غازي المفلحي/ لا ميديا -
منذ عام 1948، كانت الأغاني والأناشيد الفلسطينية والعربية من أبرز وسائل التعبئة الشعبية خلال النضال الفلسطيني، وكانت شكلاً من أشكال المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني داخل فلسطين، وأداة إيقاد روحية الشعوب العربية خارج فلسطين التي كانت تتطلع لقتال ذلك الاحتلال. لكن، عقدا بعد آخر غُيبت الأغنية العربية الداعمة لفلسطين وكان آخر ظهور حقيقي لها عام 2000.

الكلمة مشعل للقضية
من المؤكد أن الأغاني الوطنية والنضالية لها دور مهم في تعبئة الشعور الوطني والقومي والإنساني في جميع محطات كفاح الشعوب وفي المتغيرات والأحداث المصيرية، واستطاعت الأغنية النضالية تجسيد الواقع والمعاناة والمظلوميات، وطموحات التحرر، وذلك في صياغات لحنية عاطفية وحماسية بكلمات هادفة تختزل معاناة ومعتقدات وإيمان الشعوب.
وفي الواقع العربي كانت الأغاني لأجل فلسطين عنصرا هاما، بل هو الأهم، ربما، في إبقاء القضية الفلسطينية حاضرة بقوة في أذهان الشعوب العربية، وأكثر من ذلك لعب الغناء لفلسطين دوراً هاما في ترسيخ ومَنطقة حالة عداء الشعوب العربية للكيان الصهيوني المعتدي وجعلها معتقدا راسخا، وصنع ذلك الغناء هوية وتوجها عربيا سائدا معاديا للكيان الصهيوني ومستذكرا كل جرائمه وظلمه بحق الشعب الفلسطيني.

إحياء جذوة النضال
يقول فنان المقاومة الفلسطيني المقيم في غزة حمزة أبو قينص في حديث لـ”لا”: “للأغنية الوطنية دور كبير في إحياء جذوة النضال والثورة في نفوس الأجيال من ناحية، ومن ناحية أخرى خط التاريخ النضالي الحاضر وترسيخه في أذهان الجيل الحالي والأجيال القادمة، فعندما نغني للشهداء العظام الذين قدموا أرواحهم رخيصة من أجل الله أولاً، ووطنهم ثانياً، نكون بذلك قد حفرنا في ذاكرة الأجيال رمزية هؤلاء الشهداء، فيكونون بمثابة القدوات التي يستلهمون منهم الثبات على المبدأ حتى نفرح بتحرير أرضنا ووطننا من الغاصبين”.

حرب صهيونية ناعمة
تنبه الكيان الصهيوني لخطر الأغنية العربية، وبرغم أن بعض الدول العربية كانت مطبعة مع الكيان إلا أن الأغاني التي كانت شعوبها وفنانوها ينتجونها لأجل فلسطين كانت تشكل خطراً شعبياً داهماً على هذا الكيان، في برمجة أجيال عربية مليونية على معرفة حقيقية بخطر العدو الصهيوني، وبالنتيجة ظهور أجيال مقاومة مقاتلة وربما دول، فكان يجب وضع حد لهذا الخطر، وشن حرب صهيونية ناعمة ضد الأغنية العربية النضالية الداعمة لفلسطين والمحذرة من خطر الصهيونية.
منذ عقود بدأت حرب حقيقية من الصهيونية على الأغنية العربية الداعمة لفلسطين بدءا بدفع الأنظمة العربية المطبعة وحتى غير المطبعة لتغييب الأغنية العربية الداعمة لفلسطين، وحتى وضع معايير منصات الإنترنت والتواصل الاجتماعي التي تدعم الكيان الصهيوني وتصف كل ما يقاوم ظلمه وإجرامه بالمحتوى “الإرهابي”.

