقيادته العامة كان قد اخترقها خلال الكفاح التحرري سراً، حيث استقطب أغلبية القيادات الصغيرة من الملازمين والضباط الصغار الذين لهم اليد الطولى على أوضاع الفصائل والسرايا العسكرية للكتائب ومنظمين في تنظيمات وخلايا عسكرية خاصة تتبع القيادة العامة للجبهة القومية مباشرة وأغلبيتها يسارية الهوى والمبادئ بحكم وضعها المعيشي والطبقي الفقير والمحروم وتطلعاتها إلى العدالة الاجتماعية التي كانت حلم المساكين والكادحين، وكانوا ينتمون إلى أفقر العشائر القبلية الريفية الجنوبية.
كان هؤلاء هم الذين أفشلوا انقلاب آذار/ مارس 1968 حين رفضوا تنفيذ أوامر قيادتهم الانقلابية العليا ضد القيادة العامة للجبهة القومية، والآن هذا هو رهان اليسار الأساسي أمام الانقلاب الجديد لليمين الذي يجري تحضيره، أن يتماسك موقف هؤلاء القادة الصغار الوطنيين المخلصين، وكانوا من أبين في الأغلب، لكنهم قد طُعّموا بقادة من محافظات أخرى من جيش التحرير الشعبي الوطني والحرس الشعبي والقوى الشعبية والقطاع الفدائي، ومنهم كان القائد علي عنتر وصالح مصلح وعلي شائع وعبدالفتاح إسماعيل ومحمد سعيد عبدالله ومحمد صالح مطيع وفضل محسن وسالم ربيع علي ومحمود عشيش وصالح امزربة وعبدالله امزربة وعبدالعزيز عبدالولي ومحمد علي هيثم... وكانت معارك استعادة المناطق التي احتلها المرتزقة خلال العام 1968 والتي لعب اليسار فيها الدور القيادي الأكبر والحاسم وعين الكثير منهم قادة للوحدات المقاتلة وموجهين سياسيين تنظيمين لها قد منح اليسار الكثير من الاحترام والنفوذ والسمعة الطيبة بين الشعب والجنود والجماهير، وقد تحولت بطولاتهم إلى أغانٍ شعبية وزوامل عسكرية تمجدهم، وخاصة المقدم علي عنتر، قائد الجيش الشعبي خلال التحرير الوطني في ردفان والضالع، الذي لعب دوراً متميزاً وهائلاً في المعارك الميدانية الجديدة.
كما أن القيادة التي أقامها اليسار في ميدان المعارك ضد المستعمر في عدن والجنوب، قد ضمت مجموعة من أمهر الرجال وأكثرهم شجاعة وإقداماً ووطنية، وأبرزهم كان علي عنتر وعبدالفتاح إسماعيل وسالم ربيع علي ومحمد علي هيثم وعلي صالح عباد والحاج باقيس وعبدالعزيز عبدالولي وعبدالنبي مدرم ومهيوب الشرعبي وبدر الدبعي وعباس وعبدالقوي اليافعي وسلطان أحمد عمر وعبدالله الخامري ومحمد صالح مطيع وفضل محسن عبدالله ومحمود عشيش...
اليسار وتغيير المعادلات تحقيق اختراقات سياسية استراتيجية
كان اليسار في منتصف حزيران/ يونيو 1969 قد وجد نفسه أمام صراع سلطة حتمي ولا يمكن تجنبه أو تأجيله، أمام أزمة سلطة ثنائية التوجهات مزدوجة متعارضة الأهداف متصادمة المصالح مختلفة التحالفات والتعبيرات الاجتماعية المتطاحنة نتيجة تفاقم الأزمات الاقتصادية والمعيشية. وقد أدرك أن الأزمة السياسية العامة في طريقها للنضوج كل يوم وسوف تطرح مسألة التغيير السياسي حتما أو ستقود إلى انقلاب عسكري رجعي يرتبه مركز السفارة الغربية إياها التي رتبت انقلاب 1968 الفاشل، حيث الظروف تبدو لها أكثر ملاءمة مما كانت قبل. ولذلك كان هناك سباق مع الزمن، وكل القوى مستقطبة في الصراع على السلطة، حيث الصراع الاجتماعي السياسي يشتد بشكل قوي ومتصاعد في مركز الدولة والحكم وفي المجتمع والشارع والإدارة، وكانت البلاد تشتد معاناتها المالية والإدارية والاقتصادية والمعيشية.
