القاضي محمد الباشق / لا ميديا -
سفر القلب إلى الله هو ما تدور حوله تعاريف مصطلح الإنابة وهو سفر بالاختيار يعني بكل وضوح إقبال القلب إلى الله سبحانه وتعالى، ومن علماء السلوك من وصف حالة الإنابة، أنها رجوع من الكل إلى من له الكل يعني ألا يشغله عن الله أحد، وأن يلتجئ إلى الله طالبا منه العون وصلاح حاله ومآله وتحقيق مطالبه وآماله.
فالرقي في فهم معاني العبودية لله تعالى والفهم الشامل للعبادة أن يعي الجميع أن الكل محتاج إلى الله الصمد فلا المحسن استغنى، إذ لولا عون الله وتوفيقه ما وصف عبد بالإحسان، ولا المذنب استغنى عن ستر الله وعن رحمة الله وعن قبوله تائباً منيباً، وأدعية آل البيت (عليهم السلام) جلية واضحة في ترسيخ هذه المعاني التي هي بواعث الإنابة، إضافة إلى ما يشاهده البشر من عواقب وعقوبات كل من أفسد وكل من أعرض وكل من غفل.
فالرجوع إلى الله حتماً هو مستقبل الجميع، وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً، كرهاً بتنفيذ حكم الله فيه برؤية ومشاهدة جزء مما يستحقه من العقوبات في الدنيا قبل الآخرة، وهذا أمر نشاهده ونشهده في حياتنا، وفي نهاية المطاف الدنيوي يغادر هذا العبد الحياه بالموت.
أما من أسلم لله طوعا فهو من سافر إلى الله بقلبه فأناب، ولشرف الإنابة فقد وصف الله سبحانه وتعالى بها أهل الإسلام والإيمان عموماً، بل شهد الله وكفى بالله شهيدا، أن المستفيد والمنتفع بآيات الله في كتابه المسطور القرآن الكريم وفي كتابه المنظور الكون هو المنيب والآيات «أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب».
هذه الآية من سورة «سبأ»، وفي سورة «ق» بعد أن ذكر الله آياته في الخلق وفي الأرض وفي الكون قال: «تبصرة وذكرى لكل عبد منيب». وفي نفس السورة الكريمة بعد ذكر مشاهد من مستقبل البشر بعد خروجهم من الدنيا قال سبحانه وتعالى: «هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ، من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب».
فمن يتأمل في هذه الآيات يجد أن الفلاح والخير والصلاح والفهم والوعي والاستقامة والثبات وكسب الاطمئنان ونيل السلامة من كيد الشيطان ومن إغواء الطواغيت ومن فتن الدنيا ومن طغيان النفس الأمارة بالسوء ومن كل شرب الإنابة إلى الله، لذا مدح الله صفوة خلقه بالإنابة، مدح الخليل سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا وآلهما أتم الصلاة وأزكى السلام، مدحه الله بقوله «إن إبراهيم لحليم أواه منيب».
وذكر الله سبحانه وتعالى امتنان وحمد وشكر سيدنا شعيب لله أن وفقه لشرف الإنابة  «عليه توكلت وإليه أنيب». وما ثبت على التوبة إلا من أناب بقلبه، ولا أخلص إلا من أناب، ولا فهم حقيقة الدنيا إلا من أناب، فإقامة الوجه لله وتصحيح الوجهة من ثمار الإنابة، إضافة إلى عز الطاعة ونعيم الاطمئنان وحسن الإسلام واستقرار الإيمان وقوته كلها ثمار للإنابة، ولعل أهم ما في الإنابة هي بواعث الإنابة، واعتقد -بعون الله وتوفيقه- أن بواعث الإنابة هي الآتي:
1 ـ أن يوقن كل مسلم ومسلمة بأن له خالقا يرى ويسمع ويطلع على ما في سويداء القلب ويعلم السر وأخفى، وأن خالقه يكرمه إن وجده كما يحب ويعاقبه إن عصى ويرده إن شرد، وأن الإنسان لن يترك سدى.
2 ـ النظر في عواقب الأمور وفي أحوال البشر، وأن شواهد الآثار وأحداث التاريخ وواقع الحياة يؤكد أن كل من بارز الله بالعصيان، وأن كل من مارس الظلم والطغيان، وكل من رضي أن يكون عبداً لشهواته، وكل من غفل وأعرض عن ربه حل بالجميع ألوان العذاب وأنواع العقوبات، فلا عز لمن عصى، ولا أمان لمن طغى، ولا مستقبل لمن ظلم وافترى، ولا طيب حياة لمن أعرض وغفل ولها.
3 ـ من بواعث الإنابة النظر إلى الكون وإلى الحياة بعين البصيرة والتفكر في أمثال القرآن الكريم، وأن مراحل الحياة الواردة في سورة «الحديد» المراحل الخمس التي يمر بها البشر لها مثل واضح في حياتهم بأثر نزول الماء على الأرض ومصير النعم إلى زوال، وأن المستقبل الذي علينا أن نبنيه من الآن هو نيل رضا الله، والآية هي رقم 20 من سورة «الحديد»، وكم وقفت عند أول الآية «اعلموا»، هذا هو العلم النافع أن نعلم جميعاً، ولا نغفل عن فهم ووعي حقيقة الحياة الدنيا التي نعيشها.