العالم أجمع تخلى عنا إلا القليل
يضيف الفنان أبو قينص: “نهمس بهمسة عتاب على النجوم والفنانين العرب وغير العرب لما لمسنا في السنوات الأخيرة من تهميش فني واضح في نصرة القضية الفلسطينية، وأخال السبب يرجع لمحاربة المحتوى الفلسطيني على عدد كبير من المنصات الإعلام الرقمي، فأنا تحديداً فقدت العديد من الحسابات الشخصية والقنوات على يوتيوب والسبب دائماً دعم المحتوى الإرهابي!”.
ويتساءل: “أي إرهاب يكون في حق مسلوب نطالب بعودته؟ أي إرهاب يكون في مبدأ نثبت عليه لنكون وجه الفن السليم نصرة لقضيتنا العادلة؟ فإن لم نحمل نحن هذا الحمل من سيحمله؟”.
ويؤكد الفنان الفلسطيني المقاوم أبو قينص ويقول: “نعلم أن الثمن كبير لنصرة قضيتنا لأن العالم أجمع قد تخلى عنا إلا القليل”.
ويستطرد: “يقع على كاهل الفنان الفلسطيني حمل ثقيل ينفرد به ويتميز عن أقرانه الفنانين حيث إنه أمين بكلمته ولحنه على بقاء القضية الفلسطينية حية في نفوس كل الشعوب العربية وغير العربية ولا يكاد يغادر الفنانون الفلسطينيون هذا المضمار النضالي”.

ممنوع من العرض
عام 2020، جلس الفنان المصريّ أحمد السقَّا ليُدندن بأغنية لفلسطين قال إن جده حرص على غنائها له في الصِّغر، وذلك أثناء استضافته في برنامج السيرة على فضائيَّة (DMC) المصريَّة الإماراتيّة.
غنى السقَّا: “الله يصونك يا فلسطين ونِحنا العرب نحميك”، فحذفت إدارةُ القناة المقطعَ من الحلقة ولم يعرض.
هنا يقـــــــول الشاعر اليمنـــــي عمار الشامي وهو الفائز بالمركز الأول في مسابقة الشعر العربي في مهرجان الرسول الأعظم 2022 بصنعاء: “إن الخط الفني أصبح مرهوناً بالخط السياسي ومستجداته وتأثيراته، فأينما وجدتَ التطبيع العربي للاحتلال ستجد الصوت الفني الذي من المفترض أن يكون مقاوماً قد خفت وتم إسكاته”.
ويضيف: “لاحظ أن آخر عمل عربي مشترك عن القضية الفلسطينية كان “أوبريت الضمير العربي”، هذا العمل على سبيل المثال لم يعد يُعرض على القنوات العربية، بعد أن كان يُعرض على كثير من القنوات أبرزها القنوات السعودية، ذلك يعني أن الحالة السياسية أنتجت رفضاً ليس فقط لإنتاج أعمال فنية جديدة عن فلسطين، بل رفضاً لعرض الأعمال القديمة حتى، لمعرفتهم جيداً أن الفن يشكّل وعياً كبيراً وإحساساً خلّاقاً. في هذا الوقت لا أحد يريد فتح ملف العداء التاريخي بيننا وبين الاحتلال الصهيوني، خصوصاً بالكلمة، لأن هذه الكلمة هي سرُّ الإنسان الذي يموت ويحيا من أجل شيء ومن أجل قضية، وأصبح السلام هو القضية الآن، مع أن الفن هو أصل من أصول السلام، لكنَّهم يتغنون بالسلام الذي يعني أمن إسرائيل، لأنه يحقق أمن الدولة المطبّعة”.