وبعد أن درست قيادة اليسار طبيعة القوى السائدة في السلطة القائمة وفي المجتمع السياسي السائد وتحالفاته وأزماته، أدركت أن التنازع الراهن بين رمزي السلطة اليمينية: الرئيس قحطان والوزير محمد علي هيثم لا ينحصر في المجالات والمستويات الشخصية الذاتية، بل يصل إلى ما هو أعمق وصولاً إلى التركيب السلطوي القائم وفي عمقه وجوهره، وما هذا النزاع القائم إلا شكله الخارجي ومظهره، فالطرف المنازع لقحطان هو من أنصاره من وسط اليمين الحاكم وليس من اليسار، والنزاع القائم قد مس جوهر التحالفات بين الطرفين المتحالفين اللذين اتجها إلى التصعيد والتصعيد المضاد، وهو ما يقود إلى التمرد المسلح استناداً إلى القوة التي يمتلكها كل طرف.
كان محمد علي هيثم كوزير للداخلية والأمن الداخلي يحتكم على قيادة مجموعة من القوات المسلحة تحت تصرفه تتبع وزارة الداخلية والأمن كان يسيطر عليها استناداً إلى وظيفته الرسمية وإلى وضعه القيادي ودوره التنظيمي القيادي في تنظيم الجبهة القومية، فقد كان مركز قوة هاماً جداً. لذلك سعى اليسار لتحييده والتحالف معه في أي تحرك قادم مشترك لإسقاط دكتاتورية قحطان ويمينه الرجعي العسكري، ولذلك فقد استغل اليسار الصراع بين الحلفاء واستثمره سياسياً عبر التفاهمات التي عقدها مع أبناء أبين ومودية ودثينة الذين يشكلون أغلبية القوات والقيادات الجنوبية على اختلاف اتجاهاتهم، وهم منقسمون بين الاتجاهات المختلفة في السلطة والتنظيم.
كان قحطان مصراً على إقالة الوزير هيثم من الوزارة وإخراجه من السلطة والحكومة؛ ولكن اليسار وقف في القيادة العامة للجبهة القومية مدافعاً عنه ومانعاً لقحطان من التصرف وإبطال قراره بالإقالة والطرد، بقرارات من القيادة العامة الجبهة القومية. وهنا تعززت أساسات جديدة للتحالفات المؤقتة والمرحلية رغم الاختلافات الفكرية بينهما، أي بين اليسار وبين الوسط العسكري الدثيني الذي كان يقوده هيثم، وهذا قرب المسافة مع اليسار أكثر فأكثر مع اشتداد النزاع السلطوي بين مركزي السلطة المتكافئين نسبياً.
كان تحدي قرارات وسلطات الرئيس من قبل الوزير هيثم قد استند إلى دعم اليسار له ولموقفه، فقد تكونت كتلة متراصة جديدة شكلت أغلبية تنظيمية وعسكرية، وفي الوقت نفسه تستطيع حسم النزاع بالوسائل السلمية والعسكرية أيضا ومنع وردع أي انقلاب تفكر فيه كتلة اليمين المتطرف باستخدام الجيش والوحدات التابعة لها. وأدى التعاون المجرب والمختبر بين طرفي اليسار والوسط إلى تكون ثقة متبادلة في البحث عن مخرج من الأزمة التي تعصف بالحكم وبالبلاد.
