القاضي محمد الباشق / لا ميديا -
في الحلقة الماضية تحدثنا عن عطاء الله الذي لا حدود له، عطاء نعمة الرحمة. واليوم بعونه تعالى وتوفيقه وبمدد الحمد لله رب العالمين وصلِّ اللهم وسلم على سيد الحامدين سيدنا محمد وآله صلاة الكمال والجمال والجلال وأزكى وأتم السلام به نسلم من جميع الأوقات هنا ويوم يقوم الأشهاد، بعد كلمة الرحمة زاد الله سبحانه وتعالى عباده من فضله فقال: {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان}.
أي رحمة من مخلوق لمخلوق فإنها حتماً محدودة زماناً ومكاناً وأثراً ونتيجة، وأي رحمة أيضاً لا تكون من أجل الله فإنها إما منزوعة البركة وإما منقلبة إلى بلاء محقق أو فتنة قائمة. أما الرحمة منه سبحانه وتعالى فإنها عطاء تتجلى فيه النتائج وتتنوع وتتسع فيه وسائل وصول هذه الرحمة.
وأضرب هنا مثالاً للرحمة الخالصة من الله الرب الرحمن الرحيم للعبد الفقير المنعم عليه برحمة الله الحنان المنان مالك الملك مجري الفلك ذي الجلال والإكرام والطول والفضل والإنعام. المثال هو في قصة سيدنا موسى مع العبد الصالح (عليهما السلام)، وصف الله جل شأنه العبد الصالح بأنه {آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما}، العلم لدني مباشر والرحمة خالصة.
ونجد أن التصرفات التي قام بها بشأن خرق السفينة وقتل الغلام وسؤال أهل القرية أن يطعموهما وبناء الجدار، نتائج كل تلك التصرفات رحمة بمن لديهم المال وليس لديهم حسن إدارة للخروج من الأزمات.
العلم اللدني باعث على هذا التصرف. والرحمة هي حسن إخراج بركة هذا العلم بأسلوب حكيم يوصل إلى نتيجة الحفظ والأمان لأصحاب السفينة لهم ولرأس مالهم ووسيلة حركتهم البحرية (السفينة).
وفي قصة الغلام رحمة لمستقبل الأب والأم اللذين حتما ستطغى عاطفة الأبوة وعاطفة الأمومة لابن سيتسبب في حرمانهما من ضمان الأمان بحياة الرضا في الدار الآخرة، وقبل ذلك ضمان حياة الاستقرار في الدنيا، فكانت الرحمة بإبعاد هذا الغلام من حياة أبويه.
أما قصة طلب الاستطعام ففيها بيان لؤم أهل تلك القرية وأنهم ليسوا أهلاً لمشاركة أصحاب الكنز في الكنز، فكان طلب الاستطعام مقدمة لبناء الجدار، فإن من رفضوا الضيافة سوف ينزوون في مساكنهم وكل رافض يبحث له عن تبرير لرفضه، فلا يجد سيدنا الخضر وسيدنا موسى (عليهما السلام) من أهل القرية أي فضول: من أنتما؟ ولماذا تبنيان هذا الجدار؟ لأن رفضهم الضيافة عمل منافٍ للفطرة وخارم للمروءة وعقوق للإنسانية وجحود للنعم، فتمكن سيدنا الخضر (عليه السلام) من بناء الجدار حفظاً لمال اليتيمين حتى يشتد عودهما ويبلغا سن الرشد المالي وسن النفوذ الاجتماعي في مجتمع تهب عليه رياح التغيير فيجدا الكنز وقد تطور المجتمع وخرج من الإطار القروي الضيق إلى مجتمع تسوده المدنية، بمعنى التنوع والتعايش.
إذن، الرحمة من الله تأتي بشارة للعباد تهب في حياتهم بمواقف قد لا تظهر لهم. إن ما حصل رحمة إلا بعد ظهور النتائج، فعطاء البشارة من الله بنعمة الرحمة أنها رحمة أوسع من مدارك التخطيط للأمور بالعقل البشري، بل تسخير وتفضل ومنّ وإنعام من المولى المحيط بكل شيء علماً، لذا نجد مع هذه الرحمة رضواناً، والرضوان أيضاً منه، فلفظ منه للبشارة بالرحمة والبشارة بالرضوان.