ملاحم فنية عربية ضائعة
في عصرٍ مضى غنيت لأجل فلسطين مئات الأغاني العربية وكان الغناء لفلسطين توجها واهتماما جوهريا لا هامشيا، وكان من أوائل الأغاني العربية الداعمة لفلسطين أغنية مصرية عام 1948، من كلمات الشاعر المصري علي محمود طه وألحان وغناء الفنان والملحن المصري محمد عبدالوهاب.. تقول كلماتها:
“أخي، أيها العربيُّ الأبيُّ أرى اليوم مَوعدنا لا الغدا
أخي، أقبل الشرقُ في أمةٍ تردُّ الضلال وتُحيي الهُدى
أخي، إنّ في القدسِ أختاً لنا أعدَّ لها الذابحون المُدى
صبرنا على غدْرِهم قادرينا وكنا لَهُمْ قدراً مُرصداً”
وفي 1967 غنت السيدة فيروز رائعتها الفنية “زهرة المدائن”، وهي أشهر أغانيها لفلسطين، وذلك على إثر خسارة حرب 1967، وهي من كلمات وألحان الأخوين الرحباني.
اليوم غابت هذه الأغنية الملحمية التي كانت تشعل روحية شعوب الوطن العربي كلها منذ سنوات طويلة عن الشاشات العربية، وأجيال اليوم محظوظة أن هذه الأغنية لاتزال موجودة على منصة يوتيوب ولم تحذف، وربما هي في طريقها للحذف.
ومن الأغاني الشهيرة الأخرى هناك أغنية “في القدس في طريق الآلام” التي قدمها العندليب المصري عبدالحليم حافظ بعد انتهاء حرب 1967، وهي من كلمات الشاعر عبدالرحمن الأبنودي، وألحان الموسيقار بليغ حمدي، وكذلك أغنية “أصبح الآن عندي بندقية” التي غنَّتها أم كلثوم في عام 1969 وهي من كلمات الشاعر نزار قباني، وألحان الموسيقار محمد عبدالوهاب. لكن لا أحد من أجيال اليوم يعرف شيئا عن هذه الأغاني، فضلاً عن أن يقوم الإعلام العربي بإعادة إذاعتها، أو إنتاجها بواسطة فنانين جدد.

تغييب “الملايين” منذ عقدين
كما غابت منذ ما يقارب العقدين أغنية “وين الملايين”، وهي الأغنية الأكثر شهرة ربما من بين الأغاني الداعمة لفلسطين، وكتبها الشاعر الليبي علي الكيلاني وقام بتلحينها الملحن الليبي عبدالله محمد منصور وغنتها عام 1988 كل من الفنانة  اللبنانية جوليا بطرس، والتونسية سوسن الحمامي، والسورية أمل عرفة.
وكانت هذه الأغنية الثورية تشعل النيران في قلوب الشعوب العربية لعقود، وكانت من الأغاني التي أغاضت الكيان الصهيوني، فحوربت تلك الأغنية والفنانون الذين أدوها، وقالت معلومات إن الكيان الصهيوني حاول اغتيال مؤديها. ولم تكن تلك المعلومات بعيدة عن الصحة حيث إن الكيان الصهيوني اغتال فنانين فلسطينيين كثيرين، منهم رسام الكاريكاتير ناجي العلي الذي اغتيل في لندن عام 1987 على يد الموساد الصهيوني. كما تعرضت الفنانة التونسية سوسن الحمامي لمضايقات من الحكومة التونسية بعد أغنية “وين الملايين”، ومواقفها النضالية بشكل عام، وتم دفعها لترك الساحة الفنية نهائياً.

أعمال أخيرة قبل التواري
ومن آخر الأعمال الغنائية العربية لأجل فلسطين، والتي نالت شهرة قبل حظر الغناء لفلسطين بشكل غير رسمي، كانت أغنية عمرو دياب “آخر كلام عندنا، القدس دي أرضنا”، والتي قدمها عام 2000، إلى جانب أغنية الفنان المصري هاني شاكر “على باب القدس” عقب استشهاد الطفل الفلسطيني “محمد الدرة” في عام 2000.
بعدها خيم الصمت المطبق بخصوص الغناء الحقيقي لفلسطين في الفن العربي، والذي مال نحو أعمال ذات أفكار فضفاضة أكثر وتشير بخجل إلى فلسطين وتدعو إلى السلام دون التطرق إلى كيان العدو الصهيوني الذي يعد عقبة السلام، وتبقت حالات فنية عربية فردية تغني لفلسطين، لكنها حوربت ولم تنل الشهرة أو الدعم المطلوب، حتى توارى الغناء العربي لفلسطين خلف حجاب النسيان والتطبيع المستور، ثم اختفت الأغنية العربية الداعمة لفلسطين خلال السنوات القليلة الماضية من عصر التفاخر بالتطبيع العربي مع الكيان الصهيوني.