فقد كان هيثم مسؤولاً عن التنظيم السياسي العسكري للجبهة القومية في الجيش والأمن خلال مراحل الكفاح الوطني وبعدها، وتربطه علاقات كفاحية قديمة بقادة اليسار الذين كانوا قادة الجبهات العسكرية والفدائية لجيش التحرير الشعبي والحرس الشعبي والقطاعات الفدائية المسلحة في عدن والضالع وردفان والشعيب ويافع وحضرموت والمهرة ولحج وأبين وزنجبار والعوالق، أمثال علي عنتر وسالم ربيع وعبدالفتاح إسماعيل وصالح مصلح ومحمد سعيد عبدالله والحاج باقيس والمقدم عبدالقوي اليافعي وعلي ناصر حسني وعلي صالح عباد وعبدالله الخامري.
ومن وسط اليمين انتقل الوزير هيثم ومجموعته إلى موقف وسط اليسار، وجرى الاتفاق على تشكيل أغلبية جديدة للحكم وكتلة مشتركة من القيادات الميدانية العسكرية والأمنية الوطنية لحماية القيادة العامة والتنظيم السياسي للجبهة القومية وحماية شرعيته والتصدي لأية تحركات انقلابية في صفوف الجيش والأمن، ونقل السلطة كاملة إلى القيادة العامة للتنظيم السياسي ووقف كل محاولات التمرد عليها، وإنهاء السلطة الفردية وسحب الثقة من الرئيس المؤقت وتكوين سلطة جماعية تنفيذية من مجلس رئاسة من خمسة إلى ثلاثة قياديين من أعضاء القيادة العامة، وتكوين حكومة جديدة تلتزم بقرارات القيادة العامة وتنفذها وتمثل مصالح الطبقات الشعبية الكادحة وتنهج نهجاً تقدمياً وتوحد القوى الوطنية وتتحالف مع الدول التحررية اليسارية الدولية التي تحترم سيادتنا واستقلالنا دون تدخل في الشؤون الداخلية للبلاد.
وكان هذا الاتفاق وتنفيذه قد ارتبط بموقف الرئيس قحطان من قرارات القيادة العامة للجبهة القومية ومدى احترامها من جانبه، وهذا سوف يتبين بحقيقته من خلال التصويت على رفض المشروع الدستوري المقدم من قبله، والذي يطالب بمنحه صلاحيات القيادة العامة للجبهة القومية وتركها دون ممارسة أي دور سياسي حقيقي حسب النظام العام الداخلي للتنظيم.
المعركة الأخيرة الحاسمة حول السلطة
كان اليسار وقيادته قد درسوا الموقف مع بداية الأزمة الحكومية في السلطة، ومنذ أن قدم الرئيس قحطان مشروعه البيروقراطي الدستوري الصوري، وقد فهموا أن الرئيس قحطان يريد أن يفجر الأزمة السياسية بين الطرفين، أن ينقل النزاع من المسرح السياسي التنظيمي إلى المسرح السياسي العسكري، حيث يمكنه أن يعطي الأوامر إلى الوحدات التابعة له باعتقال الأغلبية اليسارية الشرعية كما فعلوا في انقلاب آذار/ مارس 1968 الفاشل وباتهامهم بأي ملف أو جناية كيدية كما فعل من قبل وكما أعد استراتيجيته وتكتيكه، وكان يخطط لذلك ويسعى إليه متصوراً أنه يستطيع مفاجأة القيادات القومية في اجتماع يجهز هو وجماعته له، وأنه يستطيع الضغط على أغلب القيادات لتصوت في حضوره على عكس ما ترغب به، وأنه بحضوره الطاغي الحكومي سوف يكون له تأثير حاسم وسوف يضع الجميع أمام خيارات متطرفة؛ إما أن يسيروا خلفه وخلف مشروعه وإما أنه سيجد الحجة التي يتحجج بها لانقلاب السلطة وسوف يمرر المشروع من خارج التنظيم السياسي وقيادته المسؤولة بأساليب بيروقراطية معروفة، كان أحدها تنظيم استفتاء مزور عبر الأجهزة الحكومية التابعة والمضللة واستخدام حملات من الدعاية الموجهة بدعم الطبقات البرجوازية المالية التي تبرعت بأموال طائلة للانقلاب السابق، كما أكد العديد من الباحثين والمؤرخين أهمهم: سلطان أحمد عمر وعبدالفتاح إسماعيل، وكان أبرز الماليين الذين مولوا الانقلاب الرجعي هم نخبة التجار الكبار المغتربون في السعودية والخليج أمثال باشنفر وبازرعة والعمودي وبإيعاز سعودي عدواني واضح.