“المقاومة” الجبهة الوحيدة
واقتصر تواجد الأغنية العربية الداعمة لفلسطين اليوم على بعض دول محور المقاومة المُحارَبة عسكريا واقتصاديا وإعلاميا، مثل اليمن ولبنان وسوريا والعراق وإيران إلى جانب فلسطين بالطبع، والتي مازالت تجود بفنانين مجاهدين يقاتلون في جبهة كبرى مصيرية يريد أن يحسمها الكيان الصهيوني ويطويها طي النسيان.

حرف البوصلة
من وجهة نظر الشاعر اليمني عمار الشامي فإن رداءة اهتمامات الإعلام وانتقائيته أيضا هي سبب جوهري لشحة الإنتاج الفني المعبّر عن القضية الفلسطينية، ويضيف: “الفلسطينيون بكل تأكيد يعملون على أغنياتٍ وأناشيدَ باستمرار، لكنها لا تصل رغم عصر السرعة ووسائل التواصل الاجتماعي، ويبدو أنه تتم إزاحتها جانباً وحجب الضوء عنها والاهتمام بالقضايا المختلفة الهامة والسخيفة”.
ويشير الشامي إلى أن التعاطي مع القضية الفلسطينية “أصبح بالنسبة للكثيرين مملاً، وهناك من يقول ما الفائدة من الكتابة والتلحين والإنتاج من أجل قول نفس الكلام عن القضية وعن المظلومية وعن تحرير فلسطين دون تحقيق شيء؟!”.
ويستطرد قائلا: “رغم أن هناك سبعين مليون أغنية عربية عن الحب والفراق والهجران والخيانات العاطفية ولم يملوا! بينما الملل لديهم يحدث عندما يكون هناك قضية، وحيثما توجد التفاهة يوجد الاهتمام.. هذا طبع عربي، أو معرَّب بالأصح”.

صناعة وعي تطبيعي!
ويبدو جليا اليوم أن تغييب الأغنية العربية الداعمة لفلسطين قد أضر كثيرا في وجدان الشعوب والأجيال العربية القادمة، وعلى هذا الحال فإن معظم الملايين من الأجيال العربية القادمة ربما لن تجد داخلها أي دافع أو أفكار مسنودة فضلا عن الحماس للوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية ومعاداة عدو العرب اللدود الكيان الصهيوني.
يقول الشاعر الشامي: “أعتقد أن صُنّاع السياسات والقرار (الذين أساساً يحكمون الحركات الفنية والثقافية في الوطن العربي) يريدون صناعة وعي آخر، فمثلاً عندما أُعلن عن صفقة ترامب لجعل القدس عاصمةً لكيان العدو الصهيوني، أنتج العربُ أغنياتٍ هابطةً وماسخة ركَّزت على فكرة أن “القدس عاصمة فلسطين”، فقط، دون الخوض في المسائل الهامة الأخرى، ودون التعبير عن وضاعة هذا الصهيوني المحتل! الوعي يحتاج إلى أصوات تتعاطى مع القضية باهتمام وبكل حقائقها، وليس إلى أصوات نشاز”.
من جهته ختم الفنان الفلسطيني حمزة أبو قينص حديثه مع “لا” قائلاً: “نصدقكم القول، نحن بحاجة لكل جهد عربي ومسلم لتبقى القضية حية في نفوس العالم أجمع حتى ننعم برجوع حقنا وأرضنا”.
وتابع: “لكل الفنانين والإعلاميين والمؤثرين في كل مكان، فلسطين أمانة في أعناقكم فلا تتركوها”.