ولذلك فقد عمل اليسار في اعتباره وفي خطته أن يتماسك وأن يحافظ على الأجواء هادئة ودافئة بين الاتجاهات، وأن يظهر النزاع الجاري على حقيقته باعتباره نزاعاً بين توجهين، أحدهما يسعى إلى تصفية القيادة الوطنية الجماعية وإلغاء دورها الشرعي والتاريخي واستبدالها برئاسة بيروقراطية فردية واستبدادية وعائلية ومناطقية لفتح الطريق أمام حملات تصفية الثورة والاستقلال ومنجزاتهما، وتحويل التنظيم السياسي من قائد جماعي للثورة والسلطة الوطنية إلى ملحق صغير تابع لمكتب رئاسة الجمهورية كدائرة من دوائر مكتبه يديرها مدير مكتب الرئاسة. ولذلك قررت القيادات اليسارية أن يخوضوا أطول نقاش ممكن حول الوثيقة الدستورية المقدمة قبل الانتقال إلى التصويت الأخير وبهدف إيضاح جوانب نقصها ومخاطرها على الجبهة القومية ككل وعلى البلاد والسلطة الوطنية ومصيرها.
ومن هنا فإن قيادة اليسار والوسط المشتركة المتحالفة قد رتبت أمرها وتحركاتها على أساس متغيرات الواقع والمستجدات الجارية جراء نتائج المناقشات في مختلف مراحلها، وكان الهدف هو إقناع عدد كبير من القيادة العامة من غير اليسار والوسط من الوطنيين بوجهة نظر اليسار، وأن ينتقل إلى جانبه السياسي في التصويت الحاسم، لذلك خاضوا نقاشات ومشاورات مع عدد كبير من القيادات العامة بمن فيها عناصر في قيادة اليمين، مثل فيصل الشعبي رئيس الوزراء الذي كان هو دينامو اليمين الحاكم وكان ابن عم قحطان الشعبي ومساعده، ولكنه قد تردد طويلاً بين الاتجاهين رغم اتفاقه مع وجهة نظر الآخرين في نقاط كثيرة، إلا أنه كان مشدوداً إلى العلاقات والروابط الأسرية السياسية وإلى موقعه في السلطة من رئيس الجمهورية، فهو الرجل الثاني في التسلسل الحكومي للدولة وأصبحت مصالح الحكم تغلب عليه في الواقع.
وتوالت المناقشات حول الوثيقة الرئاسية واستغرقت بعض الوقت وخلقت انحيازات واستقطابات حادة، واتضح أن اليمين الحاكم قد دفع إلى الميدان السياسي بالتناقضات السلطوية متخيلاً أنه يستطيع أن يمرر الوثيقة الدستورية على اجتماع القيادة العامة دون أن تدرك أبعادها السياسية وجوهرها، ولذلك فإن القيادة العامة قد انقسمت حولها إلى طرفين متواجهين كل طرف يمثل قوة اجتماعية فكرية منفصلة متواجهة متناقضة مع الأخرى في المجتمع وفي الدولة والسياسة والمصالح والأهداف والتصورات والتحالفات المنتظرة والمستقبلية وطبيعة الحلول المقترحة المتعارضة جذرياً.
وكان قحطان قد عقد العزم على أن يضع السلطة والبلاد على شفا حرب أهلية، حيث يوظف الجيش الموروث من الاستعمار للضغط على القيادة العامة وتخويفها بالسلاح والمعتقلات والقمع الذي ينتظرها إذا تصلبت ورفضت مشروعه المخطط، ولذلك فقد اتخذت القيادة العامة قرارات حاسمة لمنع الانجرار إلى تلك الهاوية المعدة للإيقاع بها، وكان سير المناقشات يكشف النوايا المبيتة على حقيقتها.
وكان اتجاه النقاش الغالب قد تبلور، وأغلبية القيادة العامة وهي 35 عضواً قيادياً من مجموع الخمسين عضوا قد اصطف مع اليسار وتحالفاته وموقفه من الوثيقة وخطرها، ولذلك سارعت القيادة العامة إلى الاستعداد لمواجهة ما يترتب على قراراتها من مواقف وتطورات حتمية، وكان أول القرارات هو نقل الاجتماعات ومقرها إلى مقر التنظيم السياسي في محافظة عدن بعيداً عن قاعة اجتماعات القصر الرئاسي، لكي لا تظل القيادة العامة تحت ضغط التهديد الدائم. كما أصدرت قرارات جديدة موجهة إلى التنظيم السياسي ترفع فيها الجاهزية الأمنية واليقظة الوطنية إلى أعلى الدرجات، وتحيطه علماً بالتهديدات الموجهة إلى الوطن من قبل بعض المغامرين العسكريين المرتبطين بالإمبريالية والرجعية ومخططاتها ضد الشرعية الوطنية وضد التنظيم السياسي.
وطلبت القيادة العامة من القوات المسلحة الوطنية ألا تنفذ أي أوامر تأتي إليها من غير خطوط القيادة العامة للجبهة القومية. وكان لاستجابة الجنود والضباط الوطنيين القوميين دور حاسم حيث بادروا إلى السيطرة على الأرض وعلى القيادات ومواقعها في الوحدات والمعسكرات واستبقوا أي محاولات انقلابية معادية، وقامت تلك الوحدات بتسليح أعضاء التنظيم السياسي لكي لا يؤخذوا على حين غرة كما حدث من قبل.
وعندما أصبحت الأوضاع السياسية والأمنية تحت السيطرة أصبح من الضروري التقدم نحو النقطة الحاسمة في المناقشات، وهي التصويت على ضوء واضح من الاصطفافات على الأرض، فقد اتخذ القرار بالتصويت وكانت النتيجة برفض الوثيقة المقدمة من السيد قحطان الشعبي بأغلبية 35 عضواً قيادياً وتأييد 13 عضواً لها، أي أن أكثر من ثلثي الأعضاء صوتوا برفض الوثيقة، ولذلك فقد أصبح التصويت بمثابة استفتاء على الثقة برئيس الجمهورية، الذي رفض قبول النتيجة وقدم استقالته من منصب رئيس الجمهورية إلى الاجتماع وغادر الاجتماع غاضبا ليبدأ أمراً كان قد دبره بليل. وقد طلبت القيادة العامة المجتمعة من الأقلية الرافضين للقرار العام احترام القرار وتنفيذه مع الاحتفاظ بحقها في الاختلاف، لكن الأقلية عبرت عن رغبتها في عدم تنفيذ القرارات الصادرة ثم غادرت الاجتماع بنية تخريب النتائج، واضطرت القيادة العامة إلى اتخاذ قرارات انضباطية بشأن الذين خرقوا النظام العام وتمردوا عليه وحسموا مصيرهم في تنظيم الجبهة القومية وعضويتها.
قبلت استقالة الرئيس قحطان، وتم تكليف مجلس رئاسي جماعي مكون من خمسة من أعضاء القيادة العامة.
كانت قيادة الأغلبية التنظيمية قد تشكلت من وقت سابق لمثل تلك الظروف القاسية التي اختبروها في الماضي. وقد تشكلت القيادة ومجلس الرئاسة الجديد من القادة سالم ربيع علي وعبدالفتاح إسماعيل ومحمد علي هيثم وعلي عنتر وعلي ناصر حسني، وانتخب الرفيق عبدالفتاح إسماعيل أميناً عاماً للقيادة العامة وللتنظيم السياسي للجبهة القومية.
تأمين الحركة التصحيحية 22 حزيران/ يونيو 1969
وبتلك الإجراءات والقرارات التي اتخذتها القيادة العامة للجبهة بغالبيتها العظمى، وتمرد الأقلية وانفصالها عن التنظيم السياسي وعن قيادته، وتمرد قحطان الشعبي وجماعته ومحاولته التوجه لاستثارة الصراع الأهلي بعد استقالته وفقدانه أية أهلية أو مشروعية أو صلاحية سياسية ومحاولته مخاطبة الجمهور عبر التلفزيون والإذاعة متأثراً بأحداث 10 حزيران/ يونيو 1967 في القاهرة واستقالة عبدالناصر وخروج جماهير التنظيم الاشتراكي العربي إلى الشارع لإجبار النظام على رفض استقالته والعودة عنها، وكانت تلك مقارنة ساذجة تفتقر إلى الحكمة والإدراك للفوارق بين الواقعتين والاستقالتين.
كانت استقالة عبدالناصر إقراراً بالأخطاء الجسيمة التي أدت إلى الهزيمة والنكسة، واستعداده لتحمل النتائج والمحاكمة أمام الشعب، لأن الشعب المصري كان هو الذي اختاره رئيساً للجمهورية بعد حركته التصحيحية التي قادها. أما استقالة قحطان فكانت هروباً من مواجهة القيادة العامة للجبهة القومية التي اختارته وكلفته رئيساً مؤقتاً للبلاد نيابة عنها، بوصفها، أي التنظيم السياسي وقيادته العامة، صاحبة المسؤولية الشرعية الثورية نيابة عن الشعب اليمني الثائر والممثل الشرعي الوحيد في قيادة الثورة وتحقيق الاستقلال والحرية الوطنية الشعبية واستكمال برنامج التحرر الوطني الديمقراطي وبناء الديمقراطية الشعبية الوطنية القومية.
كان قحطان الشعبي قد قضى كل سنوات كفاحه الوطني في القاهرة لاجئاً سياسياً بعد أن ترك حزب الرابطة الاستعماري ولم يتواجد في ميادين الكفاح الوطني المسلح في مواجهة الاستعمار ولم يعد إلى عدن إلا بعد تحقيق الاستقلال الوطني الناجز، وكان يقر بدور التنظيم السياسي وشرعيته الثورية، لكنه بعد الوصول إلى السلطة وإلى رئاسة الدولة بقرارات الجبهة القومية وقيادتها الشرعية الوطنية أضحى أول من يدبر للتمرد عليها واستخدام أحط الوسائل التآمرية الانقلابية والاعتداء على قادته والتحريض عليها مستقوياً بالمنصب الرئاسي المهيب والجليل، ومنسقاً الأمور مع القوى الإمبريالية والرجعية وممثليها الداخليين والخارجيين من قبل انقلاب 21 آذار/ مارس 1968 الفاشل الذي أداره الملحق الأمريكي والبريطاني في عدن بعلمه وفهمه، ولكنه تنكر لأصحابه تكتيكياً بعد فشله فقط، لكي لا تغرق السفينة بكاملها، وانتظر مجدداً فرصة قادمة، وقد فاته الكثير من الحقائق والوقائع، وقد أساء تقدير المواقف والقوى والأهداف والتطورات داخل البلاد وخارجها وفي التنظيم السياسي، لأن ما أقدم عليه في المرتين السابقتين مع جماعاته الأقلية من مؤامرات وأفعال وردود أفعال قد أسس بيروقراطية واستبدادية وانقلابية القيادة السياسية التنفيذية وخروجها عن الشرعية العامة والاستقواء بالقوة المسلحة وبالأجنبي والعدو الخارجي من أجل الاحتفاظ بالسلطة غير الشرعية لنفسه ولذاته وجماعته الزمرية الصغيرة حتى لو سلك طريق الفتنة المسلحة والحرب الأهلية.
وتحركت القيادة الوطنية الجديدة نحو السيطرة على الوحدات العسكرية ومنع أحداث الفتنة واستكمال الحركة التصحيحية الجديدة. وقد انتخبت أكثر الوحدات العسكرية إخلاصاً وثقة وتحركت بها لكي تؤمن جميع المقرات الحكومية والمراكز الحساسة من إذاعة وتلفزيون وصحافة وتحييد العناصر المخلة بالأمن العام، والإعلان للناس وللشعب ملخص ما جرى وإبلاغ الشعب بالقرارات الجديدة، وتوضيح طبيعة السلطة الشعبية الجماعية الجديدة وبرنامجها الوطني الديمقراطي الشعبي وإعلان القضاء على السلطة الفردية الاستبدادية المعادية للشعب.
كانت الخطوة التصحيحية في 22 حزيران/ يونيو 1969 بمثابة انتفاضة ثورية جديدة في سياق الثورة الشعبية واستمراراً لها وانعتاقاً من قيود البيروقراطية اليمينية الرجعية، وحركة إنقاذ للثورة واتجاهاتها الأساسية وضمان استمرارها.
كانت أهم خطوة اتخذها اليسار هي استباق قحطان قبل الوصول إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون لمخاطبة الشعب وتضليله، والسيطرة على القصور الرئاسية والحكومية، وحجز قحطان الشعبي في منزله وفرض الإقامة الجبرية عليه هو ومساعديه وجماعته، وألقي القبض على عدد من القادة العسكريين المتطرفين الذين كانوا يقودون لتمرد في القوات المسلحة وعلى علاقات حميمية مع السفارة البريطانية الأمريكية، وكان أهمهم العقيد الصديق، قائد الأمن العام السابق، وقد قضى في اشتباك مسلح مع جنود الأمن الذين كانوا يحرسونه في طريقه إلى المعتقل في أبين حين حاول الهرب من عربة السجن فيما بعد، وكانت تلك حادثة مؤلمة، فقد أدى الاشتباك المسلح إلى مقتل الأسرى المنقولين إلى أبين عند منطقه الكود بعد أن انتزع الصديق السلاح الرشاش من أحد الجنود وقفز من العربة في منطقة رملية ليتخذ موقعاً مرتفعاً للاشتباك مع الجنود الذين التفتوا إلى الأسرى الذين حاولوا القفز من العربة كما فعل الصديق فأطلقوا على عدد منهم الرصاص وسقط بينهم قتلى وجرحى، وتمت إعادة تنظيم شاملة داخل تنظيم الجبهة القومية على أساس الموقف من النزاع الحاصل بين تياري الجبهة القومية. وقد استثمرت القوى الرجعية الإمبريالية المحيطة باليمن الجنوبي هذه الخلافات الناتجة عن الصراعات السابقة حول السلطة ونفخت في غرور ومطامح عدد من قادة اليمين المُزاحين من السلطة، ومد الكثير منهم أيديهم إلى الخارج، وكانت هذه بداية لطور جديد من الصراع والاحتراب الداخلي الخارجي استهدفت جمهورية اليمن الشعبية، ورصدت لها الكثير من القدرات والإمكانات العربية والأجنبية، وهذا ما سنواصل الحديث عنه لاحقاً.
المصدر علي نعمان المقطري / لا ميديا